رضا

كان الشيخ يقف عند الباب المؤدي إلى رواق أبي طالب الجديد ـ الذي صممه الدكتور ساهر القيسي ـ أسند ظهره على إفريز الباب ، الذي صُمم كشبه دعامة رخامية، تلتوي على نفسها لتنتهي بطرف مسطح حر، استقرت عليه مزهرية جميلة، هناك وقف، أسند ظهره للدعامة، متجه إلى الضريح عبر الباب المقابلة، قصير القامة، وجه ابيض مشرب بسمرة خفيفة، لحية قصيرة بيضاء، شابها بعض السواد من بقايا شبابه، عمامته ناصعة البياض، لا ادري ماذا كان يحمل بيده، أو لعله كان يضع يداه في جيوبه؟ لم أعد أذكر لأنني انشغلت بالنظر إلى وجهه.

كان وجهه البهي يطلق نظرة تجاه الضريح، نظرة عجيبة، عيناه، وفمه، تقاسيم وجهه، مزيج غريب من الرضا، والبكاء، والابتسام، إذا اقبلت عليه لا تعرف أباكٍ هو أم مبتسم، حزين أم سعيد، راضٍ أم راجٍ، فمه كان يتمتم بين حين وآخر ببعض الكلمات ثم يصمت، ليخاطب صاحب الضريح بعينيه وحسب، ابتسامة عميقة من الرضا، دمع محتبس يقف بحياء، لا تكاد تعرف حاله، جلست لحوالي ثلث ساعة أحدق بوجهه من بعيد، ينظر، بتمعن، بتركيز، وكأنه منهمك بحوار عميق، كأن الدنيا كلها من حوله ساكنة، ولا يوجد سواه، هو وساكن الضريح، يتبادلان حديث محتشد، ما كان مرور الزائرين أمامه يشتته عما هو فيه، منغمر برضا عجيب.

جلست هناك، بعيد عنه، وقريب منه، اسائل نفسي عن المرة الأخيرة التي غمرتني فيها مثل تلك المشاعر، وبان على وجهي الرضا والإيمان والطمأنينة مثل هذا الشيخ، فلم اذكر، ولم أعرف أين ذهب ذلك السكون الذي كان يعتريني، مددت يداي اتلمس ذاكرتي، كما يفعل البصير مستهديا طريقه، فما عادت لي كفاي بما اشتهيت، كان في اليسرى فراغ يباب، وفي اليمنى خوف وقلق وشك.

نظرت إلى الشيخ وابتسامته تزداد عمقا، يستأذن صاحبه الإمام بالانصراف، ليخب رويدا، وعيناه على الارض، لا يرفعهما إلا ليعرف طريقه أو ليجد رفيقه، ليتركني هنا، وحدي، مثل ناعور يدور دون فائدة، يحمل الماء من النهر إلى النهر حيث لا أرض لتشرب منه.