إلى صديقي أحمد الراضي.. أن تكون ناشرا بالوراثة، أن تكون مبدعاً بذاتك

 

(1)

بين الحبر والورق علاقة معقدة، بدأت منذ عرف الانسان خطورة الكلمة، وسطوتها إذا كتبت، وبين أول صفحة طبعها يوهان غوتنبرغ، وبين آخر ما توصلت له تقنيات الطباعة اليوم، تاريخ طويل من الحروف التي صنعت الأمم، أثارت الحروب، وشيدت السلام، صفحات أحيت وأماتت، وهدمت وبنت، شرقت وغربت، غزت البيوت والعقول، ملكت الأمم قبل أن تملكها الجيوش، ووسط ذلك كله، كان الناشرون الجنود المجهولين، يعملون بكد، يضعون الطرس على الطرس، يطلون الحجر بالألوان، يصفون الحرف جنب الحرف، يطاولون الليالي بالسهر، يحيط بهم عبق الأحبار الممتزجة برائحة الورق، ينشرون، يسهمون بتغيير التاريخ وبناء الأمم، أو هدمها.

(2)

تعرفت إلى أحمد قبل أكثر من عشر سنوات، دمث الاخلاق، باسم الوجه، كان في أول أيام تكوين توجهاته وأول خطوات طريقه، وقبل أن يلتفت إلى الكتب والمكتبات، واستمرت معرفتي به دون انقطاع.

(3)

يورث الآباء لأبنائهم من شمائلهم الكثير، وجوههم، أصواتهم، مشيتهم، وقفتهم، ورغم كل هذه المواريث المنتقلة بالجينات، فإن أحب ما يريد الآباء أن يورثوه لأبنائهم هي مهنهم وانجازاتهم في الحياة، ولكن في الكثير من الأحيان لا يرغب الأبناء في وراثة تلك المهن في أحيان كثيرة، فيذهبون بعيدا، ثم فجأة يجدون أنفسهم وسط ذلك الميراث الممتد محمل بالفخار، وقد أخذوا بزمامه مثل فارس عركته الحروب، يصول ويجول على ظهر الأصيلة التي يعتلي صهوتها.

(4)

استقرت الأمور في بغداد، وعادت الأسرة إلى عملها الأساس، الكتب والمكتبات، وهنا بدأ أحمد، الكتبي بالوراثة، مرحلة جديدة، أن يكون ناشرا مبدعاً بذاته، فبدأ بدمغ اسم الدار العتيدة على كتب عراقية تخيرها بنفسه، لكُتّاب عراقيين، وجدوا فرصتهم في دار الكتب العلمية، وأحمد وسط هذا كله قطب الرحى، يدور برحلات مكوكية إلى بلاد الشام، ثم ينتقل بمطبوعاته إلى معارض الدول العربية، رائد للدور العراقية، بعزم الشباب وطموح الناشر المثابر، لينثني ملتفتاً إلى حدث هو واسطة العقد فيما يخص الكتابة والكتب، معرض بغداد الدولي للكتاب.

(5)

من حضر معرض بغداد الدولي للكتاب خلال السنوات الماضية، وقارنه بمعرض هذا العام، سيلمس بنفسه حجم التغير الكبير، سيجد روح أحمد الراضي الشاب تطوف على المعرض، تمنحه سحرا كالموسيقى، يتلألأ بالمشاركين، بالضيوف، بزوار المعرض، بالكهول يمشطون ممراته بأرجلهم التي أنهكها العراق، الشباب المتطلعين بانبهار، الجميلات تقبل أعينهن الكتب، بالأطفال، تمتلئ ذاكرتهم بصفوف متراصة من الطروس، ورائحة الورق المعطر بالحبر تمتزج بالعطور البشرية، بعبق القهوة، بالألوان المتماوجة على البشر والحجر، ليتسرب هذا الخليط العجيب فيمتزج بالأصوات المتشابكة المتصاعدة إلى الفضاء الأعلى، كأنها ابتهالات المتصوفة تتراقص مع النسمات العذبة، تُحدِث أملا وتشع ضياءًا أخضرا يتقاطر إلى العيون الوجلى، كان المعرض تظاهرة كبرى، مفرحة مبهجة، وكنتُ كلما رأيت أحمد الراضي في المعرض قلتُ له من قلبي: شكرا أبو شهاب.

(6)

أحمد الوسيم، الأصيل، المبدع، النشط، فخور بمعرفتك.