المدينة التي تبتعد (4)

علي المعموري

تتمة صور غابت

3ـ حمام جاويد (حمام كله حسين)

كانت فجيعتي الليلة بالحمام أكبر من فجيعتي بتهديمه، كنت التقطت صورة عام 2003 من أعلى عمارة الحاج مسلم حميّد للجزء الجنوبي من طرف البراق المطل على شارع السور، وكنت أحسب أني قد التقطت ضمنها الحمام بقبته ذات القمة الزجاجية المدببة الملونة، لأكتشف ان الصورة لم تظهر الحمام، الذي هدمه أصحابه.

لا أعرف متى أنشئ بالضبط، لم أدون التاريخ المكتوب بالقاشاني أعلى بوابته الخشبية الواطئة، كانت هناك كتيبة من القاشاني كتبت فيها أبيات شعرية تؤرخ على الطريقة القديمة لسنة بناء الحمام، لا أذكر منها سوى الصدر الأول من البيت الأول حيث قال الشاعر (قد بنى جاويد حماماً) ولا اذكر الابيات ولا التاريخ، رغم انه هدم منذ سنتين فقط.

يقع الحمام بالضبط في أول ركن من العمارة الجديدة المحاذية لجنوب طرف البراق، في الركن المقابل لمنزل آل يعقوب غازي السلامي جيراننا الأعزاء في طرف البراق ويمتد حتى قُبيل آخر المربع السكني ويحتل ما يقرب من نصف المربع ذاك، وفي نهايته قبيل آخر الشارع هناك مسجد صغير ملحق بالحمام سُمي أيضا جامع جاويد، ولا أعرف جاويد هذا من يكون، فأرض الحمام ملك لآل الرفيعي، و(الحممجي) الأول له كان (كلة حسين كاشي) وورثه ولده موسى أبو رضا، الذي أدركته ولا يزال حيا اليوم وقد انهكه العمر والمرض.

للحمام قسمين، الأول هو الكبير للرجال، والثاني للنساء، وبجنب حمام النساء منزل ملحق بالحمام.

والناظر له من السور ستبدو له قبته الكبيرة التي تعلو القسم العمومي من حمام الرجال، كأنها خوذة مقاتل خرج توه من كتب التاريخ، كبيرة ذات نهاية مدببة من الزجاج الملون، زجاج نيلي وأحمر غامقين، وقربها قبة أصغر، بذات النهاية الزجاجية تعتلي حمام النساء.

في الركن الغربي للحمام محل شغله أموري ابن موسى (الحممجي) وكان  (يلف ماطورات) وبجنبه محل المرحوم السيد زين العابدين الأعرجي لبيع (الطرشي) بواجهته المميزة، إذ اعتلى (فنره) قوس زجاجي ملون زاهي، وحين وعيت على الدنيا كانت البراميل الزرقاء مرصوفة أمام المحل، يخلل فيها ولده الأصغر التربوي والرياضي المعروف السيد محمد حسن بقامته المديدة التي جعلته رأس فريق كرة السلة في النجف، ثم باب الحمام، وبجنبها محل لم أعد أذكر من شغله، ثم يليه محل كبير شغله (رسول) ابن موسى الحممجي يبيع فيه المواد الغذائية، ثم باب المنزل ذاك، وتنتهي حدود الحمام مع آخر محل أخرج من أرض الحمام، وهو فرن صمون المنتظر لأصحابه السادة البو العبرة سيد رضا واخوته.

أول اجتيازك الباب الخشبي المطلي بصبغ رصاصي نازلا درجة واحدة، ستقابلك باب خشبية نصف زجاجية تلج بعدها إلى قاعة الحمام، لتجد على يمينك (استعلامات) الحمام، يجلس أبو رضا مع مناشفه ووزراته (جمع وزرة)، ثم القاعة التي تعلوها قبة كبيرة، ويتوسطها حوض ماء، وعلى الجانبين دكتين للجلوس قبل وبعد الاستحمام، على يمينك أيضا ممر يمتد طويلا يضم الحمامات الخصوصية، وأمامك مباشرة القاعة الكبيرة، العمومية، التي دخلت لها مرة واحدة في طفولتي المبكرة مع أبي صحبة أخي الأصغر، ولا زلت أذكر البخار الذي يملأ القاعة والمزاح الثقيل الذي يتبادله أبي واصدقائه، وبينهم يجول (فاضل كنوشة) المدلك.

أتذكر أبي وهو يحمل كيسه، وقد لُفت فيه منشفته وملابسه، يخطو إلى الحمام بهمة حين يعود في إجازته من الجيش، وهو يخرج كأصحابه من الحمام وقد احمرت وجوههم من البخار والضحك والدارسين، يعبر الشارع وقد لف رأسه بمنشفته، وغطى أنفه عن البرد، يدلف إلى العكد، وقد تملك دفء الحمام عظامه حتى استغنى عن المدفأة، وأتذكر أصدقائه بذات الصورة، التي بدا وكأنهم أقاموا عهدا غير مكتوب على تكرارها فيما بينهم، طقوس العودة من الحرب أحياء، والاستعداد للإياب لنارها الضارية.

هدم الحمام التراثي الجميل، وضاعت أقواسه المتعانقة كأنها العشاق، بلونها الأصفر الذي يسر الناظرين، تحتضن في جوفها ضحكات الرجال الذي نفذوا من الحرب أحياء، وأصوات خافتة تتردد بوجل بين الصحب المتدثرين بالبخار، إنها أصوات الرجال الذين ابتلعتهم الحرب فعادوا لبيوت أمهاتهم بالتوابيت، ولامست مياه الفرات أجسادهم للمرة الأخيرة على دكة مغتسل الأموات، وليس في (حمام كلة حسين)، ضاعت رائحة الرطوبة الممتزجة بالتراب العراقي، صانعة ذلك النسيم الغريب، الذي تحبه وتألفه، رغم انه دلالة للتلف.

هدم الحمام وما بقيت في ذاكرتي عنه إلا اللمم.

[زودني الاستاذ المهندس الاستشاري تحسين عمارة بالأبيات التي أرخت للحمام وهي:

بنى جاويد حماما جديدا** غنيا شأنه عن كل مدح

يفوق على سواه بكل معنى** ويرفع قدره عن كل قبح

فلو نظرته بلقيس لأبدت** لساقيها وقالت ذاك صرحي

حديث طرزه للناس أرخ ** ( وأما ماؤه للغسل صحي )

[الصورة الرئيسة هي التي تحدثت عنها في التدوينة وتظهر امتداد شارع السور حتى جبل الحويش، بعدستي 2004]

حين كتبتُ هذه التدوينة تأسفت غاية الأسف لأني كنتُ أظن انه هدم دون أن التقط له صورة، ونشرت صورة تأسفت لأنني لم احرف زاوية الكاميرا قليلا ليظهر الحمام ضمنها، واليوم بالصدفة وأنا أبحث عن صورة قديمة اكتشفت أنني التقطت بالفعل صورة ظهر فيها الحمام، قباب الحمام وسطحه وواجهته كلها، وبقدر تألمي لهدم الحمام فإنني سعيد لأنني وجدت هذه الصورة.
تظهر القبة الجصية المخروطية ذات النهاية الزجاجية المدببة التي تعتلي القاعة العمومية في الحمام، وأمامها قبة قاعة المدخل ذات الشباكين الزجاجيين وباب الحمام محصورة بين يسار الصورة والسقيفة التي تظلل محل طرشي السيد زين العابدين الأعرجي، ثم أسواق النبأ ثم باب حمام النساء، ثم فرن صمون المنتظر (فرن السادة آل أبو العبرة) أما البيت الذي أخرج منه محل بواجهة زجاجية فقد هدم اليوم وبنيت مكانه عمارة شاهقة، في الفرع المجاور للحمام يبدو منزل الشيخ نصر الله الخلخالي، الذي سكنه ولده الدكتور المحسن الطيب محمد نصر الله، ثم منزل لآل شلاش وتظهر متوسطة النجف للبنات بشرفاتها الزرقاء وجنبها منزل عبد المحسن شلاش خلفها يبدو الطابق الأعلى من إعدادية النجف للبنات، أما المنزل الذي تتوسطه شجرة سدر خلف الحمام فقد هدم وبني محله فندق كبير عالي، كذلك يظهر منزل التاجر النجفي الكبير عيسى الخلف الذي تم هدمه أيضا، كما تظهر القبة الزرقاء التي تعتلي حسينية الحاج عبد الزهراء فخر الدين، الصورة التقطتها عام 2005 من عمارة الحاج مسلم حميد على السور في البراق، ولو وقفت اليوم ذات الموقف فلن تجد هذا المشهد مطلقا.

الصورة أدناه يظهر فيها الحمام

IMAG0001