4ـ محلات لم تعد موجودة
أولا: نوري البصراوي
حتى وقت متأخر من طفولتي، لم يكن يُسمح لي بأن أذهب لشراء ما يحبه الاطفال من مأكل كالبسكويت وما شابه إلا من محل نوري البصراوي، مُنع علي أبو عمار، الذي كنت أسمع باسمه ولا أراه، ومُنع عليَّ ماجد الدباغ الذي يقع محله على امتداد محل نوري في الشارع نفسه، وغيرهم.
أما نوري فهو ليس من أهل البصرة، بل من أسرة آل البصراوي النجفية، كان محله في غرفة أفردت من منزل اسرته الكبير الفسيح في الشارع المقابل (لعكدنا) من الجديدة الأولى، أمام منزل السيد محمد حسين شبر، الذي قام ولده الدكتور سامي ببناء عمارة محله، وأوكل أمرها إلى صديقه الحميم، عمي صاحب رحمه الله.
احتلت واجهة المحل منصة مبنية من الطابوق، أو مشيدة من الحديد، لم أعد أذكر، ارتفاعها حوالي ثلاثة أرباع المتر، أضاف لها نوري حاجز مشبك، يتيح لزبائنه أن يشاهدوا البضاعة، يسألون عن أسعارها، ثم يومئون لما يريدون فيدفعون لنوري بيد، ويأخذون بضاعتهم بالأخرى، في عمق المحل استقرت مجمدة كبيرة، وبين بضاعة المحل (الحصارية) استقر نوري بوجهه ناصع البياض، وشعره الأشقر، وعيناه الزرقاوان، هادئ كظهرية حارة.
بقي نوري رابضا في مكانه حتى سنوات قليلة ثم انتقل إلى عمارة السيد سامي شبر، بعد أن باعت الأسرة منزلها الكبير ليتحول إلى فندق.
ثانيا: خان حجي زهير
حين اخرج من (عـﮕدنا) وبامتداد ذات اليمين، بعد حوالي مائتي أو ثلاثمائة متر، أول مدخل عـﮕد آل الطريحي، كان يربض خان الحاج زهير ناجي، صديق أبي القريب، كان معملا لتشريح وتصفية الخشب، خان كبير فسيح، له باب خشبية بيضاء ضخمة، تسرح فيه أنواع الدواجن على عادة النجارين، ووسط كل هذا، كان (حجي زهير) بعضلاته المفتولة، وشعره الأبيض، وشاربه الأسود المبروم، صوته يعلو على كل صوت، صوت شجي عذب يطلقه فجأة بأبوذية، أو بموال زهيري، أقول (شلونك حجي) فيرد (هلا حبيبي)، تحيته لي ولأخوتي التي لم تتغير حتى هذا اليوم، أتذكر مرة أن الخان كان مغلق لمناسبة ما، وكان الحجي وأبي وصحبهم داخله، يعدون وليمة ما في تلك المناسبة المجهولة، لا أعرف ماذا كانوا يطبخون، ولعلها (زردة) لأن (الحجي)، أو ـ نائبه الأول الذي نسيته؟ ـ كان يناولني كل حين (لوزة) مقشرة، تلك الذكرى أعذب ما أذكره من ذلك الخان، ومن صاحبه القريب إلى الروح.