عن رمضان الذي افتقد

 

ارتبط رمضان في ذاكرتي بأمور خاصة، أسرية، وأمور عامة شاركت فيها أبناء مدينتي الآخرين.

كنجفي، كان صوت محمد عنوز، مؤذن الروضة الحيدرية ملازما لكل حدث ديني كبير يستلزم دورا لصوت مؤذن العتبة ينطلق من المأذنة، وشهر رمضان كان في طليعة تلك الاحداث.

كان صوته يبدأ أواخر شهر شعبان، يهلهل معلنا نهايته وقدوم أخيه: مرحبا مرحبا يا شهر رمضان، مرحبا مرحبا يا شهر الطاعة والإيمان… ثم يدور القمر في مداره ويهل مؤكدا وصول شهر الصيام، ليبدأ الصوت الرخيم بتشكيل ذاكرة الطفل الذي كنته عن الشهر الأهم في دين المسلمين، شهر رمضان.

كان صوته إيذانا بانتهاء النهار، يجلب معه المغرب كهدية، مؤذنا، أول عرى الفرح التي يمسكها الصائمون، ليهرعوا إلى إفطارهم وصلاتهم.

ثم، وما أن يستريح القوم، ويأخذون بالانسلال إلى الولاية ـ المدينة القديمة ـ ساعين نحو قبر الإمام علي، يجتمعون كلٌ لشأنه وربه، يبدأ صوت محمد عنوز بالانهمار كالغيث على المَحْل، من مأذنة العتبة العلوية، ينساب رخيما، عميقا، مهيبا، يسلك طريقه نحو الأفئدة الوجلة، يتخطى الأصوات المتزاحمة كأنها غير موجودة، يعزل السامعين عن الصخب الذي تزدحم به دنياهم، عن الحصار الذي يضرب معايشهم، والبطش الذي يهيمن على حياتهم، وعيون عناصر الأمن التي تترصد تهجدهم عند علي، صاحب طمأنينتهم.

كان يبسمل، ثم يسدر في قراءة دعاء الافتتاح: اللّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ…

كلمات تسلك دربها للقلوب لتحييها، ترويها بعد ظمأ، تؤمنها بعد خوف، يرقق صوته، يمد حروف الدعاء بشغف، حتى يصل إلى ذلك المقطع الفخم: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يُهْتَكُ حِجابُهُ، وَلا يُغْلَقُ بابُهُ، وَلا يُرَدُّ سائِلُهُ، وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ.

الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُؤْمِنُ الخائِفِينَ، وَيُنَجِّي الصَّالِحِينَ، وَيَرْفَعُ المُسْتَضْعَفِينَ، وَيَضَعُ المُسْتَكْبِرِينَ، وَيُهْلِكُ مُلُوكا وَيَسْتَخْلِفُ آخَرِينَ.

يقول، ويهلك ملوكا ويستخلف آخرين، يمد حروف المد في الجملتين مدا، يبدوا فيه صوته متسربلا بإصرار عجيب، كأنه قادم من عالم آخر، ملكوتي، يخبر المتوجسين بأن لا ظالم يدوم، ولا حال يخلد، فكانت الناس كأنها ترفع اعينها لصورة الجلاد المعلقة عنوة في الروضة، مطمأنة لمصيره القادم.

ثم تؤوب الناس إلى دورها، منتظرة صوت محمد عنوز في السحر، يدعوا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ بَهَائِكَ بِأَبْهَاهُ وَ كُلُّ بَهَائِكَ بَهِيٌّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِبَهَائِكَ كُلِّهِ.

لينذرهم بعدها بقرب طلوع الفجر وموعد الامساك، منغما ارجوزة رمضانية: إشرب الماء وعجل قبل أن يأتي الصباح… حتى يقول: لا تشرب، فتمسك الأبدان عن شرابها ومطعمها، بانتظار يوم متعب آخر من الصيام، حتى ينقضي الشهر، فيأتي صوته باكيا في أيامه الأخيرة: الوداع الوداع يا شهر رمضان، يا شهر الطاعة والإيمان…

أقصي الرجل من مكانه لاحقا بعد ان راح رعب صدام عن البلد بسنوات، اقصي لمزاج شخصي بدا وكأنه مدفوع بكره النجف، أهلها، لا أكثر، ولم يترك بابا الا وطرقه ليعود، باكيا متحسرا لمجلسه تحت مأذنة علي، دون فائدة، فرضي بأن يرسل صوته عبر مقام آخر في النجف.

كل رمضان فاتني بعيدا عن صوته العذب لم يلمس خلجات روحي، لم يمر عليّ رمضان منذ ذلك الوقت كعذوبة أيامه السابقة، سواء حين كنت مطمئنا بإيماني، أو حين سكنني القلق فيه، فصرت لا أكاد أقر لقرار، أو يخبو لنار قلبي أوار، يا لأيام الطمأنينة تلك، “بعت منها باللجين الذهبا” كما يقول #محمد_سعيد_الحبوبي.

كل رمضان خارج تلك المدينة العتيقة، خارج بيتنا القديم في طرف البراق، كل شهر، ليس كتلك الشهور، لا يمنح قلبي السكينة، التي فقدتها… ولن تعود.

العاملي والجادرجي

الشيخ بهاء الدين العاملي، محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي الهمداني (953 – 1030 هـ) المعروف باسم الشيخ البهائي، فيلسوف وفقيه وعالم رياضيات و.. معماري، له العديد من البنايات الاستثنائية في ايران، والنجف، وظف فيها معرفته بالرياضيات والفلك فجاء ببنايات ذات طبيعة غريبة، وليس هذا محل النقاش بشأن عماراته، إنما اذكره هنا مستعينا بما قاله ذات يوم عن الايمان، اذكرها بمعرض مناسبة وفاة زميله في مهنة العمارة والفلسفة، رفعت ـ أو رفعة ـ الجادرجي كما كان يطيب له ان يكتب اسمه.

يقول العاملي الفقيه:

(إن المكلف إذا بلغ جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء إذا كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف الحق)

والدليل المعني هنا هو: الإيمان بالخالق، سبحانه.

هذه الكلمة البليغة في معنى الايمان اوجهها لكل من هاجم الجادرجي خلال الايام الماضية بسبب رحلته الفلسفية في الحياة، التي انفق عمره وأجهد نفسه غاية الجهد في استحصالها حتى صارت رؤيته تجاه الحياة، معرب معها عن احترامه لكل الاديان ومن يؤمن بها، دون شتيمة، دون تسخيف.

خلال الأيام الماضية شتم الرجل، وهوجم من طلب له رحمة الله الكريم ـ الرحمن الرحيم، الذي كتب على نفسه الرحمة، وسبقت رحمته غضبه ـ بل ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك فسخفوا منجزه المعماري بسبب عقيدته، بل ان احدهم تساخف وناقض نفسه حتى جاء برأي مهندسة عبقرية نعم، لكنها منسخلة عن بيئتها الام، ابنة الحداثة التي لا اطيق بناياتها: زهاء حديد، التي عيرت الجادرجي بانه يستلهم الفلكلور الاسلامي في عمارته، ممتدحة ايام انغماره في الحداثة قبل اكتشاف ذاته المحلية وذوبانه في العمارة الاسلامية بنكهة حداثية جعلته متميزا، قائم بمدرسته، وليس حداثي مغرق في الوهم ينتج عمارة وحشية مثل زهاء حديد.

الغريب ان من شتمه لكونه غير مسلم، جلب رأي من هاجمته بسبب تمسكه بالعمارة والفلكلور الاسلامي!!

تأمل يا رعاك الله!

انجز الجادرجي عمارة محتفية بالهوية الاسلامية المحلية، شغفه التراث الاسلامي، وصارت إعادة إنتاجه بشكل حديث متصالح مع الهوية المحلية شاغله وهاجسه الذي تجده في كل منجزه العظيم.

عمارة متميزة، مبهرة، محتفية بالتفاصيل المحلية، تجد فيها انسجاما مع المحيط الإسلامي دون مشقة، ولم افهم كيف استدل بعض الفنانين على أن منجزه خال من الروحانية أو شيء من هذا القبيل، عجيب والله.

دعوا الخلق للخالق، ورحمته وسعت كل شيء ـ كما وصف نفسه سبحانه ـ أما الجادرجي فقد كان معماريا عظيما، ومتفلسف في الحياة والعمارة، ترك تراثا مبهرا نفخر به كعراقيين.

ثم عيني، رفعت صهرنا ـ نحن النجفيين ـ ولن يرضيني ان يشتم صهرنا وهو غير مستحق للشتم!

#بهاء_الدين_العاملي

#رفعت_الجادرجي