علي المعموري
لا اعرف كم من الوقت مضى دون أن اشاهد فيلما برقي هذا الفيلم.
اتذكر أنني شاهدته للمرة الأولى منذ زمن طويل جدا، كنت طفلا ربما، ولكن بعض مشاهده ظلت عالقة بذهني لثمانية عشر عام تقريبا، كمشهد القاضي رايفورد يتناول غدائه على حافة نافذة مكتبه في المحكمة، أو المشهد الختامي للرائع آل باتشينو جالسا على درج المحكمة، الشمس تجبره على أن يضيق عينيه، بينما شريكه المحامي يدخل، ويحيه رافعا شعره المستعار كأنه قبعة.

ثم سنحت لي الفرصة أخيرا أن أشاهده، بعد أن قبع في الحاسوب لشهرين، فيلم ولا أروع، كل مشهد فيه يجب أن يسترعي انتباهك، لئلا يفوتك تفصيل مؤثر يتلاعب بمشاعرك، لئلا يفوتك تعبير صادق يرتسم على وجوه الممثلين، من باتشينو الذي تكاد تشعر انه سيقفز نحوك من الشاشة كل لحظة.
تدور القصة حول العدالة، كما هو واضح من عنوان الفيلم، المجتزأ من قسم قانوني أمريكي، العبارة الأخيرة منه تحديدا، العدالة التي تقع ضحية القانون المتعنت، والتطبيق الجائر له، بل وفساد من يقوم على تطبيقه(*)، ونبل من يدافع عنها، حتى لو عنى ذلك خسارته لكل شيء له قيمة في حياته، المهم المبدأ.
ما يُلاحظ على حبكة الفيلم، وبناء شخصياته هو انه لم يعتمد مبدأ الثنائية التقليدي، خير وشر، أو بالأدق أخيار وأشرار، فكل واحد من هؤلاء الأشخاص يقبع شر وخير في داخله، والحكم عليهم رهن بالظروف، وملابسات حياتهم، وكيف تجعلهم المآزق الخارجة عن إرادتهم يتصرفون بدون انضباط، يتطرفون، ويرتكبون الجرائم، انه يقوم على نسبية الخير والشر، وضرورة عدم الركون إلى الأحكام الجاهزة، أو التعامل مع الإنسان على أنه خير مطلق أو شر مطلق، ففي كل نفس يمتزج العنصران، ومدى طغيان أحدهما على الآخر يتعلق بالتنشئة، والتجربة، وطبيعة المواقف التي تقتحم حياتهم.
يقدم الفيلم شخصية المحامي آرثر كيركلاند (آل باتشينو)، المستقيم، المسكون بالعدالة، المتعاطف مع موكليه، المندفع في الذود عن الأبرياء لدرجة لكم قاض، الأمر الجلل خصوصا إذا عرفنا إن الحكومة الأمريكية تسمى (حكومة القضاة) لدورهم الخطر في تطبيق القوانين وتفسير الدستور.

ولعل في غياب والدي آرثر عن حياته ــ بل دور والده السلبي ــ أثر في ذلك، لدرجة انه يهاجمه بشدة، لأنه وغد، غاب عن حياته، بينما تكفل جده به، وحرص على أن يصبح محاميا، لأنه آمن أن أفضل شيء يمكن للانسان ان يكونه هو أن يصبح محاميا، وضمن ذلك السبيل حرص على ان يكون لحفيده ضمير، الذي ساعد على تبلوره نقيا في روحه شعوره بالغبن الواقع عليه من والده، وتحمل جده لمسؤوليته، الجد الذي أصيب بالالزهايمر، ويحرص كيركلاند على زيارته اسبوعيا، ليعترف في أحد المشاهد المؤثرة بأن غياب جده عن حياته سيسلب قيمتها، لأنه صار ما هو عليه بفضله.
يقع كيركلاند في نقطة حرجة حينما يبتزه القضاة للدفاع عن نفس القاضي الباطش المتعسف في تطبيق القوانين الذي زج بموكله البريء في السجن، القاضي هنري ت. فلمنغ، (يلعب دوره جون فورسيث)، المفارقة ان الرجل الذي جعل من نفسه قيما على الاخلاق متهم بالاغتصاب والضرب.
عدا كيركلاند الباحث عن العدالة، وفليمنغ المتعسف في احقاقها، يقدم الفيلم مجموعة أخر من الشخصيات تمثل مستويات مختلفة من الطبائع البشرية.
هناك القاضي فرانسيس رايفورد (جاك وارندن)، ذي المزاج الحاد، الذي يستخدم مسدسا في فرض الهدوء في المحكمة، وشخصيته تعكس إلى حد بعيد سلوك الرجل الذي وضعته الأقدار في دور مقرف، دور الحامي للعدالة، الذي يرى عبث ما يقوم به، ويبدي في أكثر من مشهد اشمئزازه من هذا الدور، وعجزه عن تأديته، ويذهب به قرفه إلى ميول انتحارية مدمرة، ذكرتُ تناوله طعامه على حاشية شرفة مكتبه في الطابق الرابع، ومسدسه تحت إبطه، وتصريح كيركلاند لصديقته بأن حاجب رايفورد وجده مرة يحاول شنق نفسه، ثم يتأكد هذا قرب نهاية الفيلم بمحاولته اطلاق النار على فمه من بندقية طويلة، لكنه يفشل في الوصول إلى الزناد قبل ان يدخل عليه الحاجب ليستعجله إلى جلسة افتتاح محاكمة القاضي فليمنغ.

يقدم الفيلم شخصية معاكسة تقريبا لكيركلاند، المحامي وارن فرينسل (لاري برايغمن)، الذي لا يأبه، ويتعامل بمادية مطلقة بحساب الربح والخسارة حتى مع زملائه المحامين، وبسبب لا أباليته، ينتحر أحد موكلي كيركلاند الذي انابه عنه في قضية بسيطة، ولأنه لم يعطها الاهتمام الكافي حكم على المتهم، وشنق نفسه بعد ان وضع في السجن مباشرة، ليقدم باتشينو واحدا من اروع مشاهد الفيلم، وهو يحطم سيارة فرينسل، ويخبره بأن (آغي) شنق نفسه، ودموع حقيقية تنهمر على وجنتيه، بحسرة عميقة، وأداء مبهر يحبس الانفاس.

وهناك ــ من جانب آخر ــ شريك كيركلاند، المحامي جاي بورتر (أدى شخصيته جيفري تامبور، في واحد من أجمل ما قدم من أدوار)، الذي يأبه للعواقب، وينهار بعد ان يقوم احد موكليه ـ ممن استطاع جلب البراءة لهم ـ بقتل طفلين، فصدم بورتر، وأصيب بأزمة نفسية، وتجلت بعدة تصرفات كحلق شعره، وضمن انهياره العصبي ذلك يقدم مشهدا رائعا في المحكمة، بعد أن جلب عددا كبيرا من أطباق الطعام، وتمترس في احد أروقة المحكمة، متخذا منها قذائف يوجهها نحو الجميع، وازاء اطلاقاته المتلاحقة بجنون، وفشل محاولة كيركلاند التواصل معه، فإن من يضع الحل هو القاضي الانتحاري، رايفورد الذي يتخذ من حقيبته دريئة وهو يهجم على بورتر، وخلفه كيركلاند، ثم ينجح بالسيطرة على بورتر الذي هاجمه هو وشريكه بعنف، في مشهد مبهر، تنتقل الكاميرا فيه من المهاجِم إلى المهاجَم، أداء رائع، حقيقي إلى ابعد حد، الأطباق تهاجم القاضي الذي يعرف بؤس ما يقوم به، إلا انه يستمر في محاولات فعل شيء جيد، المحامي المسكون بالعدالة، كلاهما يقدمان نفسهما قربانا في سبيل تهدئة بورتر، المنهار، الذي أقض ضميره ذنب عرضي لم يقصده، كأنه يمثل المجتمع، الذي يهاجم من يحسون به، وهو فاقد للوعي، مع عجز تام للشرطة عن إيقافه، ولا ينجح بذلك سوى القاضي القرف، والمحامي المتألم، مشهد معبر جدا.



لا أريد أن استرسل في تفاصيل الفيلم، إذ يجب ان يُشاهد ليُستمتع به، ولن يكون مناسبا تفصيل فكرته، وشفافيته العالية الموحية، لكني لا استطيع كبح نفسي عن الإشارة إلى بعض المشاهد التي خلبت لبي، وكررت مشاهدتها عشرات المرات، رغم ان الفيلم بطوله يخلب اللب.
منها المشهد الذي يخرج فيه باتشينو (كيركلاند) من قاعة المحكمة، ليجد بورتر وفرينسل بانتظاره وقد ارتسمت على وجهيهما ابتسامة تمتزج بها السخرية، بالاهتياج، بالفرح، بكل شيء، في براعة تامة، ثم نظرته الحائرة، وابتسامته المستفهمة، والطريقة التي صافحه بها بورتر(جيفري تامبور) مهنئا، وعند استفهامه عن التهنئة، سحباه إلى الحمام، واخبراه بان فليمنع مقبوض عليه بتهمة الاغتصاب، وانه يريده هو، ما غيره، ليمثل دفاعه امام المحكمة، وخلال ذلك يستمر بورتر بالضحك بطريقة هيستيرية يكاد ينفجر قلبه معها، لا يمكن لك إلا ان تصدق أنها حقيقية، وان تضحك معه من قلبك، رغم حضور باتشينو، إلا ان تامبور كان ملك هذا المشهد برأيي.


مشهد كيركلاند في لجنة الاستجواب، ثم نجاحه في نيل إعجاب عضوة اللجنة الجميلة غيل بيكر (كريستينا لاتي).

مشهد الشجار في المحكمة، والقاضي رايفورد يطلق النار لفك الشجار، تلك الدهشة التي ارتسمت على وجوه الحاضرين، وطريقة هرب الآخرين، أوقفت المشهد عدة مرات، لأتابع تعبيرات كل ممثل على حدة، أداء رائع حقا.

مشهد الهليكوبتر بين القاضي رايفورد وكيركلاند، وارتعاب كيركلاند الذي نقله لنا باتشينو.
مشهد كيركلاند يحاول إقناع فليمنغ بإعادة محاكمة موكله، في خيمة نصبت على حوض السباحة، المشهد ممتلئ ببخار الماء، كأنه يشير إلى الضبابية وعدم الوضوح اللذات يكتنفان تطبيق القوانين، كيركلاند يتوسل لإحقاق العدالة وإطلاق سراح بريء، القاضي العاتي يسبح غير آبه، وهو يلقي عظة عن خراب المجتمع، وضرورة إيقاع عقوبات ظالمة لردع الآخرين، متفلسفا بأن فكرة تناسب العقوبة مع الجريمة هي غير عملية، العقوبة القاسية هي الاساس، مغادرة كيركلاند خلال العظة الفاسدة هذه، وصراخ فليمنغ.
المشهد الاخير، كيركلاند يقف بكل شموخ على مدرجات المحكمة، الكاميرا ترصده من الاسفل، الحيلة التي يستخدمها السينمائيون للإيحاء بالعظمة، وابهار المشاهد بالقامة التي تسد الشاشة بكبرياء.

ما الذي أفعله؟!
يكفي هذا
شاهدوا الفيلم، أرجوكم
(*) من المفيد الإشارة إلى الفرق الذي يضعه فقهاء القانون بين العدالة، التي تتميز بها قواعد الأديان، والعدل الذي تتميز به قواعد القانون الوضعي، فالأولى تتوخى مراعاة الظروف الموضوعية لكل حالة على حدة، وتطبيق أحكام مختلفة حسب ظروف الوقائع، أما الثانية، فهي صارمة، جامدة، لا تلتفت إلى الظروف التي تخص كل قضية، ليس بذلك التفصيل الذي تفعله الأولى على أي حال، وأول ما تتميز به القاعدة القانونية أنها قاعدة عامة، أي تشمل الجميع، وتطبق في كل الظروف، بغض النظر عن العوامل الذاتية والموضوعية لكل حالة على حدة.
And Justice for All (1979)
Director: Norman Jewison
Writers: Valerie Curtin, Barry Levinson
Stars: Al Pacino, Jack Warden, John Forsythe….
imdb
صور من الفيلم












