أرشيفات التصنيف: مساحة شخصية

في استحضار وديعة الطريق

(1)

لا زلت استعيد ذلك الطفل، اذكر أبي بشكل جيد في مثل هذه الأيام مطلع تسعينات القرن الماضي، دشداشة رصاصية، ويشماغ أحمر حول عنقه، يلف عبائته الوبر البنية الفاتحة تحت ذراعه، تُجهز امي وعمتي طعام رحلته السرية نحو المحبوب القتيل، خبز من يدي جدتي، بيض مسلوق، طماطم وبعض الفجل، يقمن بلفهن بحرص، لف الطفل في قماطه، يحمل أبي الكيس، ويخرج متخفيا، قاصدا كربلاء مشيا على قدميه، بيادة، بين ظلال النخيل، بعيد عن الأعين المتوثبة لاعتقال كل من يجرؤ على المسير، وأنا، الطفل المطمئن لما يسمعه من أهله، أحلم أن أكون معه ذات يوم، ابديت رغبتي وقتها برفقته، بشجاعة لم أعهدها يوما معه، لا قديما، ولا اليوم، فكان الرفض القاطع الخائف جوابي، إذا ذهبت أذهب وحدي، لا يعتقل طفل معي، وبقي الحلم غض لسنوات طوال مرهقة بعدها، سنوات طويلة، لم يأزف تحقيقه حتى صرت شابا ناهزت العشرين، وحتى امتلأ الطريق عام 2003 بالناس، يمشون جهارا لا يتسترون ولا يتخذون طريق أبي القديم، تحت ظلال عماته نخلات الفرات.

(2)

أيها السائرون رويدا، “خففوا الوطء”

هذا الطريق مفروش بقلبي

الذكريات الطرية

والنوايا البريئة التي كانت تغتسل بالصدق

الأحلام التي كانت تحمل آمالا عراض

ووعود بسعادة الدارين

نية نظيفة

ورجاء بعيد لا ينطفئ ضوؤه، أو هكذا ظننت تلك السنوات

تلك الليالي المتسترة الخائفة، كانت تحمل ظنونا عطرة، كلها طمأنينة

السكينة التي أردتها، وآمنت بتحققها يوما

حين غادرتها وغادرتني، أودعتها أمانة على هذا الطريق

لعلي..

لعلي استعيدها يوما، طاهرة كما كانت، بريئة كما استودعتها، على حواف الطريق الذي تضربه أرجلكم اليوم.

(3)

بثياب سوداء، خرجنا عام 2003 تحت ذات الرايات المخبئة منذ آخرمسير عاصف عام 1977، يظللنا صوت الرادود وطن رحمه الله، يشدو لعودة الأهل إلى قتلاهم يوم الاربعين، من شعر عبد الحسين ابو شبع، الباكي:

من يوم عنك مشينه

لليوم والحرگة بينه

خرجنا من طرف البراق نحو الصحن الحيدري، نودع الأب في مسيرنا نحو الابن، خرجنا من “العگود” التي استيقضت بعد غفوة وتستر، دلفنا إلى شارع الصادق، ثم نحو الصحن، استدرنا عبر شارع زين العابدين وصولا إلى “الگراج” القديم، لنتفرق كل يسري بسبيله نحو الموكب الذي نصب على عجل في خان الربع، بت ليلة يتيمة هناك، ثم عدت لمواصلة المسير صحبة أبي الذي كان يركض في مشيه كعادته، احاول مجاراته، وهو يسخر مني قائلا: (امشي، كنت بعمرك انهب الطريق مشيا كسيارة شوفرليت)، وكنت أشعر أنه يريد أن يصل بأسرع وقت، شوق ولهفة للراقد في كربلاء.

(4)

كان اصطفاف موكب أهل النجف نهار الاربعين مهيبا، الرادود ابو حبيب، طاهر أمين شلاش، يدور على الجوقات واحدة واحدة، يعلمنا كيف نردد “المستهلات” التي كتبها الشاعر علي التلال رحمه الله، بوزن ثقيل، لم تعتد اسماعنا الغضة اداءه بعد، يستعيده مرارا حتى نحفظه، ونحفظ اللحن، في مقدمة الموكب جوقتان لكبار السن، ووجهاء النجف، يرددون بيتي شعر للمرحوم عبد المحمد، بالفصحى، ذات الابيات التي كانوا يرددونها طوال تلك السنين المنصرمة، علنا، ثم في قلوبهم منذ السبعينات:

إن أبناء أمير المؤمنين

زحفت للسبط يوم الاربعين

فيجيب الاخرون:

نتحدى الموت في مر السنين

نبذل النفس فداء للحسين

وحين وصلنا باب القبلة، ترك الجميع الشعر، وأخذوا بالصراخ يا حسين، والأكف تهوي على الرؤوس، والدموع مدرارة، لا اذكر أنني بكيت بحياتي مثل بكائي تلك السنة، قلب عامر بالرجاء، والحزن، والطمأنينة، والتطلع نحو المستقبل المرتكز على جذر عميق، كانت آخر مرة يقرأ فيها وطن للاربعين، بعدها توفي سعيدا.

(5)

أيها السائرون، تركتُ طريقكم منذ سنوات للزوابع التي في صدري، ولكن قلبي مودع على الطريق، لعلي استعيده منكم ذات يوم، رويدا رويدا، الله الله بنوايانا وقلوبنا الكسيرة التي ترافقكم، الله الله بذاكرتنا التي اعطبت، ولمّا تزل غضة على الطريق، كلها رجاء..

الفسنجون، أكلة بروح امرأة

قبل البدء

يجيد الرجال صنع الأشياء في أكثر الأحيان أفضل من النساء، لكنهم لا يستطيعون أن يحبوا تلك الأشياء الجيدة، أو أن يتركوا فيها شيئا من ذواتهم، كما تفعل النساء مع الأشياء اللاتي يُجدن صناعتها.

أيضا قبل البدء

تصنع أمةٌ ما شيئا، لنقل نوع من الطعام، فتأخذه أمة أخرى، وتجوّده، وتحسنه، وتمنحه روحا جديدة ومذاقا أكثر حبا ودفئا، مثل الفسنجون، الذي صنعه الإيرانيون، وجوّده النجفيون غاية التجويد.

ما عرفت أكلاً يتطلب وقتا طويلا ومهارات خاصة، وكلف باهضة، مثل الفسنجون في النجف، تعمد المرأة إلى إعداده فتطلب حب الرمان المجفف ـ وتستصغر قدر من تشتري ماء الحب الجاهز لطبختها ـ والراشي – عصير السمسم ـ من أجوده، والجوز، وتفضل لحم البط لما فيه من دهن، ومستلزمات أخرى غالية الثمن لا أكاد استحضرها اليوم.

ثم تنفق ساعات طوال في غلي حب الرمان، وعصره في كيس من الخام، وساعات أخرى في مزج المكونات بدقة وخبرة، بعين لا تخطئ، ولا تستخدم الميزان لإضافة المكونات.

وتراقب المرأة القدر لساعات أخرى، كأنها تراقب رضيعها، تشمه، تتذوقه، تحرص على تشكله في قوام معين ، بعض النساء النجفيات يخزنَّ بذور الرقي – البطيخ بلهجة غير العراقيين ـ فتقليه بدون دهن، وتطحنه ناعما، وتضيفه حتى يصل القوام لحد ترتضيه.

لا تكاد المرأة تبارح مطبخها حين تعده، ينتهي يوم كامل في طبخ هذا الطعام الذي لا يعرفه غير أهله، ولا يقدره غير بنو المدينة التي تجيد طبخه، وآخرون ممن يفدون على أهلها، أكلة الملوك، هكذا يسمونها.

أجد البعض يذكر أن فلانا من الرجال يجيد طبخه في المطعم الفلاني، فلا أصدق قولهم، ولا أرغب حتى بإقامة دليل عليه، لأن لي في هذا النوع من الأكل رأي أزعمه.

إني أرى أن هذه الأكلة مما تختص بصنعه النساء فحسب، لأنها تحتاج رعاية كتلك التي تمنحها الأم لطفلها، ولا يجيد الرجل تلك الرعاية مهما بالغ، يعرف الطفل أمه من رائحتها، وتعرفه منها، ولا يكاد الرجل يستطيع أن يتحمل بكاء الرضيع ساعة، في حين تسهر أمه معه ليالي طوال، حتى تبكي معه عاجزة عن فهم ما يريد، فيتبسم في وجهها، لتنسى ألم السهر، ووجع الليل كله، فتضحك ملئ روحها جذلا بالمبتسم الباكي بين ذراعيها.

للفسنجون روح امرأة، بذلت وقتا في إعداده لأسرتها بحب، راقبته يتشكل ويأخذ قوامه المتين ساعة تلو ساعة، حتى نضج، كما ينضج الطفل عقب سنوات تربيته، تقوم المرأة النجفية عليه كما الطفل، شدة حيث ينبغي، ولطف حيث يستحق، ورعاية دائمة وعين لا تغفل عن المراقبة، حتى تضع فيه من روحها شيئا، فيتجلى بلونه البني الغامق، ورائحته المميزة، تضعه على المائدة وتراقب قسمات وجوه المستحسنين، كأنهم يقولون لها أحسنت التربية، أو أحسنت الطبخ.

للفسنجون روح امرأة، ولا يجيد الرجل بث روحه فيه بحب، كما تفعل النساء، لهذا أقول للسائلين عنه من غير أهل المدينة الصلبة الغريبة المزاج، لا تتعبوا أنفسكم في طلبه عند أهل المطاعم، هذا أكل تطبخه النساء، في البيوت، لتكون له رائحة البيت، ومحبته الوالدة، وعاطفة المرأة، ورقة الفتاة الناهد، إنه طفل يحتاج لأسرة تحتضنه، لأم تناغيه وتسهر عليه، وليس لأب متجهم يقيس كل شيء بالمسطرة، للفسنجون روح امرأة، لا يصلح بدونها، ولا يستقيم.

هذه أكلة لا تتعلمها المرأة من اليوتيوب، إنها مهارة تكتسبها من أمها، كما تكتسب طباعها وسجيتها في الحياة، هذه أكلة حسيّة لا يحسن العقل صنعتها، إنها تعتمد العاطفة، الحب في موازنة مكوناتها وتشكيل كينونتها، إنها روح لا تنضج بدون حب خالص لا تشوبه خشونة الرجال وغلظتهم، للفسنجون روح امرأة، لا يصلح بدونها ولا يستقيم.

الدكتور صائب الكيلاني

 

 

(1)

ساعة على الأقل، أحدق في لوح أبيض أمامي، ولا أعرف بم أبتدئ الحديث عن أبيض القلب الذي رحل سريعا، وترك لنا سواد تتشح به قلوبنا، جزعا عليا، سواد كثير…

(2)

ربما تعرف عليه الكثيرون بوصفه طبيب، جراح ماهر، يصارع المنية دون مرضاه حتى يسلمهم ليد العافية، بإيمان عميق يتملك روحه، بابتسامة توشّح وجهه البهي، وقامته الوسيمة، بمظهر الطبيب المهيب على ما كان عليه الأطباء، وبالانضباط الاخلاقي اللازم لسليل الأسرة العلوية ذات السيادة والرياسة الدينية، ودقة ابن الضابط الحقوقي الذي نفاه البعثيون خارج بلده بعد انقلابهم الثاني، على عبد الرحمن عارف، أما أنا، فقد تعرفت عليه بصورته الثانية، نعم، بانضباطه، بدقته، بثقافته، بهدوئه وقدرته العجيبة على احتواء الغاضبين، ولكن ليس بوصفه طبيب، بل بوصفه رجل المجتمع المدني، والمفاوض المعتمد دوليا، ورئيس لمنظمة مختصة بالسياسات العامة.

(3)

كان اللقاء الأول في أربيل عام 2012، كنتُ في سنتي الأولى للماجستير، زجني أستاذي الدكتور عماد الشيخ داود في الدورات الأولى لتكوين كادر لمنظمة دار الخبرة، بوصفها بيت مختص بالسياسات العامة وصنع القرار، كان الدكتور أحد المحاضرين، ورئيس المنظمة، طول فارع وقامة متينة البنيان أفاضت عليه وسامة لا تخطئها العين، ولا تضيف لها أناقة ملبسه كثيرا، فهو وسيم بكل حال، نظرة مطمئنة مهيمنة يطلقها نحوك من خلف عويناته، وعلى صدره تدلت عوينات القراءة، يمزج حديثه في السياسات العامة للشأن الطبي في العراق بالنكتة، وبالكثير الكثير من المعرفة، والتجارب الشخصية المثمرة.

(4)

في بيروت، كنا نتمشى سوية في شارع الحمراء، هنا بدأت استكشف صائب الكيلاني الإنسان، النبيل المتواضع، نتمشى، أوقفني عند رأس أحد الشوارع النازلة من الحمراء باتجاه الجامعة الأمريكية، امسك كفي وانحدر بي في الشارع بحثا عن محل دخله عام 1973، كان يجلب قماشا فاخرا ويخيطه في لبنان، ووجده، عبد الله فريج ـ على ما اذكر ـ حين دخلنا واشترى سترة للذكرى، ووجدني مهتم ببدلة معينة، انتحى بي جانبا وأعطاني نصيحة أب لابنه، قال: بني، أنت في مقتبل حياتك، كن حريصا على ما تكسبه، لا تشترِ من هنا شيئا يمكن أن تجده في العراق أرخص وأجود، اسمع من عمك…

لاحقا، حين كنت أساعده في حزم حقيبته، قال لي، هل تعرف كيف تحزم السترة الرسمية في الحقيبة؟ قلت له علمني أبي، قال وهو يربت على كتفي: مع ذلك، تعال أعلمك، هكذا…

هذه الأشياء البسيطة التي يعلمها كبير ذو تجربة لشاب بعمر ابنه، هي أثمن ما يبقى في الذاكرة، الأشياء البسيطة المتعلقة بالحياة، وإدارة الشأن الشخصي، هي النابضة أبدا.

(5)

لعله كان أول طبيب جاء بزراعة الكبد للعراق عقب تدربه في ألمانيا وبريطانيا، وحين كان مديرا لمستشفى الكاظمية التعليمي المرتبط بجامعة صدام وقتها ـ النهرين اليوم، جامعتي ـ حدّثني مرة عن استخفاف السادي عدي بن صدام بالدنيا وبالمستشفى وقتها، يقول أنه كان يدخل عليه الرجل القبيح المنظر والمخبر، بيده ورقة مقصوصة من علبة سجائر، كتب عليها يصرف له كذا من ملايين الدنانير، بتوقيع عدي، الذي لم يكن له رفضه، فكان يأخذ الورقة، ويستنسخها عشرين نسخة، ويرفق أمر الصرف بنسخة منه إلى، فيبدأ من سكرتير الرئيس، ورئيس الديوان، ومدير المالية، وصولا إلى وزيري الصحة والتعليم العالي.

فصرّها السادي له في نفسه، واتخذ من مشكلة لا شأن له بها ذريعة ليرسل له قاضي بغداد الشرعي، وقاض مدني، وضابط كبير ليحققوا معه بشأن مريض اشترى عصارة كريم من خارج المستشفى، ولولا صدقه، وبعض من تاريخ العائلة المحترم، لكان ضحية من ضحايا عدي.

بعد الـ2003، في الأيام الأولى للفوضى، خرج اطباء مدينة الطب العريقة بتظاهرة يطالبون الامريكان بتوليته إدارة المستشفى، فكان أهلا لها، ومقتدر عليها.

(6)

حين هدد عام 2006، وكان لزاماً أن يبارح بغداد، لم يذهب بعيدا، حمل حقائبه إلى أقرب مكان آمن يستطيع العراقيون الوصول له، ذهب إلى أربيل، سألته مرة لماذا لم تترك العراق وأنت القادر على العمل في أي مؤسسة طبية غربية تريد؟ قال: ومن يبقى للمساكين العراقيين هنا إذا هربنا كلنا، وجدت أربيل أقرب مكان استطيع منه خدمة أهلي، وبعد صمت قليل أردف: لقد ضيعنا الكثير من الاطباء، لدينا ثلاثة آلاف طبيب استشاري في لندن، أعلى مرتبة طبية، من جانبي، استطعت أن أقنع 7 منهم بالرجوع والعمل في أربيل، ليخدموا الناس من هنا.

حيث تحرك، وأنّى ذهب، كان العراق حاضر في عينيه، وشاغل لباله، حين انتقل لأربيل بقي يدفع إيجار عيادته في الحارثية لمدة، وكان يرسل المبالغ تلو المبالغ لمساعده المرحوم عدي الجواري، يعطيها للعوائل الفقيرة التي يعرفها.

(7)

اخبرني أنه كان ضمن الفريق المفاوض الذين اختارتهم منظمة دولية للقاء القذافي وإقناعه بتجنيب ليبيا الكوارث المحتملة على إسقاطه بتدخل خارجي، كان مسترسلا في الحديث عن بعض ذكرياته السياسية، وما لاقاه في حياته، وبعض الأسماء التي عاشرها وخبرها، قلت له دكتور، لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية؟ ميراثا تاريخيا للأجيال، فضحك بدفء، وربت على كتفي وقال يمعود مشاكل، قل يا الله …

كان ذلك في المرة الأخيرة التي التقيته فيها، وصحبنا إلى مجمع ضخم ـ لعل اسمه أبو شهاب ـ كعادته حين يدعو أحبته الزائرين لأربيل ويصلهم ودادا وكرما.

(8)

ذوق رفيع، علاقات في المجتمع الثقافي والفني ناهيك عن المجتمع الطبي، مرة كنا في عيادته في بغداد، نظر إلى لوحة على الجدار، وقال كنت ناسيا لها، اهدتنيها وداد الأورفةلي، ولا أدري أين صفى باللوحة الدهر.

(9)

مثل الأولياء ذوي الكرامات، كان الحناء على باب عيادته، على عادة العراقيين مع من يكون سببا لبرئهم من أوجاعهم، أن يخضبوا بابه بالحناء، وكذلك كانت بابه، تعلن عن طبيعته، طمأنينة وشفاء على يد النطاسي الخبير، الضاحك، الودود.

(10)

عاجز عن تنميق كلامي أيها الراحل الكبير، عزائي الخالص لأولادك محمد وحسن وحسين، لأستاذي الدكتور عماد الشيخ داود، صديقك، لأهلك، لكل من يحبك، لكل من عرفك وعرف سجيتك النبيلة، وسعيك في حوائج الناس، وعفة ضميرك، وبذلك للمحتاجين، ومسارعتك في كل مكرمة، لي، أنا الذي طالما دافعت عني، ووثقت بي، وداعة الله دكتور، لك، عليك، في قلبي حسرة لا تمحوها الأيام، ولا تنسينيها الحوادث…

لذكرى الدكتور صائب الكيلاني، الذي توفي يوم الاحد 6/ 12/ 2020

الصورة: تجمعني معه وهي من اليمين، علي، د. عماد الشيخ داود، د. صائب الكيلاني رحمه الله، عدي الجواري رحمه الله، أربيل 2016

 

خضير جلعوط

(1)

في الظروف الطبيعية، حينما لا تكون الحروب قد سلبت النظام الاجتماعي ـ وحدات النظام ـ اتساقها، ولا يكون هناك حاكم دموي يصادر آمال الناس ويستنزف ألفتهم، أو معتوه يؤمن بضرورة سفك الدماء قربانا لفكرة يراها مقدسة، وحين تنفذ العائلة من كل هذه المصائد ـ وهي مصائد صميمة في حياة كل أسرة عراقية ـ في مثل تلك الظروف، فإن وجه أول رجل يألفه الطفل يكون وجه أبيه، ربما اخوته من بعده، ثم وجوه اصدقاء والده، وفي الحروب والمعتقلات والمعارك العقائدية التي نفذ أبي منها سالما بجلده، وقد حرثت في روحه حقولا من الأسى لمّا تنمحي، فإني تعرفت على وجوه أصدقائه صغيرا، أنا ابنه البكر، وهو وحيد أمه، أبي من أعنيه، فكنت انتقل بين أذرعهم، تداعبني ابتسامات المحبة المنثالة من وجوههم التي أرهقتها الحروب، وأضناها العمل الشاق، وأنهكها الحزن، والوجل.

(2)

خضير جلعوط، قلها بملئ فمك، وأطلقها كقذيفة مدفع، في العراق، لا نلفظ الاسم كما هو في الفصحى، أعني (خُضَيْر)، بل نقول (إخْضَّيِّر) نكسر الألف، ونسكن الخاء، ثم نفخم الضاد والياء إلى آخر المدى، ونطلقه، رصاصة مسرعة ثابتة، وبالنسبة لأبي الياس ـ كل خضير عندنا مرتبط باسم خضر الياس، فنقول لمن اسمه ياس: ابو خضير، ومن اسمه خضير: ابو الياس ـ بالنسبة له، فإن قوة اسمه مرتبطة بقوة اسم جده الذي اتخذته العائلة لقبا ـ اسم ابيه: تركي ـ نقول: خضير جلعوط، فتشعر أن للاسم وقعا، وجرسا، ومهابة، وحين تتفرس في وجه صاحبه، الأسمر، حاد الملامح، بشاربه الرفيع، وعينه الخازرة ـ يخفض حاجبه بطبيعته لا تكلفا ـ بذقنه البارز نحوك، وعيناه المقتحمتان، ينزل من مقعد السائق في سيارته طراز (OM)، ثم من سيارته (التريلة) طراز (مرسيدس اكتروس) التي نسميها في العراق: (ألبي)، حين تشاهده، بدشداشته الزبدة، وكفه الغليظ، مقرونا باسمه العاصف، تقول في نفسك: إن هذا لرجل صعب، شديد، قوي الشكيمة، مهاب الجانب، وهكذا كان.

(3)

يرتبط وجهه في ذاكرتي بصورتين أساسيتين، طفل، يحدق هو في وجهي مركزا، يستمع لي، ربما كنت أسأله، ربما كان يحدق بوجه ابن صاحبه، الذي يرتبط معه بصلة نسب ـ جده، خال جدي، لهذا كان أبي يضايقه مازحا بمناداته: خالي ـ لا اذكر لماذا كان ينظر لي، وقد خفض حاجبه الأيسر، مركزا في وجهي، بملامح ساكنة، لا تعبير في وجهه سوى التماعة في العين، لعلها فيض من المحبة الخبيئة خلف هذا الوجه ذل الملامح الصلدة.

أما الصورة الثانية فقد كتبتها قبل سنوات وأنا استعيد ملامح مدينتي التي ابتعدت عني، استذكر صور من أحبهم واحدا فواحد، والأماكن التي شغفتني وقد صارت طللا، أثر يتلو أثر، كنت اتحدث عن (سبيل عمران) المنصوب على السور، قرب بيتنا في طرف البراق، كتبت:

(وأغرب ما علق بذاكرتي عن ذلك السبيل أنني طوال عمري لم أشاهد أحدا يضع الثلج فيه، إلا مرة واحدة، شاهدت من بعيد (خضير جلعوط) صديق أبي الحميم ومعه صديق آخر لا أتذكره اليوم، فتحا غطاء السبيل، وأخذا يكدسان قوالب الثلج في جوفه، ثم أحضرا بطانية ثقيلة، ولفا بها الثلج، لتزداد حيرتي، كيف يُلف الثلج بهذه القذارة ويفترض بنا أن نشربه، كنت متحيرا، فذهبت لأتساءل، لا أذكر أذا كان أبو حيدر (خضير جلعوط) هو من رفعني لأستكشف داخل السبيل أم رفيقه، بل أني لا أذكر إذا كنت قد رفعت غطائه مستكشفا بنفسي أم أن ابو حيدر هو من وضّح لي الأمور، لكن الحيرة تبددت ساعتها، واكتشفت أن نظام مياه السبيل الأسطوري ما هو إلا أنبوب حديدي طويل، التوى على نفسه مرارا وتكرارا، حتى غدا كجوف الإنسان، كأمعائه الملتفة على نفسها، تديم حياته ما بقيت نشطة الالتفاف، وأن الثلج المكدس فيها يعمل على تبريد الانابيب، والمياه تسري فيها، فتخرج مثلجة تبل عطش الشاربين).

بهذه الكيفية، ارتبطت صورته في ذاكرتي، يقوم بالمهمة الأقدس في محيطه الاجتماعي: سقاية المياه للظامئين، تقربا للقتيل الظامئ قبل ألف ونصف الألف من السنين، النابض في صدور هؤلاء العراقيين ما بقوا.

(3)

كان واحدا من أبطال طفولتي، بصوته المجلجل، بالنكتة الحاضرة التي تجتاح وجهه بضحكة تطفو فوق قسوة السنين على محياه، حتى تضيق لها عيناه، وتشعر معها أنه يضحك من جوفه، كأنه لم يضحك من قبل، كأنه بحاجة ماسة للضحك كغريق يلاحق الهواء النزر من حوله، يرفع كتفيه العريضين حتى يقاربا رأسه، ثم يسكت، ويستعيد وجهه تلك الصرامة الحزينة، قبل ان يطلق نكتة اخرى، وحديث آخر.

(4)

كان يخب بمشية (الأشقيائية) القدامى، يرقص شعره الرمادي مذ وعيت عليه، وقد باعد رسغيه عن بدنه، ولوح بهما يمينا وشمالا مع خطوه الوئيد، وجسمه الرشيق، لا ادري لماذا علق بمخيلتي أنه كان يمشي خفيض الرأس، على الرغم من مشيته الفخورة المقتحمة المنذرة بجرأته وشجاعته، لا أدري لماذا.

(5)

كل من عرفه يدري أن هذا الشجاع لم يؤذ أحد يوما، ولم يغدر بأحد، ولم يقصر في نجدة قريب أو بعيد، ولم يخن أمانة، أو يعتدي على ضعيف، كان أريحيا، أبو نخوة كما نقول هنا، جرّب أن تطلب منه شيئا، وستجده يهب كصقر لعونك، كان وفيا، أمينا، طيب القلب، صافي السريرة، بدأ شبابه كما بدأه مجايلوه، وأنهاه كما قلت عنه، بأوبة إلى ربه، بيقين وتسليم، ورضا صرت أحسد كل من نزل في قلبه مثل ذلك الرضا والتسليم.

(6)

لم يتزوج، بقي مع أمه وأخته يرعاهما، ثم أخذ ابن أخيه عبد، حيدر الجميل الأشقر، وقام بتربيته كأنه ابنه، فكنا لا نناديه إلا (أبو حيدر)، وكان حيدر إذا تحدث وقال أبي دون إضافة فهو يعني عمه خضير، وإذا أراد التخصيص قال: أبويه عبد، وآخر أمره، كتب بيته وسيارته باسم حيدر، ولده الذي ربّاه وعلمه وصار رفيقه وصديقه في حله وترحاله، يصحبه حيث ذهب، يشتري له الجديد من الملبس قبل أن يشتري لنفسه، ويعده ليتكأ عليه في شيخوخته.

(7)

هذه الوجوه، هؤلاء الاشخاص، صورة طفولتي، النجوم التي غمرتني بالضوء صغيرا، كنت أشعر بالأمن لرؤيتهم قربي، كانوا طمأنينة لي، ظل نشأت في برده، الندى الذي بلل هجير هذه الأرض، وهوّن أيامي فيها، وجنّب الطفل الذي كنته التعرف المبكر على قسوتها، كلما غاب وجه منهم، شعرت بثلم في الروح، ووجع يغرز جذره عميقا في ذاكرتي، ليستمر في النمو كنبت شيطاني، تسقيه هذه الارض وتتعهده بالغذاء كل ساعة.

(8)

عمي ابو حيدر، سمعت برحلتك الأخيرة أيها السائق المترحل، إلى مستقرك الأبدي، وأنا في بغداد، بعيد عن الدار والديار، لا أذكر متى رأيتك آخر، مرة، لكنني أعرف أنني سأفتقدك ما حييت، متذكرا صوتك الجهوري المجلجل مرحبا بابن صاحبك: هله عمي علاوي.

وداعة الله ابو حيدر.

لذكرى العم أبو حيدر، خضير تركي جلعوط، جار العمر في طرف البراق، صديق أبي، وقريبي الذي توفي يوم السبت، 27/ 6/ 2020، في النجف، فضلت وضع صورة له وهو في أوج عافيته، صورته آخر ايامه، بالعقال، بعينين غائرتين، ووجه غائم بالقلق والحزن، وبعصا في يده يتوكأ عليها تؤلمني رؤيتها..

29/ 6/ 2020

عن رمضان الذي افتقد

 

ارتبط رمضان في ذاكرتي بأمور خاصة، أسرية، وأمور عامة شاركت فيها أبناء مدينتي الآخرين.

كنجفي، كان صوت محمد عنوز، مؤذن الروضة الحيدرية ملازما لكل حدث ديني كبير يستلزم دورا لصوت مؤذن العتبة ينطلق من المأذنة، وشهر رمضان كان في طليعة تلك الاحداث.

كان صوته يبدأ أواخر شهر شعبان، يهلهل معلنا نهايته وقدوم أخيه: مرحبا مرحبا يا شهر رمضان، مرحبا مرحبا يا شهر الطاعة والإيمان… ثم يدور القمر في مداره ويهل مؤكدا وصول شهر الصيام، ليبدأ الصوت الرخيم بتشكيل ذاكرة الطفل الذي كنته عن الشهر الأهم في دين المسلمين، شهر رمضان.

كان صوته إيذانا بانتهاء النهار، يجلب معه المغرب كهدية، مؤذنا، أول عرى الفرح التي يمسكها الصائمون، ليهرعوا إلى إفطارهم وصلاتهم.

ثم، وما أن يستريح القوم، ويأخذون بالانسلال إلى الولاية ـ المدينة القديمة ـ ساعين نحو قبر الإمام علي، يجتمعون كلٌ لشأنه وربه، يبدأ صوت محمد عنوز بالانهمار كالغيث على المَحْل، من مأذنة العتبة العلوية، ينساب رخيما، عميقا، مهيبا، يسلك طريقه نحو الأفئدة الوجلة، يتخطى الأصوات المتزاحمة كأنها غير موجودة، يعزل السامعين عن الصخب الذي تزدحم به دنياهم، عن الحصار الذي يضرب معايشهم، والبطش الذي يهيمن على حياتهم، وعيون عناصر الأمن التي تترصد تهجدهم عند علي، صاحب طمأنينتهم.

كان يبسمل، ثم يسدر في قراءة دعاء الافتتاح: اللّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ…

كلمات تسلك دربها للقلوب لتحييها، ترويها بعد ظمأ، تؤمنها بعد خوف، يرقق صوته، يمد حروف الدعاء بشغف، حتى يصل إلى ذلك المقطع الفخم: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يُهْتَكُ حِجابُهُ، وَلا يُغْلَقُ بابُهُ، وَلا يُرَدُّ سائِلُهُ، وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ.

الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُؤْمِنُ الخائِفِينَ، وَيُنَجِّي الصَّالِحِينَ، وَيَرْفَعُ المُسْتَضْعَفِينَ، وَيَضَعُ المُسْتَكْبِرِينَ، وَيُهْلِكُ مُلُوكا وَيَسْتَخْلِفُ آخَرِينَ.

يقول، ويهلك ملوكا ويستخلف آخرين، يمد حروف المد في الجملتين مدا، يبدوا فيه صوته متسربلا بإصرار عجيب، كأنه قادم من عالم آخر، ملكوتي، يخبر المتوجسين بأن لا ظالم يدوم، ولا حال يخلد، فكانت الناس كأنها ترفع اعينها لصورة الجلاد المعلقة عنوة في الروضة، مطمأنة لمصيره القادم.

ثم تؤوب الناس إلى دورها، منتظرة صوت محمد عنوز في السحر، يدعوا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ بَهَائِكَ بِأَبْهَاهُ وَ كُلُّ بَهَائِكَ بَهِيٌّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِبَهَائِكَ كُلِّهِ.

لينذرهم بعدها بقرب طلوع الفجر وموعد الامساك، منغما ارجوزة رمضانية: إشرب الماء وعجل قبل أن يأتي الصباح… حتى يقول: لا تشرب، فتمسك الأبدان عن شرابها ومطعمها، بانتظار يوم متعب آخر من الصيام، حتى ينقضي الشهر، فيأتي صوته باكيا في أيامه الأخيرة: الوداع الوداع يا شهر رمضان، يا شهر الطاعة والإيمان…

أقصي الرجل من مكانه لاحقا بعد ان راح رعب صدام عن البلد بسنوات، اقصي لمزاج شخصي بدا وكأنه مدفوع بكره النجف، أهلها، لا أكثر، ولم يترك بابا الا وطرقه ليعود، باكيا متحسرا لمجلسه تحت مأذنة علي، دون فائدة، فرضي بأن يرسل صوته عبر مقام آخر في النجف.

كل رمضان فاتني بعيدا عن صوته العذب لم يلمس خلجات روحي، لم يمر عليّ رمضان منذ ذلك الوقت كعذوبة أيامه السابقة، سواء حين كنت مطمئنا بإيماني، أو حين سكنني القلق فيه، فصرت لا أكاد أقر لقرار، أو يخبو لنار قلبي أوار، يا لأيام الطمأنينة تلك، “بعت منها باللجين الذهبا” كما يقول #محمد_سعيد_الحبوبي.

كل رمضان خارج تلك المدينة العتيقة، خارج بيتنا القديم في طرف البراق، كل شهر، ليس كتلك الشهور، لا يمنح قلبي السكينة، التي فقدتها… ولن تعود.

في استقباله…

علي عبد  الهادي المعموري

هل هو ابن التطور الطبيعي أم هو سلاح مصطنع؟

لا يهمني، حقا لا يهمني، لا آبه مطلقا، وإن كنت في قرارة نفسي موقن أن الوجود في الطبيعة كله قائم على توازن دقيق، توازن مذهل بالنسبة لي، معزز لقناعاتي الايمانية الخاصة ـ لن اتحدث عنها ـ وأن الإنسان أحدث خلال آخر 100 عام في هذا التوازن ما لم يحدثه خلال عمر البشرية كلها، خرّب وشوّه وحطّم نظما بيئية عمرها ملايين السنين، دون تفكير، بغباء، بجشع لا نظير له، ولابد للنظام الطبيعي أن يحمي نفسه ـ مثل أي نظام ـ لا نعرف بالضبط كيف يتوازن هذا المزيج المعقد، ولا ندرك كيف يمكن أن يحمي نفسه.

لست مهتما بمصير البشرية، إلى سقر وبئس المقر، نحن لا ننال إلا ما جنت أيدينا، وما كان ربك بظلام للعبيد.

ماذا عن مصيري الشخصي؟

كنت أحلم بأن أكون كاتبا، أخلد بما تركته من نتاج معرفي، منذ طفولتي الحالمة بالكتاب، الذائبة فيه، أقلب بصري في الرفوف المصطفة في طوابق مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف، أحدق عاليا، حتى تعانق عيناي الضوء المنهمر من مركز قبة المكتبة المهيبة، وأحلم أن يكون لي رف بين رفوفها، يحمل اسمي، مؤلفا، لكم أحببت تلك المكتبة، فكانت أول نسخة أهديها من كتابي الأول حصة مكتبة الامام الحكيم.

أمسكت أول طريق حلمي بالكتابة، كتاب مفرد، و4 كتب أخرى مشتركة، وبحوث ومقالات بالعربية والانجليزية، واستيقنت روحي المضطربة طريقها ووجدت ذاتها في الكتابة، وحدها، لا شريك لها.

حلمت في طفولتي أن أزور لبنان، وإيران، وتركيا، وايطاليا بمعالمها الكثيرة، وألمانيا، ولندن، وأمستردام وبجليكا، وفعلت، وطبت نفسا، وقفت تحت سقف السيستين المهيب، تسمرت أمام لوحة رافائيل: (مدرسة أثينا) التي حلمت برؤيتها، ورؤية ابن رشد الرابض فيها منذ أن قرأت عنها في مجلة العربية قبل أكثر من عشرين عام، تجولت تحت سقف كاتدرائية القديس بيتر، وطأت دروب روما، وقنوات البندقية، ولمست برج بيزا المائل، وقفت قرب بيغ بن، وبرج لندن، وساحة الطرف الاغر، وسوهو التي ضاع فيها كولن ولسن، اخذتني رهبة آيا صوفيا، وجمال البسفور، ومهابة الروشة في بيروت، وغيرها وغيرها.

نعم، لا زالت في النفس أماني كثيرة لمدن كثيرة، ولكنها نالت الكثير مما اشتهت من المدن، وأهلها.

نفذتُ من الموت مرارا، موت اقتحمته بنفسي في بعض الاحيان، حلمت ـ وأنا ابن الوله العراقي بالموت ـ أن أموت مجلل بدمي، ميتة فخورة ـ تخيل أن نفخر بالموت ـ اصطلحت مع الموت مبكرا، ولا زلنا وإياه مصطلحان، حتى إذا  كان سخيفا مثل الموت بفايروس لا يعرف نسبه.

انا مستعد للموت، راضٍ بما نلته، ساخط لكل ما لم ينله الاخرون، لكل ما حرم الناس منه، وسرق منهم، ساخط ويغلي الدم في عروقي واتقلب على فراش من الجمر المستعر.

انا مستعد لاستقبال الموت، راغب فيه، ساعٍ إليه، أما إذا قدّر لي ان أعبره بسلام، وأعبر مع الناس أزمة هذا الفايروس، فلن أظل في هذا الوجع المستديم، واللعنة التي لا فكاك منها، سأغادر لأموت في بلادٍ يجمد صقيعها عظامي الكارهة للبرد، وعلى شفتي اسم كل شبر وطأته على هذا التراب، وبين جفوني صورة كل مكان قبلته عيناي، وفي قلبي ذاكرة مضطربة بالعراق.

أمنية واحدة ستظل عزيزة، أن أقرأ ما سيكتبه اصدقائي في رثائي، بموت قريب، أم بموت بعيد بارد.

الصورة: أنا تحت سقف كنيسة السيستين.

أم سمير

 

لا اذكر السنة تحديدا، ربما في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، اشترى أبي وصديقه وشريكه: أبو زينب، صاحب العصيبي، سيارة فولكسفاكن طراز ترانزبورتر (Volkswagen Transporter) ميني باص صفراء اللون، كانا يطلقان عليها اسم أم سمير، ولعله كان الاسم الدائر السائر لها تلك الأيام.

لا اذكر كم مرة ركبت تلك السيارة، لهذا لا اعرف تفاصيل صالونها الداخلي بشكل واضح، أذكر أن هناك قاطع يفصل مقصورة السائق عن السيارة، وخلف الباب الخلفي المنزلق الذي تدلف منه لحوض السيارة الخلفي، كانت هناك مخارج لجهاز التبريد في السيارة ـ ربما، لا أذكر ـ لا ادري إذا كانت هناك مقاعد خلفية في السيارة، تقريبا لا اذكر من مرات ركوبي تلك السيارة سوى مرتين، في إحداها اصطحبني أبو زينب ليشرب الحليب صباحا حين كنا ننتظر خروج أبي ليذهبا إلى العمل في الحي الصناعي، لا أدري لم تأخر أبي وأرسلني قبله، كان الجو شتاء بارد، سألني أبو زينب أذا كنت أريد الذهاب معه لشرب الحليب، وكطفل لم يتجاوز العاشرة وافقت، اذكر أن المحل كان قرب ساحة ثورة العشرين، وحين وصلنا تصاعد خوف الطفل لدي، وملأني الرعب من تذكري منع أهلي لي من أن آخذ أو آكل من أي شخص دون إذنهم، فرفضت أن ارتجل معه لشرب الحليب، رغم توسلاته.

ويبدو أننا قد تأخرنا قليلا، فعدت لأجد أبي ينتظرنا على الشارع العام بقلق، قرب مقبرة آل الصائغ على جهة النجف الجديدة الموازية لطرف البراق، حيث بيتنا القديم، ولقلقه الشديد نالتني صفعة معتبرة، هي من الصفعات القليلة التي وجهها أبي لي خلال حياتي، وانخرط في عتاب شديد لصاحبه لأنه اخذني ولم ينفع اعتذار أبو زينب ومحاولته الدفاع عني.

المرة الثانية التي اذكرها مرتبطة بعلة أم سمير الكبيرة، وهي إطاراتها دائمة العطب، أذكر أن أبو زينب لم يكن يتحدث عن السيارة دون ذكر آخر زياراته لـ”البنـﭽـرﭽـي” صحبة المحروسة الصفراء التي يسر لونها الناظرين، ذاهب آيب منه، دون جدوى، ذات يوم، تأخر أبي في العمل، ويبدو أنه نسي شيء ما وكان مستعجلا، دار بي والسيارة في عدة أماكن، ليعود إلى الحي الصناعي عقب انتهاء ساعات العمل، ويقتحم بأم سمير أرضا غير مسفلتة، وعرة ممتلئة بحطام الطابوق وشظايا الزجاج، وبسرعة، كانت الكلاب السائبة تنبحنا أنّى التفتنا في تلك الظهيرة القاصمة، وخلص، لا اتذكر تفاصيل أخرى، لكن الذي لا انساه أبدا هو ما فكرت فيه ساعتها، قلت لنفسي، أن كثرة العطب الذي يصيب إطارات أم سمير هو لأنها مدللة، لأن أبي وصاحبه لا يحملان السيارة أي ضغط أو جهد، لهذا صارت مائعة، كثيرة العطب، وأن ولوج أبي إلى هذه الأرض الوعرة اليوم هو  أفضل دواء لهذه السيارة النحسة، كثيرة الشكوى، وستتعلم الأدب وتتجلد على الشدائد، اتذكر الواقعة، وأتذكر أن إطاراتها لم تتأثر بعد تلك الحادثة، وأقف مستغربا من طريقي تفكيري في سني اليافعة تلك، كيف ناغمت أبا نؤاس حيث يقول:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

لا ادري كيف!

على أي حال، قبل مدة وأنا أتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت مجسمات صغيرة لسيارات متعددة، كان من بينها الظاهر في الصورة المرفقة، صرخت دون وعي: يا الله، أم سمير! ودون تردد اشتريت النموذج.

لقد أحببت تلك السيارة التي لم أركبها كثيرا، أحببتها بشغف كبير.

 

رضا

كان الشيخ يقف عند الباب المؤدي إلى رواق أبي طالب الجديد ـ الذي صممه الدكتور ساهر القيسي ـ أسند ظهره على إفريز الباب ، الذي صُمم كشبه دعامة رخامية، تلتوي على نفسها لتنتهي بطرف مسطح حر، استقرت عليه مزهرية جميلة، هناك وقف، أسند ظهره للدعامة، متجه إلى الضريح عبر الباب المقابلة، قصير القامة، وجه ابيض مشرب بسمرة خفيفة، لحية قصيرة بيضاء، شابها بعض السواد من بقايا شبابه، عمامته ناصعة البياض، لا ادري ماذا كان يحمل بيده، أو لعله كان يضع يداه في جيوبه؟ لم أعد أذكر لأنني انشغلت بالنظر إلى وجهه.

كان وجهه البهي يطلق نظرة تجاه الضريح، نظرة عجيبة، عيناه، وفمه، تقاسيم وجهه، مزيج غريب من الرضا، والبكاء، والابتسام، إذا اقبلت عليه لا تعرف أباكٍ هو أم مبتسم، حزين أم سعيد، راضٍ أم راجٍ، فمه كان يتمتم بين حين وآخر ببعض الكلمات ثم يصمت، ليخاطب صاحب الضريح بعينيه وحسب، ابتسامة عميقة من الرضا، دمع محتبس يقف بحياء، لا تكاد تعرف حاله، جلست لحوالي ثلث ساعة أحدق بوجهه من بعيد، ينظر، بتمعن، بتركيز، وكأنه منهمك بحوار عميق، كأن الدنيا كلها من حوله ساكنة، ولا يوجد سواه، هو وساكن الضريح، يتبادلان حديث محتشد، ما كان مرور الزائرين أمامه يشتته عما هو فيه، منغمر برضا عجيب.

جلست هناك، بعيد عنه، وقريب منه، اسائل نفسي عن المرة الأخيرة التي غمرتني فيها مثل تلك المشاعر، وبان على وجهي الرضا والإيمان والطمأنينة مثل هذا الشيخ، فلم اذكر، ولم أعرف أين ذهب ذلك السكون الذي كان يعتريني، مددت يداي اتلمس ذاكرتي، كما يفعل البصير مستهديا طريقه، فما عادت لي كفاي بما اشتهيت، كان في اليسرى فراغ يباب، وفي اليمنى خوف وقلق وشك.

نظرت إلى الشيخ وابتسامته تزداد عمقا، يستأذن صاحبه الإمام بالانصراف، ليخب رويدا، وعيناه على الارض، لا يرفعهما إلا ليعرف طريقه أو ليجد رفيقه، ليتركني هنا، وحدي، مثل ناعور يدور دون فائدة، يحمل الماء من النهر إلى النهر حيث لا أرض لتشرب منه.

المنكفئون في زاويتهم

 

بعض الناس، تحطم الحياة قدرتهم على أن يشاركوا أحزانهم مع الآخرين، يمكن أن يكونوا عطوفين، مراعين، أهل للثقة والمسؤولية، لكن في صميم أنفسهم هناك صندوق لا يتسع سوى لهم، لأنهم إذا أشركوا أحبتهم بهذه التعاسة فسيخربون حياتهم.

بعض الناس لا يستطيعون أن يكونوا على سجيتهم مع أقرب الأحبة إليهم، لأن سجيتهم خشنة، قاسية، يمكن أن تجرح الآخرين، لأنهم لم يعيشوا خلال حياتهم ما يؤهلهم لأن ينبسطوا كما هم، أرواحهم حادة مثل صخور الشواطئ، مؤذية لو أطلقوها دون كبح، مؤذية مثل منشار صدئ، بعض الناس محكوم عليهم بأن يبكوا للآخرين، ويحزنون من أجلهم، أن يقفوا معهم كل وقت، وأن يبذلوا طاقتهم من أجل غيرهم، هذه هي الطريقة الوحيدة لكي يحتفظوا بمحبتهم، السبيل الوحيد لكي يسعدوا أنفسهم، بإسعاد الآخرين.

بعض الناس تصنع بهم السعادة خللا، عواطفهم معطوبة، إذا شعروا بالسعادة فقدوا القدرة على أن يكونوا عناصر إيجابية في حياة أحبتهم، لمن حولهم، مثل النواعير، إذا توقفت عن الدوران أصابها العطب، مثل بيت يحتاج لإدامة وسكان، بيت من الطين المفخور، الطين يحتاج الحياة، وهم يأنسون إلى ذلك النصل الأعمى الذي غرسته الليالي في قلوبهم عميقا، واستمرت بفركه ذات اليمين وذات الشمال.

بعض الناس يلتذون بالجوع، ويأنسون إلى شبع من حولهم، يكدرون أرواحهم بالكرب، ويفرحون لبهجة أحبتهم، منكفئون في زاويتهم، مثل متصوف مزق الوله رغبته.

هل هم مخطئون؟

السؤال هو: إذا أسعدوا من حولهم، فما الداعي للسؤال عن خطأهم؟

والجواب هو المحبة، المحبة تلزم بالسؤال، ولكنهم مصابون بالعطب، ولعلهم يشفون بالمحبة.

بعض الناس

بعض الناس..

31/ 3/ 2018

الذين لا نجيد الاعتذار لهم

يقضم النهر في مسيره الأرض، يقتطع من روحها دون ملل، وتحبه الضفاف دون تحفظ، تمنحه من روحها المزيد، وتورق على كتفيه شجرا وبشرا.

يستقبل الواحد منا الصباح بوجه مكفهر، فتضحك أمه في وجهه، رغم أنه عاد متأخرا، وملئ قلبها بالوجل، وبدأ صباحه عابس الوجه، جائع مثل كلب متشرد، هو لا يعتذر، وهي تتقبل شعوره بالخزي، الخزي الظاهر في تنمره، وتعنته، وتصرفه وكأن شيء لم يكن.

يطعن الفلاح ضلوع النخلة وهي تكبر، يختضم سعفها ليحيله كرباً يتسلقه نحو ثمرة فؤادها، ويحرقه ليخبز قوته، ولا تغضب النخلة وتستمر بالعطاء، تفيض عليه وتظلله عن هجير الشمس، وتمد سعفها أكفا حانية ترعى القداح المتفتح في ظلها.

يستمع الأخ الصغير لسيل العنف المتدفق من فم أخيه، عنتا، وغضبا يهدر مثل ناعور عتيق، ثم يقول له: حاضر، ولكن لا تكن مع الغير كما أنت معي.

ترنو الفتاة الجميلة بعين غاضبة نحوه، وتتسائل من أين يأتي بكل هذا الجلد والغلظة، والقدرة على الهبوب يمينا وشمالا مثل ريح (الشرجي) في حدتها وإزعاجها، ثم تسامحه دون أن يفلح في تقديم اعتذار لائق.

لماذا نفعل كل هذا مع الذين نحبهم، ولا نصبر على مبارحتهم لقلوبنا؟

لماذا يجيد أحدنا الحديث لساعات وساعات ذات اليمين وذات الخبب، ويقول ما يشتهي دون كلل، ثم يبتلع لسانه فلا يجيد أن يقول ما في سريرته أمام من يعنيه أمرهم، ويعنيهم أمره؟

لعل للقلوب التي يشج بعضها البعض بخيط المودة دورا في تعطيل اللسان، نحن نقول ما نريد للآخرين بعقولنا، ولكننا نفقد السيطرة على القلوب حين تخاطب القلوب، فنترك لأسوأ صفاتنا المرح كما تشاء، فتكاد أن تفسد المحبة بالتبلد.

ولكن القلوب كفيلة بالغفران، وبالمضي قدما، الذين لا نجيد الاعتذار لهم هم الأكثر قربا إلى قلوبنا.