المدينة التي تبتعد (5)

4ـ محلات لم تعد موجودة

أولا: نوري البصراوي

حتى وقت متأخر من طفولتي، لم يكن يُسمح لي بأن أذهب لشراء ما يحبه الاطفال من مأكل كالبسكويت وما شابه إلا من محل نوري البصراوي، مُنع علي أبو عمار، الذي كنت أسمع باسمه ولا أراه، ومُنع عليَّ ماجد الدباغ الذي يقع محله على امتداد محل نوري في الشارع نفسه، وغيرهم.

أما نوري فهو ليس من أهل البصرة، بل من أسرة آل البصراوي النجفية، كان محله في غرفة أفردت من منزل اسرته الكبير الفسيح في الشارع المقابل (لعكدنا) من الجديدة الأولى، أمام منزل السيد محمد حسين شبر، الذي قام ولده الدكتور سامي ببناء عمارة محله، وأوكل أمرها إلى صديقه الحميم، عمي صاحب رحمه الله.

احتلت واجهة المحل منصة مبنية من الطابوق، أو مشيدة من الحديد، لم أعد أذكر، ارتفاعها حوالي ثلاثة أرباع المتر، أضاف لها نوري حاجز مشبك، يتيح لزبائنه أن يشاهدوا البضاعة، يسألون عن أسعارها، ثم يومئون لما يريدون فيدفعون لنوري بيد، ويأخذون بضاعتهم بالأخرى، في عمق المحل استقرت مجمدة كبيرة، وبين بضاعة المحل (الحصارية) استقر نوري بوجهه ناصع البياض، وشعره الأشقر، وعيناه الزرقاوان، هادئ كظهرية حارة.

بقي نوري رابضا في مكانه حتى سنوات قليلة ثم انتقل إلى عمارة السيد سامي شبر، بعد أن باعت الأسرة منزلها الكبير ليتحول إلى فندق.

ثانيا: خان حجي زهير

حين اخرج من (عـﮕدنا) وبامتداد ذات اليمين، بعد حوالي مائتي أو ثلاثمائة متر، أول مدخل عـﮕد آل الطريحي، كان يربض خان الحاج زهير ناجي، صديق أبي القريب، كان معملا لتشريح وتصفية الخشب، خان كبير فسيح، له باب خشبية بيضاء ضخمة، تسرح فيه أنواع الدواجن على عادة النجارين، ووسط كل هذا، كان (حجي زهير) بعضلاته المفتولة، وشعره الأبيض، وشاربه الأسود المبروم، صوته يعلو على كل صوت، صوت شجي عذب يطلقه فجأة بأبوذية، أو بموال زهيري، أقول (شلونك حجي) فيرد (هلا حبيبي)، تحيته لي ولأخوتي التي لم تتغير حتى هذا اليوم، أتذكر مرة أن الخان كان مغلق لمناسبة ما، وكان الحجي وأبي وصحبهم داخله، يعدون وليمة ما في تلك المناسبة المجهولة، لا أعرف ماذا كانوا يطبخون، ولعلها (زردة) لأن (الحجي)، أو  ـ نائبه الأول الذي نسيته؟ ـ كان يناولني كل حين (لوزة) مقشرة، تلك الذكرى أعذب ما أذكره من ذلك الخان، ومن صاحبه القريب إلى الروح.

 

نوح وكمان

علي المعموري

لا يمكن لك أن تعرف طبيعة تلك الجلسة…

هل هي جلسة خاصة، أم هي في مكان عام؟

هنالك أصوات تعزز كونها جلسة خاصة، همهمات تتداخل مع صوت (أبو داود) ترد تحيته لهم، أو تثني عليه، موجوعة من الأعماق، وقد استفزها صوته الباكي، فتتأوه مع تموجات ترديده المفجوع، وابوذياته المتشربة بالألم السرمدي العراقي.

كما ان تحيته لهم، وحديثه لعازف الكمان لا يتفقان مع الانضباط المطلوب لشريط مسجل في الاستوديو، وابو داود منضبط، كل من يسمع لقاءاته يعرف ان الرجل ليس كبقية المغنين الريفيين، وانه قارئ جيد، ومتحدث لبق يسترسل بالكلام بطريقة الشيوخ، هناك لقاء له يتحدث فيه عن تاريخ ديرته العمارة، ويصر ان يسميها ميسان، ويسوق لك السنوات التي قامت بها مملكة كبيرة على تلك الأرض، ثم يحدثك لمَ سمي بالمنكوب، رغم ان لا نكبة أصابته ولا دهاه أمر، الصفة التي عززها نواحه الريفي المفجع على طول عمره.

ولكن الصوت الواضح، الصافي، يجعلك تظن ان التسجيل تم في استوديو، ولا مجال لأن تكون جلسة عامة، أو خاصة بذلك الصفاء، حتى وإن لم تسمع سوى كمنجة فالح حسن التي تنزف وجعا، يرافقها عزف خفيض على العود، يداعب الكمان، يهدل معه، كصديق يهون على صاحبه المصاب.

كيف هبطت السكينة على تلك المجموعة؟!

فلم تسمع سوى آهات خفيضة بين وهلة وأختها، بين آه مذبوحة يطلقها ابو داود بوجع عالي النبرة، كأنه يبكي، ينوح من اعماقه، يقول لك انه منكوب، وأن هناك جرحٌ غائر في أعماقه، يحترق تحت ركام سنواته، يؤلمه، مهما نفى عن نفسه التهمة….

ولكن مهلاً، هل يفترض بمغنٍ ريفي من أعماق وجع العراق ان يكون ذا تجربة شخصية ليكون صوته، وآهته بهذا الحزن، وإن تكون نبراته بهذه العتمة السوداء المتفجرة وجعاً؟

لا احسب ذلك، ان تلك الأصوات مشبعة بالحزن والوجع منذ أول لحظة قبل فيها الرافدان وجنة هذه الأرض.

ومنذ تلك الـ(آه) الأولى التي اطلقتها أول أم سال دم ولدها على هذه التربة النهمة للنجيع.

تبدأ المقطوعة بكمنجة فالح حسن، تبكي بين يديه، تحس انه ينزف روحه عبرها، وتبكي هي ألمه، يقول له ابو داود: (ها الله ها الله، اخذه سلس، سلس) فتنساب اوجاع الكمان بسلاسة، كأنها الفراتين يخبان، فيقول له ابو داود مرة أخرى، يستفز حسراته الدفينة: (شلون خويه فالح زودني؟…شلون؟)، الكمنجة تحادثه، تخبره بوجع أم تنظر إلى الباب، تنتظر حبيبها، يحمل بيده أنفس ما كان الابن يدخل به على امه ذلك الزمان، قطعة من قماش تتبختر بها بين الامهات، ثم تنكسر بحسرة، لأن الزمن الذي ناصبها العداء، لدغها كصل خبيث، وأوجعها بضيعة ولدها.

يقرأ أبو داود الابوذية، وهو يبكي، أي والله، يبكي وهو يردد (ابني ابني ابني…)، ان صوته يبكي رغما عنه، حتى وإن لم تسل دموعه، انه الحزن القديم، كالنجيع ينساب، تحدثك به كمنجة فالح حسن، وصوت سلمان المنكوب الغارق بالحسرة، وعود خفيف يتحدث بهدوء، يخفف عنهما كل هذا الوجع.

يقول ابو داود:

وصلي وصلي

يردف موضحا: أم تكول:

اصد للباب اكول ابني وصلي

حبيبي بيمنته جايب وصل لي

ما ادري الزمن ضدي وصلي

كرصني وضيع وليدي من ايديه

المطرب الريفي العراقي الراحل سلمان المنكوب

[الرسمة: لا أعرف الفنان]