في وداع استاذ نبيل… فالح فخر الدين

(1)

كانت الشدة، والضرب، والصرامة والتدقيق خلف كل صغيرة وكبيرة، ومتابعة كل شاردة وواردة بقسوة، هي سمة مدرسي ذلك العصر، حرصا على الطلاب، وصيانة لهم، واتساقا مع منظومة قاسية تبدأ من رأس الدولة، نزولا إلى قاع المجتمع، بينما كان هو يرفق بالطلاب رفقه بطير كسير الجناح، يتابع بمحبة، ويدرِّس بود، ويدقق بشفقة ما فوقها شفقة.

(2)

سمعتُ باسمه في الصف الرابع الاعدادي، كان يدرس طلاب الأدبي اللغة الانجليزية، في الخامس والسادس، كان يخب في ممرات إعدادية النجف العريقة صامتا نحو الدرس، وقد صوّن عيناه مركزا على سبيله، لا يلتفت يمينا ولا شمالا، لا يعبأ بالطلبة العابثين في طريقه، ولا يتكلم إلا ليطلب بلطف من المتواثبين كالقردة أن ينتحوا عن دربه نحو الصف، وضيء الوجه، بشرة بيضاء محمرة، عينان ملونتان ـ هل كان لونهما أخضر؟ لم أعد أذكر اللون المهيب ـ يصبغ شعره بانتظام كعادة أهل زمنه من النخبة، بدلات أنيقة، وألوان تناسب بشرته الساطعة، ومزاجه المدني غير العابئ بقسوة أذواق مجتمعه، هدوء يحيط به، وهمة وانضباط في أحلك  الظروف والتزام بالدوام رغم قسوة الزمن، والطلاب.

ثم انضويت تحت القسم الأدبي لألتقي به، مدرسا متضلعا بلغة الانجليز، صبور على تدريسها لأجيال وأجيال في إعدادية النجف.

(3)

عائلته كانت مميزة، استثنائية، فعدا انتمائه لأسرة آل فخر الدين، وهم بين تاجر ورجل دين وأستاذ جامعي أو طبيب أو مدرس، فإن بيته كان مميزا، بين طبيب، ومدرسين، ومدرسات، الاشقاء كلهم كانوا ممن نال تعليما عاليا، وتميزوا بأخلاقهم الرفيعة، درست اختاه مع أمي في دار المعلمات، ودرَّس هو أجيال من عائلتي.

كان من أسمح الناس خلقا، وألينهم عريكة، وأرحبهم صدرا، لا يغضب من تقافز الطلبة، وعدم فهمهم لشخصيته التي تحبهم وتحترم وجودهم الانساني فلا تضربهم، ولا تتعسف في معاملتهم، ينساب صوته هادئا رقيقا كأنه حلم فجر ترطبه نسائم البساتين على شط الكوفة، وبينما يصرخون، يستمر في أداء واجبه المقدس، دون كلل، مرة واحدة غضب، بعد أن بلغ استهتار الطلاب مبلغه، وصرخ بالطلاب، ثم أمرهم بإخراج اوراق بيضاء لاجراء امتحان يومي، نلنا جميعا في ذلك الامتحان الغاضب أصفارا لها بريق ورنة، حل صمت رهيب من الحليم الذي غضب، ثم خرج والحمقى الذين اغضبوه صامتون كالموتى.

ولكنه لم ينزل تلك الاصفار في سجل الدرجات، ولا اعتمدها، ونجحنا كلنا.

(4)

بعض من أثمن نصائح اللغة الانجليزية تعلمتها منه، كان يحثنا على متابعة الأفلام، ويقول: لو خرجتم من كل فيلم أجنبي بـ5% من الكلمات فأنتم رابحين.

وبينما كان الاساتذة من أصحاب الدروس الخصوصية يرشحون كل عام احتمالات لما يمكن أن يأتي من أسئلة في الامتحان الوزاري المركزي المرعب لطلبة السادس الاعدادي، الامتحان المفصلي الذي يمكن أن يدمر حياتك لو صدف وأصبت بالزكام، او توفي عزيز عليك، وكان الاساتذة يخطأون ويصيبون في ترشيحاتهم، وفي السنة التي امتحنتُ بها أنا قد جائت الاسئلة المرعبة مطابقة لما اقترحه المدرس المواضب، الاستاذ فالح فخر الدين، قال: اتوقع هذا العام أن يأتي انشاء من مسرحية تاجر البندقية ليس كما اعتدتم، ليس انشاءً يخص العربي الخاطب، ولا الاربعة الذين رفضتهم بورشيا بالجملة ـ هل كانوا أربعة؟ نسيت والله ـ بل سيأتي انشاءً يشمل الخاطبين كلهم، ستتهم ـ ستة؟ ـ احفظوا انشاءً يشمل الجميع.

وصدق الرجل، ونجحتُ.

(5)

بعد تخرجي من الاعدادية، زرت المدرسة، ومعي كاميرتي الفوتوغراف الروسية طراز فيلا، طلبتُ منه أن نلتقط صورة معا، انا وهو وحسب، ففرح، وقال هيا، لكن لا تأكل الصورة عليَّ، اريد نسخة منها، قلت له تأمر استاذي، وتصورنا قرب حديقة الإدارة.

بعدها بسنوات، بقيت افكر بأن اكتب له لوحة خطية أيام كنت امارس كتاب الخط العربي، وأن أهديها له مع نسخة الصورة، لكي يتذكرني دائما كما سأذكره ما حييت، ولكن الحياة عصرتني، وأخذتني بعيدا، فلم اشاهد الرجل الأنيق بعدها إلا من بعيد لبعيد، دون أن أفي بوعدي له، وحين سمعت صباح اليوم (24/ 5/ 2020) بخبر رحيله إلى رحمة ربه الكريم، قلبت مئات الصور لأجد صورتي معه، ولم افلح.

عاقبتني يا استاذي لعدم الوفاء بوعدي لك، فرحلت، وفقدت صورتي معك…

رحمة الله عليك أيها النقي النبيل.

الصورة: في الصف السادس الأدبي، اعدادية النجف، للسنة الدراسية 2004 – 2005، يظهر في الصورة الاستاذ فالح فخر الدين، جنبه حسين كشكول، وأنا جالسا، في الرحلة الأمامية إيهاب ابو شبع، وحسنين الحارس

 

في البحث والباحثين، حديث من زميل محب

يحسن بي الظن الكثير من الأخوة فيطلبون رأيا في تخصصي العام، أعني العلوم السياسية، ولكن الأسئلة كثيرا ما تكون خارج تخصصي الدقيق ـ النظم السياسية، اجتماع سياسي وسياسات عامة، وكلها في الشأن العراقي ـ وهنا اعتذر بأدب عن الاجابة، ليس لأنني لا اعرفها او لأنني لا املك رأيا فيها، ولكن لاحترامي لحدود التخصص، أنا اعرف بشكل جيد تخصصي الدقيق، أعرف العراق بشكل جيد، مجتمعه، أديانه، طوائفه، المؤسسة الدينية فيه، اعرفها نظريا وميدانيا بحكم دراستي الدينية فيها، واهتماماتي البحثية، تاريخ العراق، أما اقتصاديات العراق وتاريخها، الاستراتيجيات، السياسات الدولية، والعلاقات الدولية، هذه الفروع اعرف عنها جيدا ولكنني لا أفتي فيها أبدا، ولا اكتب عنها، اعتذر عن الاستكتابات التي تردني ضمنها وإن كان فيها مكسب مالي أو سفر، ليست حقلي، وكوني قرأت فيها بعض الكتب لا يؤهلني لأن ادعي فيها وأكتب بما يرضيني، حسنا بما يرضي غروري وطموحي العلمي.

اقرأ في الفيسبوك الكثير وأتابع الكثيرين، بالنسبة لي يشكل الفيسبوك كنزا من البيانات يغنيني عن استمارات الاستطلاع او الحديث غير الضروري للناس في الشارع، لهذا اخصص له وقت طويل، هو ملعبي ومضماري وساحة صيدي، ومما لاحظته أن الكثيرين من الدارسين ـ لن اتحدث عن الجهلة الذين يدسون انوفهم في كل شيء ويكتبون عن كل شيء ـ والمتخصصين في حقول علمية معينة، وبعض من طلبة الدراسات العليا، يكتبون في كل شيء أيضا، ويقرأون بدون تنظيم، ومنشوراتهم تتطاير من التاريخ للنظم السياسية للعلاقات الدولية لتاريخ العلوم لوباء كورونا للاستراتيجيات والقوى الكبرى وصولا إلى الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون وهلم جرا!

نعم، بعضهم يقرأ في كل هذه الحقول، ودارسي علم السياسة بحاجة فعلية لهذا القدر من التنوع في القراءة، ولكن لابد من التركيز على حقل معين، حقلكم التخصصي الذي تدرسونه وستكتبون رسائلكم وأطاريحكم ضمنه، لا يُمْكِن للباحث أن يكتب في كل شيء، هذا الامر، بقدر ما فيه من تشتيت للباحث، وتضييع لقدرته البحثية التي يمكن أن تتبلور وتنمو وتبدع في فرع من حقل علمي معين فإنه وبذات الوقت فيه استهانة بالعلم والتخصص، وكلا الامرين لا يليقان بالباحث الجاد ولا يساعدانه في مسيرته العلمية ولا يمنحانه التميز المنشود.

تجدون بعض حملة الشهادة العليا يتقلبون في الشاشات يفتون في كل شيء، ولكن أيها الاحبة لو تتبعتم بعضهم لما وجدتم انهم كتبوا شيئا ذا قيمة منذ شغلهم التلفاز، باستثناء بعض اساتذتنا المحترمين من ذوي النتاج الثر.

لا تحذوا حذوهم، واقتراح ـ اكره استخدام كلمة نصيحة التي تبدوا وكأنها من عالم لغير عالم ولا احبذ استخدامها مع زملائي ـ من أخ لكم يمارس البحث العلمي والنشر والكتابة بانتظام منذ العام 2012، لا تكتبوا في كل شيء، ولا تكتبوا بكثرة، في تخصصكم العبرة بالعمق والجدة لا بالعدد، قد تجدون زميلا لكم نشر 10 كتب ولكنها غير ذات قيمة، وكان الأجدى له لو أنجز كتابا واحدا، بل بحثا واحدا مهما، ونشره في دورية مهمة، او مركز دراسات مهم، ولكان خير له وأبقى، ولكان أفادنا بالكثير بدلا من هذا السيل المهدور يمينا وشمالا، كما ان الكتابة في كل فروع التخصص هدر، وتشتت، وخطأ علمي، حددوا أنفسكم بعنصر معين وأبدعوا فيه.

أمر آخر، كما أن الجرأة واقتحام المحظور والتفكير خارج الصندوق مطلوبة للباحث، وهي معيار جودته وإتيانه بالجديد من الأفكار، إلا أن احترام القواعد مطلوب، والتأسيس على من سبقكم جزء أصيل من البحث، وبقدر ما يكون حدس الباحث مفيدا لكنه لا قيمة له بلا أدلة، ولا يجدر بالباحث الحديث عن كل ما يهجس بباله من الغث والسمين، او يستنتجه اثناء بحثه وقراءته، الافكار تنمو بالتأمل والتدبر والتثبت والتعزيز بالأدلة، حتى تولد، لا مبكرة غير ناضجة، ولا متأخرة فات ميعادها، فإذا تم لها النضج، وتوفرت لها الأدلة، والمصادر، فاعزم عليها، ولا تُضِعْها في منشور على الفيسبوك، اكتبها كبحث، وامضي في سبيلك مستقصيا فكرة أخرى، أو مؤسسا على فكرتك تلك منطلق نحو المزيد من التأصيل، وإياك والفرقعة التي يحبها بعض الناشرين، فهي باب معايشهم، ومقتلكم أيضا، إذا لم يكن لموضوعك الجريء أدلة تعززه فلا تقتحمه يا صديقي وتأتي بعمل سطحي يطير مع أول نسمة ينفخها خبير على بحثك المفرقع.

وبقدر ما يحتاج الباحث إلى القراءة في الأدب لتستقيم لغته وكتابته، فإنه يحتاج أيضا أول أمره إلى مران على الكتابة، وخير مران هو كتابة المقالات، ولكن يا رعاكم الله في تخصصكم، لا تشتتوا انفسكم بين التخصصات خارجا، والفروع داخل تخصصكم العلمي.

اقتراحي الدائم على أهل البحث هو: اكتبوا عما تعرفونه أكثر من غيره، وما تعرفونه أكثر من غيركم، والسلام.