أرشيفات التصنيف: رأي

كيف خسرنا مهاراتنا؟

أخبرني صديق عزيز، فنان ومثقف مهم، أن هناك مسؤولا بعثيا كبيرا من إحدى العشائر الجنوبية القوية التي دخلت في صدام شرس مع صدام حسين طوال حقبة حكمه، هذا المسئول لم يقتل بعد الـ2003، لأنه لم يؤذ أحد، حضر مجلس فاتحة لعشيرته ذات يوم فغمزه ولمزه بنو عمومته، فقال لهم: ماذا قبضتم بعد 2003 سوى أنكم أصبحتم شرطة؟ لماذا لم تأتوني قبلها طالبين التعيين كشرطة ونفض الموضوع من جذره بدل القتل والتشريد الذي تعرضتم له؟
هذه الحادثة تلخص الكثير من ورطتنا الحاضرة.
بعد
حين أصدر عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي، لم يعززه بجمعيات تعاونية فاعلة توجه الزرع والتسويق والانتاج، ولم يضع سياسات لتدارك مشكلة بعض المحافظات الجنوبية وعقدتها من الأرض والزرع (ارد اشرد لبغداد من الفلاحة… لا تـﭽـسي العريان لا بيها راحة) ماذا حدث؟ صدم الفلاح بحجم الامور التي ينبغي عليه أن يقوم بها، من شراء البذور، إلى تسويق الحاصل والتعامل مع التجار المرابين، ونقل الحاصل، وبلاوي أخرى كثيرة لم يكن معنيا بها من قبل، فاتخذ الحل الأسهل، هرب إلى بغداد، ليعمل شرطيا، أو فرّاشا بباب دائرة أو طبيب، أو چايـﭽـي في أحسن الأحوال.
ثم جاءت 2003، بقافلة كبيرة من غير المؤهلين لإدارة علوة مخضر، ناهيك عن دولة معقدة مثل العراق، وبرعاية تخريبية أمريكية إيرانية، لنغطس تماما في اقتصاد ريعي مدمر، ونتوسع بسياسة التوظيف حتى يتضاعف عدد الموظفين في الحكومة لثلاثة مرات، ويتضاعف عدد من يتلقى الرواتب لعشرة مرات، ونقفز في سباق الارانب للانجاب من 20 مليون نفر إلى ما يقارب الـ40 مليون عالة، كلهم يعيشون على #حشيشة_الحكومة المسماة رواتب.
أمسيت تجد الفلاح العراقي، وقد صار اربعة من ابناءه في الجيش والشرطة والاتحادية والرد السريع، وأخذ الأب الولد الخامس والتحقوا بالحشد، بالبيكب التي اشتروها من نقود المبادرة الزراعية المضحكة، التي اخذوها على الارض، او الماشية، ونزلوا بها واشتروا بيتا في الولاية، وهايلوكس تويوتا بيكب التي يسميها العراقيون ولأسباب غير مفهومة (فلاونزة الطيور).
بهذا، وبعجز الحكومة عن الاستفادة من قدرات خريجي كليات الطب البيطري والزراعة كما كان يحصل في السابق، وبابتعاد الابناء عن خبرة آبائهم في الزراعة، وبترك الاباء للممارسة في الزرع وتربية الحيوانات، فقدنا خلال 17 عام تقاليد في الزرع والتربية الحيوانية راكمناها خلال 10 الاف عام، وبقانون بريمر للبذور سيء الصيت، فقدنا سلالة من البذور هي من الأقدم في العالم، ولم يتحدث أحد عن هذا القانون والظلم الذي احدثه، وركض الفاشلون لإصدار قانون لمعادلة الشهادات يتساوى فيه الفاشلين جميعا في الخسارة مع المجدين.
غدا، وحين تشح الرواتب أكثر وأكثر، ونعجز عن الاستيراد لملئ جيوب الباشوات من اصحاب السماحة المستثمرين، سوف يكون ابناء الفلاحين عاجزين عن مسك المسحاة بطريقة صحيحة فضلا عن معرفة مواعيد البذار والحصاد، وسنجد أن الزراعة صارت عارا على حامل الكلاشنكوف، وسنأكل بعضنا كالضباع الجائعة.
سيكون تيجان الرأس من ضاربي ركعة الاصلاح والمقاومة إلى ضاربي الأوزو ـ الذين لم يفلحوا حتى بالحفاظ على مشروب العرق الوطني ـ وقتها في مشارق الدول المحترمة ومغاربها، يتنعمون بإيراد سنوات من قتل الأرض، والمواهب، وتضييع الخبرات والتجارب، وجلب نفايات الصين وايران وتركيا وغيرها من الدول إلى هذا الأرض، ونكون قد جردنا بالصيد الجائر بادية العراق، ونبته، وقتلنا نخيله، ونفد بالجمع الجائر ما لديه من موارد كالصخر والنفط وغيرها من المواد دون رقابة ولا متابعة، ساعتها، سيكون السعيد من يسلم على باب بيته مصانا من القتلة الجدد الذي ادعوا بالأمس حمايتنا.
تعديل: من المهم قراءة تعليق مولانا ايتش هومو الفراتي على المنشور.

عن قانون مهزلة المعادلة وأشياء أخرى

حديث سيغضب منه أصدقائي، بعضهم

ما دمت قد قطعت عزلتي واعتزالي الفيسبوك، مؤقتا، قلت في نفسي، لألقي كلمتي وأمضي، واستجلب مزيدا من الزعل على نفسي، في هذا المزاد الحافل بالغث والسمين، والترقب لما ستسفر عنه انتخابات الامريكيين، ثور هائج، أم حية متمرسة.

كعادة برلماننا الموقر ـ أوقر الله مساعيه ـ أتحفونا بقانون فضيحة، سعى به عدد من النواب، ليزيدوا طين مشكلة الشهادات العليا في العراق بلة، ومستنقعها أسنا.

قبل كل شيء، لا أنكر المهزلة التي تتبعها وزارة التعليم العالي في معادلة الشهادات، فتحاسب خريج اوكسفورد معاملة دكاكين الشهادات العليا التي يغترف منها العراقيون بالجملة ـ نحمده على مكاره مقاديره ـ وتلحف بالروتين والتعقيد حتى يصيب أهل الجامعات العشرة الأولى العجب من هذه الاجراءات، ولكن، ما لهذا الأمر من بد، في هذه المهزلة المسماة شهادات عليا.

ينتحب المئات على الفيسبوك منذ أيام، يشتمون المعترضين على القانون الفضيحة، الذي أعدته اللجنة القانونية وليس لجنة التعليم العالي! وأن كل من ينتقده موتور أو حاقد أو مستفيد، وأن الوضع خربان، ولا يقف عند هذا المعول الجديد، وهم فيما يقولون على باطل كبير مغلف بحق احمق.

بدلا من السعي لترصين التعليم، والضغط باتجاه موائمة مخرجات الكليات لسوق العمل، وإيقاف هذا السيل الاحمق من شهادات الدكتوراه والماجستير بهدف التعيين، أو العلاوة على الراتب المتشج باقتصادنا الريعي الاحمق، الأهوج، الغبي، وفي الوقت الذي نحتاج فيه إلى أن نقلل من عدد الكليات، ونلتفت للتعليم المهني، لنعزز الاقتصاد بصناعات محلية، نأتي لنعادل مليون شهادة يعلم الله عدد المضروب منها وعدد الرصين، وعدد الباحثين الحقيقيين الذين انتجتهم الدراسة وصيرتهم حملة شهادات عليا.

لا أغامر، ولا أتجنى إذا قلت أن أغلبها إنما يكون سعيا باتجاه زيادة الراتب، أو التعيين وإثقال موازنة الدولة المثقلة بـ8 مليون راتب تستحق حوالي 5 مليار دولار شهريا ـ عام 2003 كان لدينا حوالي 800 الف موظف، قبال 4 ملايين اليوم يضاف لهم المتقاعدون ـ طالب العلم الحقيقي لا يأبه إذا احتسبت شهادته أم لا، ونال عليها مال أم لا، أعرف الكثيرين من اصدقائي ممن نالوا شهادة الدكتوراه بجدارة من جامعات عريقة، وهم باحثون على قدر كبير من الابداع، ولم يعادلوا شهادتهم، ولم يأبهوا بالمعادلة، أما الناعين الداعين بالويل والثبور على كفائتهم المضيعة فيعلم الله كم منهم يستطيع كتابة مقال صغير دون أخطاء علمية، مقال مفهوم ذو قيمة.

بعض الناشرين يناولوني بين وقت وآخر اطاريح دكتوراه، وشهادات ماجستير، انجزت في الخارج، لأقيم صلاحيتها للنشر، وأصدم بما فيها من خطل علمي يبدأ من عنوان الرسالة او الاطروحة، ولا ينتهي عند المنهجية، والخطة، واللغة، وحتى في سرد المصادر واستخدام ما يتعلق منها بموضوع الدراسة ذاتها، فأعجب للمشرف واللجنة التي أجازتها، ثم يعود صاحبها وقد دمغ اسمه بميسم الدكتور، ينال الدرجة الوظيفية وعلاوتها، ثم يصمت صمت أهل وادي السلام فلا بحث ولا مقال ولا حتى فكرة مكتملة الجوانب، تامة الملبس، اقرأ هرائهم المسمى اطاريح ورسائل، فأرفضه دون تردد.

ماذا تصنع العديد من الوزارات بحملة الشهادات العليا؟ ما حاجة وزارات خدمية بحامل شهادة عليا يدير قسم مهني بحت يعتمد الخبرة العملية؟ لكم أحيي مجلس القضاء الأعلى الذي أرسى رئيسه السابق قاعدة لا محيص عنها: لا نحتاج شهادات عليا، نحتاج قضاة وكادر ينجز أمور القضاة وحسب، فيرفض طلب كل طالب للشهادة، تريد الدراسة لترضي ذاتك؟ أهلا وسهلا، خذ إجازة واذهب، ولكن لا تطلب مني احتسابها ومنحك المزيد من المال عليها.

قانون تضخيم الرواتب المسمى بمعادلة الشهادات هذا فضيحة جديدة، تضاف لفضائحنا التي لا يسترها جلد بعير بسمكه، الحق أقول لكم، أنا مع إيقاف الدراسات العليا في العراق ـ خصوصا الدراسات الانسانية ـ لعشر سنوات، لا يحتاج الباحث المجد إلى شهادة عليا ليثبت قدرته البحثية، وأن تقتصر على حقول معينة وبعدد محدود من المقاعد، وأن يتم التشدد غاية التشدد في القبول والدرس والكتابة حتى المناقشة، بذات الوقت، تلتفت كل وزارة إلى من لديها من حملة الشهادات العليا، ويتم تقييم مدى استفادة الوزارة من الشهادة تلك، وهل تستوجب مخصصات؟ وهل ينجز حاملها بحوثا قيمة؟ هل يكتب أوراق توصية تثمر قرارات تسير بالعمل قدما؟ وإلا فلا علاوة ولا مخصصات مالية لها.

وقبل ان تشتموني، أنا أول المتضررين من هذا القرار العقلاني لو اتخذ، أنجزت الماجستير فقط، وأعمل كباحث في مركز دراسات حكومي، وسيوقف القرار مسيرتي المهنية ويعرقل استحقاقا يشهد لي به كل العاملين في حقلي التخصصي.

والسلام

في البحث والباحثين، حديث من زميل محب

يحسن بي الظن الكثير من الأخوة فيطلبون رأيا في تخصصي العام، أعني العلوم السياسية، ولكن الأسئلة كثيرا ما تكون خارج تخصصي الدقيق ـ النظم السياسية، اجتماع سياسي وسياسات عامة، وكلها في الشأن العراقي ـ وهنا اعتذر بأدب عن الاجابة، ليس لأنني لا اعرفها او لأنني لا املك رأيا فيها، ولكن لاحترامي لحدود التخصص، أنا اعرف بشكل جيد تخصصي الدقيق، أعرف العراق بشكل جيد، مجتمعه، أديانه، طوائفه، المؤسسة الدينية فيه، اعرفها نظريا وميدانيا بحكم دراستي الدينية فيها، واهتماماتي البحثية، تاريخ العراق، أما اقتصاديات العراق وتاريخها، الاستراتيجيات، السياسات الدولية، والعلاقات الدولية، هذه الفروع اعرف عنها جيدا ولكنني لا أفتي فيها أبدا، ولا اكتب عنها، اعتذر عن الاستكتابات التي تردني ضمنها وإن كان فيها مكسب مالي أو سفر، ليست حقلي، وكوني قرأت فيها بعض الكتب لا يؤهلني لأن ادعي فيها وأكتب بما يرضيني، حسنا بما يرضي غروري وطموحي العلمي.

اقرأ في الفيسبوك الكثير وأتابع الكثيرين، بالنسبة لي يشكل الفيسبوك كنزا من البيانات يغنيني عن استمارات الاستطلاع او الحديث غير الضروري للناس في الشارع، لهذا اخصص له وقت طويل، هو ملعبي ومضماري وساحة صيدي، ومما لاحظته أن الكثيرين من الدارسين ـ لن اتحدث عن الجهلة الذين يدسون انوفهم في كل شيء ويكتبون عن كل شيء ـ والمتخصصين في حقول علمية معينة، وبعض من طلبة الدراسات العليا، يكتبون في كل شيء أيضا، ويقرأون بدون تنظيم، ومنشوراتهم تتطاير من التاريخ للنظم السياسية للعلاقات الدولية لتاريخ العلوم لوباء كورونا للاستراتيجيات والقوى الكبرى وصولا إلى الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون وهلم جرا!

نعم، بعضهم يقرأ في كل هذه الحقول، ودارسي علم السياسة بحاجة فعلية لهذا القدر من التنوع في القراءة، ولكن لابد من التركيز على حقل معين، حقلكم التخصصي الذي تدرسونه وستكتبون رسائلكم وأطاريحكم ضمنه، لا يُمْكِن للباحث أن يكتب في كل شيء، هذا الامر، بقدر ما فيه من تشتيت للباحث، وتضييع لقدرته البحثية التي يمكن أن تتبلور وتنمو وتبدع في فرع من حقل علمي معين فإنه وبذات الوقت فيه استهانة بالعلم والتخصص، وكلا الامرين لا يليقان بالباحث الجاد ولا يساعدانه في مسيرته العلمية ولا يمنحانه التميز المنشود.

تجدون بعض حملة الشهادة العليا يتقلبون في الشاشات يفتون في كل شيء، ولكن أيها الاحبة لو تتبعتم بعضهم لما وجدتم انهم كتبوا شيئا ذا قيمة منذ شغلهم التلفاز، باستثناء بعض اساتذتنا المحترمين من ذوي النتاج الثر.

لا تحذوا حذوهم، واقتراح ـ اكره استخدام كلمة نصيحة التي تبدوا وكأنها من عالم لغير عالم ولا احبذ استخدامها مع زملائي ـ من أخ لكم يمارس البحث العلمي والنشر والكتابة بانتظام منذ العام 2012، لا تكتبوا في كل شيء، ولا تكتبوا بكثرة، في تخصصكم العبرة بالعمق والجدة لا بالعدد، قد تجدون زميلا لكم نشر 10 كتب ولكنها غير ذات قيمة، وكان الأجدى له لو أنجز كتابا واحدا، بل بحثا واحدا مهما، ونشره في دورية مهمة، او مركز دراسات مهم، ولكان خير له وأبقى، ولكان أفادنا بالكثير بدلا من هذا السيل المهدور يمينا وشمالا، كما ان الكتابة في كل فروع التخصص هدر، وتشتت، وخطأ علمي، حددوا أنفسكم بعنصر معين وأبدعوا فيه.

أمر آخر، كما أن الجرأة واقتحام المحظور والتفكير خارج الصندوق مطلوبة للباحث، وهي معيار جودته وإتيانه بالجديد من الأفكار، إلا أن احترام القواعد مطلوب، والتأسيس على من سبقكم جزء أصيل من البحث، وبقدر ما يكون حدس الباحث مفيدا لكنه لا قيمة له بلا أدلة، ولا يجدر بالباحث الحديث عن كل ما يهجس بباله من الغث والسمين، او يستنتجه اثناء بحثه وقراءته، الافكار تنمو بالتأمل والتدبر والتثبت والتعزيز بالأدلة، حتى تولد، لا مبكرة غير ناضجة، ولا متأخرة فات ميعادها، فإذا تم لها النضج، وتوفرت لها الأدلة، والمصادر، فاعزم عليها، ولا تُضِعْها في منشور على الفيسبوك، اكتبها كبحث، وامضي في سبيلك مستقصيا فكرة أخرى، أو مؤسسا على فكرتك تلك منطلق نحو المزيد من التأصيل، وإياك والفرقعة التي يحبها بعض الناشرين، فهي باب معايشهم، ومقتلكم أيضا، إذا لم يكن لموضوعك الجريء أدلة تعززه فلا تقتحمه يا صديقي وتأتي بعمل سطحي يطير مع أول نسمة ينفخها خبير على بحثك المفرقع.

وبقدر ما يحتاج الباحث إلى القراءة في الأدب لتستقيم لغته وكتابته، فإنه يحتاج أيضا أول أمره إلى مران على الكتابة، وخير مران هو كتابة المقالات، ولكن يا رعاكم الله في تخصصكم، لا تشتتوا انفسكم بين التخصصات خارجا، والفروع داخل تخصصكم العلمي.

اقتراحي الدائم على أهل البحث هو: اكتبوا عما تعرفونه أكثر من غيره، وما تعرفونه أكثر من غيركم، والسلام.

 

من ألف باء البحث العلمي في الدراسات الانسانية

لست هنا في موضع التطرق لمناهج البحث العلمي وهي واسعة وتحتاج قراءة مستقلة، أنا هنا فقط أشير إلى جانب من طبيعة البحث العلمي، إلى صورة عن روحه مهما اختلفت المناهج.

لكي تقيم شخصية تاريخية لابد من أن تقيمها وفق معيارها الزمني، وفق متبنياتها الشخصية ذاتها، ومدى التزام تلك الشخصية بما تبنته من قيم، أن تقارن بين الفعل الحقيقي وبين القيم المعنوية، عند تلك اللحظة تطلق حكما تحرص على أن تكون نسبيا فيه، بلغة غير حدية، قابلة للنقاش والمراجعة والتراجع، وتحرص على أن تقول أن هذا رأيي الشخصي واستقرائي، وتحرص على أن تؤسس حكمك الأساس على المعيار الزمني الذي عاشت فيه تلك الشخصية، وتقرر هل التزمت بمعاييرها أم لا، وهنا تقرر ما إذا كانت تلك الشخصية قد التزمت بمعيار القيم التي تبنتها في سياقها الزمني لا بمعيار القيم الحالية التي تتبناها أنت، وأن تحاكمها بمعيارها لا بمعيارك المتخيل.

وفي كل هذا لابد أن تفهم أن اللغة البحثية في الدراسات الإنسانية بالمطلق لغة نسبية، لغة غير حدية، لا تستخدم ألفاظا قد تفقد المادة البحثية حياديتها ولابد أن تعرف أيضا أنه لكي تطلق حكما تاريخياً له قيمة فلابد أن تكون مدخلاتك البحثية واسعة ووافية، مصادر، وقائع تاريخية خضعت للتدقيق والبحث وفحص المصداقية عبر الشك ومنهج الجدل.

مثال: هل لاحظت جنابك بأنه حتى الدراسات الغربية تقسم تاريخ الحكومات الإسلامية إلى مراحل، تختلف كل مرحلة بمعاييرها؟ إذا كنت قد لاحظت ذلك فسأعطيك سببا واحداً لهذا التمييز بين المراحل، وهو تبدل مفهوم رأس الأمة، فبعد وفاة الرسول، وحتى مقتل الإمام علي، كانت الدولة مؤسسة على مبدأ (الإمام) وهو أفقه القوم وأعلمهم بالدين والدنيا، مما يعني أنك لتقيم حاكما في تلك الفترة فلابد أن تقيمه بالتزامه بالدين، وليس بمعيارك الحاضر لما تعنيه الدولة، هنا أنت تتفحص مدى التزام مسلمي الصدر الأول بالمثالية الإسلامية، وهو التزام يختلف بين الخلفاء الأربعة ذاتهم، كل بطبيعته الشخصية.

ثم بعد قيام الحكم الأموي يبدأ منهج جديد للحكم لا يتطابق بمقدار قيد أنملة مع فكرة مسلمي الصدر الأول عن القائد أو رأس الدولة لو شئت، لأنه لم يكن فقيها، ولم يكن أصلح الناس، وتحولت الرياسة إلى وراثة، بل أن اتباع الأمويين يعدون من مفاخر مؤسس الدولة الأموية أنه أول ملوك الإسلام، هنا جانبك لا يحق لك ان تقول فلان أنجح في حكمه من فلان، لسبب بسيط، الفلانين ذاتهما ينطلقان من موقف مختلف تماما، ومن نظام حكم مختلف تماما، وقيم مؤسسة مختلفة تماما، ولا يصح أن تقارن لتقيم من الأفضل، انت تقارن هنا لترى من الأكثر التزاما بمنهجه تحاكمه بالتزامه الشخصي ومدى تأثير التزامه الشخصي هذا على ما تفترضه أنت نجاحا، وما قد يفترضه غيرك فشلا، المقارنة هنا بين (النجاح والفشل) غير دقيقة، لأن (صورة النجاح) تختلف عند من وجدته “فاشلاً” وإنك إذا اطلقت حكما خاطئا، بمعيار خاطئ فإن النتيجة هي رد فعل عكسي قد يهدم ولا يبني.

مثال ثاني: حول الكلمات التي تُفقد تحليلك حياده وقيمته، انظر مصطلح (ميليشيا)، بالرغم من أن هذا المصطلح محايد في اللغة الانجليزية والذي لا يتضمن موقفا مسبقا من الموصوف به، إلا ان الاستهلاك الإعلامي العربي له بطريقة تنطوي على موقف سياسي مسبق قد أفقدته حياده وخلخلت قيمته الأكاديمية، لأن الخطاب الأيديولوجي الذي أسبغ صفة سلبية مسبقة على المصطلح جعله بهذه الكيفية غير صالح للاستخدام الأكاديمي الذي يفترض التجرد بالمصطلح، فكيف يمكن أن يتحقق التجرد عبر استخدام مصطلح دلالته لم تعد متجردة في اللسان العربي؟ على هذا أميل دوماً إلى استخدام مصطلح (فصائل غير نظامية) الذي يؤدي ذات المعنى بتجرد, ينظر:

International Encyclopedia of the Social Sciences, William A. Darity Jr. editor in chief (New york: Macmillan reference, 2008) vol5 ,P163

 

 

 

 

عن المحافظين الجدد والببغاوات العرب

تيار المحافظين الجدد واليمين الأمريكي لهم ما يبرر وجودهم في بيئتهم الاجتماعية والسياسية، كمدرسة لها معالمها، وتيار له تاريخه، وترميزاته الفلسفية، ونظرياته الاقتصادية المنسجمة مع كل ما ذُكر، وفي سياقه الاجتماعي لا يبدو عجيبا صعوده ووجود أكاديميين لامعين نظّروا له، ووضعوا مؤلفات دسمة في ربطه بجذوره التاريخية في أوربا، بل إن واحدا من أكبر منظريه يعد أبرز متخصص بنيكولا مكيافيلي، وأكثر الأكاديميين فهما له، كجزء من انسجامه مع التراث الفلسفي اليوناني والأوربي الوسيط وحين أراد بعض طلابه الاحتفاء به قاموا بإعداد كتاب ضم مجموعة من الدراسات عن فلاسفة العصور الوسطى والحديثة وأطلقوا عليه (تعليم الأمير) في إشارة إلى (الأمير) كتاب مكيافيلي، وهذا الأكاديمي هو هارفي مانسفيلد.
ما يصيبني بالحيرة هم العرب، والعراقيين بشكل خاص فيما يبدو، الذين ما إن تعلم واحدهم كيف يستعمل مواقع التواصل الاجتماعي، إلا وطفت عقده على سطح استيعابه العقلي، وانخرط بمتابعة مجموعة من المتطفلين على المعرفة والبحث، الذين يجيدون اللغة الانجليزية، والذين يبدأون صباحهم بجولة في مواقع المحافظين الجدد، يحفظون ما يجدوه هناك، ثم ـ وكأي ببغاء نجيب ـ يعيدون قوله لأتباعهم العرب، الذين لا يستطيعون التفريق بين المدارس الفكرية ضمن العنوان الواحد، فيظنون ان المدرسة الليبرالية واحدة، والاشتراكية واحدة، والرأسمالية واحدة، ويلعنون كينز أكثر من لعنهم لماركس جريا على سنة ميلتون فريدمان، وفوق ذلك كله لا يعرفون انهم ـ مرة أخرى ـ كأي ببغاء شاطر يكررون مقولات مدرسة تحتقرهم كعرق وثقافة ضمن حضارة معينة، ولا يعرف ثلاثة أرباعهم من هو هارفي مانسفيلد!
هم في الحقيقة يذكروني بصنف آخر من العرب معجب بهتلر ويضع صوره حيث ما مر، وهم لا يعرفون ان هتلر لو ظفر بهم لقام بقليهم في “الطاوة” بدون زيت.
#اركض_يعامر_اركض
#انبياء_اليوتيوب_والفيسبوك_واتباعهم
#ببغاوات_نجيبة
#محافظون_جدد

تجارب واعتذارات ثلاثينية

كنت عازما أن أبدا يومي هذا بالسخرية من صفحة على الفيسبوك مرت أمامي صدفة اسمها (نقد العقل العراقي)، وأردت ان اسلق الصفحة بالقول أنها أبعد ما تكون عن الفهم، وعن النقد وعن العقل، لكن (تاريخ اليوم) ذكرني بأني لم أكن اختلف عن هذا الفتى الذي يديرها، من الواضح انه فتى صغير، صغير نضجا وتفكيرا ومعرفة على الأقل، من الواضح ان مصادر معلوماته محدودة وضيقة، وأنه قد انتقل بعنف من خندق إلى آخر، ولكني لم أكن أقل إيمانا منه بالمطلقات، وكانت الأمور بالنسبة لي ـ كشخص درس المنطق الأرسطي ـ إما ان تكون سوداء أو بيضاء، واحتجت الى وقت طويل، والكثير من التعلم والقراءة، والكثير من السفر والتعرف إلى الآخر قبل أن أبدا بفهم نسبية الأشياء، وارتباط تاريخ الأمم بسياقها، وتلون عقائدهم بتجاربهم الجمعية، احتجت الى الكثير من الكتب، والكثير من الكتب التي ترد على الكتب الأولى، انبهرت بمحمد عابد الجابري، ثم بعثر جورج طرابيشي ذلك الانبهار، وبصّرني بأن الإنسان ومهما بلغ من العلم، فإنه لا يتخلص تماما من ذاته، وإن حرصه على ذاته مدمر ما لم يحرص على ذات الآخرين بالطريقة نفسها، ورجعت لأحاسب نفسي، وأراجع أخطائي المعرفية، قبل أن اسلق من لم يتهيأ لهم من الظروف الطيبة ما تهيأ لي ومكنني من التعلم، ومعرفة أدوات العلم.

على مستوى بسيط، وجدتني قبل أيام قد سخرت بعنف من شخص متواضع المعرفة ولكنه يدعيها، رغم اني في الظروف الاعتيادية أكره ما أكره أن اسخر من الآخرين، وبررت لنفسي تلك السخرية بأن الرجل كان يسخر من مفكرين عظماء عجز بتفكيره المحدود عن فهمهم، لذلك فالسخرية حق فيه، ولكني كنت مخطئاً، لأن السخرية ليست أداة المعرفة المثلى، ولأن المتخندقين يزدادون ضرواة لو هاجمت خنادقهم وهم فيها، ولأن قليلي المعرفة انتحاريون فكريا بطبعهم، ولا يجدر بالباحث عن المعرفة إن يعترك معهم بهذه الطريقة، وإن الأفضل مع أمثاله هو تركهم، ومحاولة الحوار مع الشباب الدائرين في فلكهم، ثم وجدتني اسرد تجربة شخصية مع طبيب أراه جشعا، ورغم ما انفقته في مراجعتي له لم أشف، لكني شفيت على يد طبيب آخر كان غاية في النبل، فنبهني صديق عزيز الى أنني اسرد تجربة شخصية قد أجدها معكوسة عند شخص آخر مع ذات الطبيبين، ووجدتني مخطئ مرة أخرى، فأعتذرت له وأغلقت المنشور.
نحن في النهاية بشر، خطاءون، ولسنا آخر الأمر سوى مجموع أخطائنا، وقد تحولت الأخطاء الى تجارب، وصارت اعتذاراتنا عنها هي الأمر الوحيد الذي يمنحها السماح من الآخرين.

الصورة للمبدع العراقي مرتضى ﮔـزار

أن تكون مفكرا على الطريقة الامريكية!

علي المعموري

الفلاسفة الامريكان العظام لم يكونوا ممثلين للروح الامريكية والفكر السياسي الامريكي، والحقيقة انهم يبينون بأنهم امتداد لجذور الفكر الانساني الاوربي في الأرض الامريكية ولا ينتمون إلى الروح التي صار إليها النظام السياسي الامريكي اليوم، انهم يمثلون الفرادة الامريكية في الانفتاح والاندماج واستقطاب الجميع، ولا يمثلون العنجهية الأمريكية الحكومية.

سام هاريس وأضرابه يمثل جناحا يدعي الفكر والفلسفة من اجنحة السياسة الخارجية الامريكية، ذات الاسلوب الفظ والعنجهية المتعالية، واليقينية المطلقة وهو لا يختلف عن مفكرين آخرين خانوا العلم بوضعه في خدمة المصالح السياسية القذرة مثل برنارد لويس وصامويل هينتغتون وهنري كيسنجر وفرانسيس فوكوياما وعراب الشر المالي ميلتون فريدمان، وعصابة المجرمين من المحافظين الجدد، حتى صار الاجرام يرتكب باسم العلم بما وضعوه من فذلكات تشبه فتاوى المكفرين من اتباع الدينات، ولكن ربهم الذي تسفك باسمه الدماء وتستباح العدالة والانسانية هذه المرة هو الدولار والطغيان السياسي على الآخرين الذين تمارسه حكومة الولايات المتحدة، لا يختلف عنهم سوى بأنهم كانوا مفكرين متخصصين، وكان هو متطفل على فكرهم متجاوز لدوره الأساس، ووصفه بالفيلسوف على حد سواء مع ابن سينا وابن رشد والكندي وهيغل ونيتشه وهايدغر هو جريمة مقرفة.

هناك أمريكان عظام، تعلمت منهم ولا زلت اتعلم كل يوم.

كيف لا وديفيد استون، وغابرييل الموند وكارل دويتش وروبرت داهل هم امريكيون، كيف لا وحنا ارندت، وميرسيا انياد والعظيم جون مينارد كينز واينشتين وغيرهم مارسوا أعظم تأثير على حياتنا عبر أمريكا، ولعلهم لم يكونوا ليأتوا بذلك التأثير عبر بلدانهم.

كيف لا وكبيرهم وليم فوكنر، الكاهن الأكبر في عالم الرواية.

كيف ننكر فضل اديسون ويوناس سولك وأمثالهم من العظماء الذين كان همهم العلم والانسان؟

كيف للمرء ان يتجاوز الجمال الكبير الذي منحته لنا هوليود والكثير من ممثليها، في الكثير من الافلام العظيمة؟

ولكن هؤلاء العظماء كانوا ممثلين لروح الطيبة في المجتمع الأمريكي، ولم يكونوا جزءا من الفظاظة والاستعلاء الذي تخرب حكومة الولايات المتحدة به العالم كل لحظة، وبعدة طرق، مرة بالمارينز، ومرة بنجوم اليوتيوب المتطفلين على الفلسفة والفكر.

اعرف انني احتككت برب جديد، ولا يهمني سُباب عباده، بذات الطريقة التي لا يهمني أيضا سباب عباد ربي الذي اعبد حين اعبده كما لا يفعلون.

[أعلاه صورة لعظام لا زلنا عيال عليهم، لهم الخلود في العلى، لا زال سام هاريس وصاحبه البريطاني يخوضان في بحورهم، كم واحد من هؤلاء العلماء الأجلاء كان شتاما مسفها فحاشا متطفلا مثل الآخرين المعنيين؟ والصورة هذه تم التقاطها في مؤتمر سولفاي سنة 1927]

الاثنين 21/ 12/ 2015

الحديث في الشأن العام بين التخصص والإلمام

علي المعموري

قبل كل شيء، لا قيمة لما نتعلمه في الجامعات والمعاهد وما نقرأه؛ إذا لم يؤثر على طريقة فهمنا للحياة، وطريقة تفكيرنا بالمحل الأول، حسنا؛ انا اتفهم ان نظامنا التعليمي لا يمنح تلك القدرة على تكوين عقل نقدي، فهو نظام تلقين، يمنح حرفا أكثر مما يمنح معرفة، وقد أكون مخطئا بطبيعة الحال.

رغم ذلك، إلا انه وعلى الأقل يجدر بمن نال تعليما يتعلق بالعلوم الانسانية التي هي في محل حضور يومي، مثل القانون والسياسة والاقتصاد وغيرها يجدر به أن يجعل مما تعلمه معيارا للفهم، والقول بعد الفهم، كما يفترض بنظيره خريج الهندسة ان يفعله مع حقله، هذا على أقل التقادير، ومع الذهاب إلى أن نظامنا هو نظام تعليم، وليس نظام تفكير ومعرفة.

كما ان ذلك ينبغي أن يعرفنا بحدودنا، وأن لا نتطفل على ملاعب الآخرين، يعني مثلا داعيكم، خريج علوم سياسية، فضولي اقرأ تقريبا بكل ما يخصني وما لا يخصني، ناهيك عن كون تخصصي العتيد يتطلب الكثير من المداخل لفهم موضوعه، يعني ضروري ان يطلع المرء منا أهل هذا التخصص على الاقتصاد والتاريخ والفلسفة والاجتماع والانثروبولوجيا والقانون وغيرها، لأنك ستجدها حاضرة في كل شيء يتناوله علم السياسة.

ولكن هل أزج نفسي بالحديث بكل ما يتعلق بهذه العلوم، على الاطلاق، ولا أقول رأيا فيها إلا بمقترب سياسي، يعني مثلا هل يمكن لي ان اقول رأيا بالاقتصاد والسياسة النقدية؟ على الاطلاق، لي متبنياتي الشخصية هنا، التي كونتها على أساس علمي وليس شخصي وحسب، إذ انني اذهب مذهب كينز وجماعته الكينزيون، وانفر نفوراً لا حد له – بمنطلق سياسي أولا –  من الرأسماليين، من ادم سميث وصولا إلى ميلتون فريدمان دون ان ابخسهم حقهم أو ان انتقص من علمهم، واذهب – ولا أقول أنها الحقيقة القاطعة – إلى أن الرأسمالية المطلقة قد لحقت آدم سميث إلى قبره مهما صال وجال المحافظون الجدد واتباعهم من المرددين العرب، ذهبت لأسباب سياسية وليست اقتصادية، واتباعي لمدرسة كينز، وتقييمي لمخرجاتها يتناول الأثر السياسي لتلك المخرجات، ما يؤثر فيه الاقتصاد على سياسة الدولة وليس الآثار الاقتصادية التطبيقية البحتة، فهذا ليس تخصصي، ولا أجرؤ أن أقول بوجه أكاديمي متخصص بالاقتصاد انا اظنك مخطئ وأني اتبع كينز أو ميلتون فريدمان لأن هذا أو ذاك اقدر على فهم الاقتصاد، انا لا اتكلم حول الاقتصاد إلا بالقدر الذي تتعلق فيه العمليات الاقتصادية بالسياسة وحسب، أكثر من ذلك، انا متخرج من قسم النظم السياسية، وأملك فهما يمكن أن أقول انه لا بأس به حول بقية أقسام العلوم السياسية، لكني لا أبدي رأيا علميا في شؤون تلك الأقسام، ولا أكتب فيما تتناوله، لأنه ليس ملعبي.

هناك أمر مهم، وبالتأسيس على وصف الجاحظ للأديب بأنه (من يمسك من كل شيء بطرف) وهو ما وضعته اليونسكو لوصف المثقف بأنه من (يلم من كل شي بشيء)، ولكن هذا لا يعني ان ذلك الإلمام يتيح لصاحبه أن يدلي برأي علمي حول كل شيء، ولا يعني أنه امتلك رؤية تؤهله ليطلق أحكاما قطعية أمام آراء أهل الاختصاص، الذين قضى واحدهم نصف عمره في تفحص حقل علمي معين مرارا وتكرارا، ولديهم من الإلمام بالأشياء الأخرى قدرا قد يكون أكبر من صاحبنا الذي (يلم من كل شيء بشيء) ويتخصص بشيء واحد مختلف، مما يعني أنني لن أسأل مختصا بالقانون حول السياسة، ولا متخصصا بالسياسة حول الاقتصاد، ولا متخصصا بالاقتصاد حول الطب، ولا متخصصا بالطب حول أي من هذه الأمور، قد استمع لرأيه في هذا الجانب، وقد يكون صوابا في موضع معين حالفه الرأي فيه، ولكن ذلك لا يعني انه مصيب في بقية أحكامه في غير تخصصه، ولا أتكلم هنا عن تقييم لحالة معينة خصوصا، ولكن أغلب كلامي منصب على النقاش في قواعد تلك العلوم، وليس بما تناقشه.

وهذا لا يعني أن كل صاحب اختصاص لا يفهم إلا باختصاصه، فهناك استثناءات لامعة، تعلمنا ولا زلنا نتعلم منهم، ولكن نتاجهم المعرفي هو ما يدلل عليهم، وليس هذر مواقع التواصل الاجتماعي.

ولكي لا أطيل اختم بالقول أن البعض لا يفرق بين السياسة، وبين علم السياسة، وما يتطلبه الأخير من معرفة لكي تمتلك رأيا يمكن الركون له، والدليل الأساس على معرفة قليل المعرفة والذي يظهره لك دون مواربة هو: أنه يعد نفسه على صواب وأنك على خطأ، وصوته عال في النقاش، وكلماته بذيئة في الكتابة، هجومي لا يتيح لك نقاشه، ولا يمكن ان يقول انه مخطئ مهما دللت على خطأه، قليل المعرفة، الذي يعرف تطفله على اختصاص الآخرين سيقول لك انك جاهل، وانك لا تعرف شيئا حتى لو كنتتحمل دكتوراه في التخصص الذي تطفل عليه، فدعه، لأن المحترم سيحترم حدوده، ووحده الفيسبوك من أتاح له ولأمثاله تسفيه آراء أهل الاختصاص وأن ينشر تطرفه في زمان التطرف هذا، دعه واشتر راحة البال بالسكوت.

[بالمناسبة، وما دام الجاحظ قد جحظ في سياق الحديث، فالرجل طبق قاعدته على نفسه، وكتب حول كل شيء تقريبا، من الأدب إلى الحيوان إلى التاريخ وغيرها، لكنه تلقى نقدا لاذعا من مؤرخ مقتدر هو المسعودي، الذي سلقه بلسان حاد وهاجم تنقله بين التأليف والتطفل على كل العلوم، وسفه مدوناته التاريخية تسفيها تاما بمعيار نقدي من متخصص، والأمر بينكم وبين المسعودي ولا دخل لي فيه]

(الرسم للفنان والروائي والمخرج العراقي المبدع مرتضى كزار)

 

HOME ملاحظات تأسيسية (الأخيرة)

(3) هل الولايات المتحدة بحاجة لسلاح سري يتلاعب بالمناخ؟

في حقيقة الأمر، فإن الصناعة لم تعد وحدها من يستنزف الأرض، ويفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، بل ان الزراعة التجارية تسهم بدورها بذلك، فتجريف الغابات الكبيرة التي تشكل رئة العالم من أجل زراعة نخيل الزيت، أو فول الصويا على سبيل المثال، أو بيوت زراعة الخضروات المغطاة في أوربا، صارت تضارع الصناعة بالمساهمة بالخراب؛ وبعدة صور، مثل كسر التنوع الأحيائي الضامن للتوازن، واستنزاف الموارد المائية، وزيادة ظاهرة الاحترار وذوبان الجليد في القطبين المنجمدين، مما يجعلنا نتأكد ان ما تتحدث عنه بعض النظريات من امتلاك الولايات المتحدة لمشاريع تسليح تقوم على استغلال المناخ، وإحداث تغيرات في درجات الحرارة بفعل إنساني وإن ما تشهده بلداننا من ارتفاع في درجات الحرارة راجع لتلك البحوث السرية أمر ليس باليسير تصديقه، فالولايات المتحدة بما تصنعه من تلوث وتخريب للبيئة تزيد من الاحترار دون الحاجة إلى تخصيص ميزانية مفردة لهذا الأمر.

وخلاصة كل ما مر، أن الانسان إذا ترك لذاته فسيخرب كل ما حوله، وسيقتل كل ما يحيط به وصولا إلى قتل نفسه، وإن القواعد العلمية التي يريد البعض أن يجعل منها أخلاقا غير مقنعة، في ظل الطريقة التي قاد بها الانسان التقدم العلمي إلى اتجاهات تتنافى والروح الأخلاقية التي يجب أن تحكمه، العلم مجرد، وبطبيعته غير محدود، ولا يعترف بالحدود، ولكن الحدود هي أساس الحياة، لأنها تضمن التوازن، التوازن الذي يتطلب منظومة صارمة من القوانين بالنسبة للانسان، سمها أخلاقا، سمها دينا، سمها ما تشاء، ويتطلب للجماد الذي لا يمتلك عقلا يؤهله للانضباط قوة عليا تحكم وضع قواعده، وتنظم سيره وتوازنه، سواء آمنتم بالأديان أم لم تؤمنوا، لكني غير مقتنع ان هذا النظام الدقيق الذي استمر لآلاف السنوات هو نتيجة تجارب كائنات غير عاقلة.

الأديان ومشاكلها لا علاقة لها بالإيمان.

الثلاثاء 30/ 7/ 2015

الصور من الوثائقي

11

HOME ملاحظات تأسيسية

(2) التقدم العلمي: بين جشع الإنسان، والتحرر من القيود الأخلاقية

الملاحظة الثانية، تتعلق بالتقدم العلمي، واستنزافه المفرط للموارد الطبيعية، وهنا أريد الإشارة إلى أمر بالغ الحساسية والدقة، وهو أن عصر النهضة ــ الذي قاد إلى الثورة الصناعية ــ رغم انه نحّى الكنيسة والدين وقواعده جانباً، إلا أنه كان عصر الفلسفة، التي حلّت محل الدين، وأسست للدولة الحديثة وقوانينها ــ كما كتبت مرة هنا ــ وشكلت القواعد الأخلاقية التي أسس لها الفلاسفة كابحاً للتطرف في التجريب العلمي وفق أهواء الإنسان، ولكن ما حدث لاحقا أن الجشع انتصر على الفلسفة والاخلاق، وإن العلم صار مسخّراً اليوم من قبل الشركات الكبرى للمزيد من الاستنزاف للموارد، كنتيجة بديهية لغياب الأخلاق عنه، ثم سخرية بعض العلماء الطبيعيين من المنظومة الفلسفية ومحاولتهم تقديم بديل قيمي يستند للمختبر العلمي، المجرّد والثابت بطبيعة تعامله مع المواد ذات الطبيعة الثابتة، التي لا تتغير إلا بظروف استثنائية، عكس الانسان المتغير بطبيعته، طبقا لإرادته الحرة، وكل هذا قادنا اليوم لنصل إلى موقف صار العلم ضمنه خاضعا لجشع الإنسان بدلا من أن يكون خاضعا للقيم الأخلاقية، سواء جاء بها الدين، أم وضعتها الفلسفة، وصارت القوانين ــ المستندة لمبادئ فلسفية في الغرب ــ تبعا لذلك تطبق في أرض، ويتم تجاهلها في أرض أخرى، بانتقائية تزيح فكرة العدل التي تشكل جوهر القانون، ليهجم أصحاب رؤوس الأموال وشركاتهم العابرة للقارات على الدول المتخلفة، الغنية بالموارد البشرية والطبيعية، بحثا عن الأيدي العاملة والموارد الرخيصة، وبتعسف شديد تحميه الانظمة السياسية في تلك الدول، بعد ان تشددت الدول الأوربية في وضع قوانين حماية البيئة، أو هربا من الضرائب والأجور العالية في الولايات المتحدة، والنتيجة ان هذه الشركات الكبرى التي نشأت في حضن الديمقراطية والحريات، تتحالف مع أكثر الانظمة تخلفا ودموية، وتوفر لها الحماية الدولية، عبر زواج المال والسلطة، لتستمر في استنزاف موارد تلك الدول، فتذهب الأرباح إلى المصارف الأوربية والامريكية مرة أخرى، ويتم تمويل البحث العلمي لأغراض عسكرية أو تجارية، ولا ينال من إنجازاته سوى مواطني ذات الدول الغربية، وجشع القيم الاستهلاكية الذي يستمر باستنزاف الأرض ومواردها، وبذات الوقت يستمر بتغذيته للتخلف والأنظمة الاستبدادية في العالم الفقير، ثم نعود ونلقي باللائمة على شعوب تلك المناطق بمفردها.

ملخص [نمط الحضارة الاستهلاكية الذي نعيشه اليوم هو نمط غربي، نتيجة للانفلات في تغذية التقدم العلمي ليخدم الإثراء الفاحش، بدلا من ان يكون وسيلة لجلب السعادة والتوازن، فالممولون الكبار للبحث العلمي هم الشركات الكبرى، والخاسر الأكبر هي الدول المتخلفة الغنية بالثروات، والتي التفت لها المتوحشين الغربيين وخرّبوا أراضيهم بعد أن قمعتهم القوانين في دولهم الأساس، ومنعتهم من ممارسة وحشيتهم وجشعهم على البيئة الأوربية والإنسان الأوربي، أو بعد ان استنزفت موارد بعض الدول الأوربية التي تم تعدينها ابتداءا من عصر النهضة عدا دول معينة في أوربا مثل النرويج والسويد].

يتبع

(الصور من الوثائقي)

رفع3