الحديث في الشأن العام بين التخصص والإلمام

علي المعموري

قبل كل شيء، لا قيمة لما نتعلمه في الجامعات والمعاهد وما نقرأه؛ إذا لم يؤثر على طريقة فهمنا للحياة، وطريقة تفكيرنا بالمحل الأول، حسنا؛ انا اتفهم ان نظامنا التعليمي لا يمنح تلك القدرة على تكوين عقل نقدي، فهو نظام تلقين، يمنح حرفا أكثر مما يمنح معرفة، وقد أكون مخطئا بطبيعة الحال.

رغم ذلك، إلا انه وعلى الأقل يجدر بمن نال تعليما يتعلق بالعلوم الانسانية التي هي في محل حضور يومي، مثل القانون والسياسة والاقتصاد وغيرها يجدر به أن يجعل مما تعلمه معيارا للفهم، والقول بعد الفهم، كما يفترض بنظيره خريج الهندسة ان يفعله مع حقله، هذا على أقل التقادير، ومع الذهاب إلى أن نظامنا هو نظام تعليم، وليس نظام تفكير ومعرفة.

كما ان ذلك ينبغي أن يعرفنا بحدودنا، وأن لا نتطفل على ملاعب الآخرين، يعني مثلا داعيكم، خريج علوم سياسية، فضولي اقرأ تقريبا بكل ما يخصني وما لا يخصني، ناهيك عن كون تخصصي العتيد يتطلب الكثير من المداخل لفهم موضوعه، يعني ضروري ان يطلع المرء منا أهل هذا التخصص على الاقتصاد والتاريخ والفلسفة والاجتماع والانثروبولوجيا والقانون وغيرها، لأنك ستجدها حاضرة في كل شيء يتناوله علم السياسة.

ولكن هل أزج نفسي بالحديث بكل ما يتعلق بهذه العلوم، على الاطلاق، ولا أقول رأيا فيها إلا بمقترب سياسي، يعني مثلا هل يمكن لي ان اقول رأيا بالاقتصاد والسياسة النقدية؟ على الاطلاق، لي متبنياتي الشخصية هنا، التي كونتها على أساس علمي وليس شخصي وحسب، إذ انني اذهب مذهب كينز وجماعته الكينزيون، وانفر نفوراً لا حد له – بمنطلق سياسي أولا –  من الرأسماليين، من ادم سميث وصولا إلى ميلتون فريدمان دون ان ابخسهم حقهم أو ان انتقص من علمهم، واذهب – ولا أقول أنها الحقيقة القاطعة – إلى أن الرأسمالية المطلقة قد لحقت آدم سميث إلى قبره مهما صال وجال المحافظون الجدد واتباعهم من المرددين العرب، ذهبت لأسباب سياسية وليست اقتصادية، واتباعي لمدرسة كينز، وتقييمي لمخرجاتها يتناول الأثر السياسي لتلك المخرجات، ما يؤثر فيه الاقتصاد على سياسة الدولة وليس الآثار الاقتصادية التطبيقية البحتة، فهذا ليس تخصصي، ولا أجرؤ أن أقول بوجه أكاديمي متخصص بالاقتصاد انا اظنك مخطئ وأني اتبع كينز أو ميلتون فريدمان لأن هذا أو ذاك اقدر على فهم الاقتصاد، انا لا اتكلم حول الاقتصاد إلا بالقدر الذي تتعلق فيه العمليات الاقتصادية بالسياسة وحسب، أكثر من ذلك، انا متخرج من قسم النظم السياسية، وأملك فهما يمكن أن أقول انه لا بأس به حول بقية أقسام العلوم السياسية، لكني لا أبدي رأيا علميا في شؤون تلك الأقسام، ولا أكتب فيما تتناوله، لأنه ليس ملعبي.

هناك أمر مهم، وبالتأسيس على وصف الجاحظ للأديب بأنه (من يمسك من كل شيء بطرف) وهو ما وضعته اليونسكو لوصف المثقف بأنه من (يلم من كل شي بشيء)، ولكن هذا لا يعني ان ذلك الإلمام يتيح لصاحبه أن يدلي برأي علمي حول كل شيء، ولا يعني أنه امتلك رؤية تؤهله ليطلق أحكاما قطعية أمام آراء أهل الاختصاص، الذين قضى واحدهم نصف عمره في تفحص حقل علمي معين مرارا وتكرارا، ولديهم من الإلمام بالأشياء الأخرى قدرا قد يكون أكبر من صاحبنا الذي (يلم من كل شيء بشيء) ويتخصص بشيء واحد مختلف، مما يعني أنني لن أسأل مختصا بالقانون حول السياسة، ولا متخصصا بالسياسة حول الاقتصاد، ولا متخصصا بالاقتصاد حول الطب، ولا متخصصا بالطب حول أي من هذه الأمور، قد استمع لرأيه في هذا الجانب، وقد يكون صوابا في موضع معين حالفه الرأي فيه، ولكن ذلك لا يعني انه مصيب في بقية أحكامه في غير تخصصه، ولا أتكلم هنا عن تقييم لحالة معينة خصوصا، ولكن أغلب كلامي منصب على النقاش في قواعد تلك العلوم، وليس بما تناقشه.

وهذا لا يعني أن كل صاحب اختصاص لا يفهم إلا باختصاصه، فهناك استثناءات لامعة، تعلمنا ولا زلنا نتعلم منهم، ولكن نتاجهم المعرفي هو ما يدلل عليهم، وليس هذر مواقع التواصل الاجتماعي.

ولكي لا أطيل اختم بالقول أن البعض لا يفرق بين السياسة، وبين علم السياسة، وما يتطلبه الأخير من معرفة لكي تمتلك رأيا يمكن الركون له، والدليل الأساس على معرفة قليل المعرفة والذي يظهره لك دون مواربة هو: أنه يعد نفسه على صواب وأنك على خطأ، وصوته عال في النقاش، وكلماته بذيئة في الكتابة، هجومي لا يتيح لك نقاشه، ولا يمكن ان يقول انه مخطئ مهما دللت على خطأه، قليل المعرفة، الذي يعرف تطفله على اختصاص الآخرين سيقول لك انك جاهل، وانك لا تعرف شيئا حتى لو كنتتحمل دكتوراه في التخصص الذي تطفل عليه، فدعه، لأن المحترم سيحترم حدوده، ووحده الفيسبوك من أتاح له ولأمثاله تسفيه آراء أهل الاختصاص وأن ينشر تطرفه في زمان التطرف هذا، دعه واشتر راحة البال بالسكوت.

[بالمناسبة، وما دام الجاحظ قد جحظ في سياق الحديث، فالرجل طبق قاعدته على نفسه، وكتب حول كل شيء تقريبا، من الأدب إلى الحيوان إلى التاريخ وغيرها، لكنه تلقى نقدا لاذعا من مؤرخ مقتدر هو المسعودي، الذي سلقه بلسان حاد وهاجم تنقله بين التأليف والتطفل على كل العلوم، وسفه مدوناته التاريخية تسفيها تاما بمعيار نقدي من متخصص، والأمر بينكم وبين المسعودي ولا دخل لي فيه]

(الرسم للفنان والروائي والمخرج العراقي المبدع مرتضى كزار)

 

تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (4)

القسم الرابع… علي المعموري

ثالثا: المرأة والطفل والخدمات الصحية.

تشكل هذه الثلاثية متلازمة ضرورية واكيدة في عملية التنمية فبدون المرأة التي هي نصف المجتمع لا يمكن ان تسير التنمية بصورة ايجابية وذلك لأن المرأة هي الحاضنة الاولى لبناة المستقبل كما ان هناك امورا ومهام لايمكن لغير  النساء ادائها ضمن مجتمعات اسلامية محافظة وضربت عمان مثلا يستحق التقدير في هذا المجال ولو من حيث الشكل العام لجهودها في تطوير قدرات المرأة وتعليمها تعليما يوازي مايناله الرجل وفي جميع التخصصات وكذلك على المستوى الاداري والسياسي حيث ان عمان من اوائل الدول العربية التي اعطت المرأة حق التصويت والترشيح للسلطات التشريعية وسبقت دولا خليجية تلعب الحياة البرلمانية فيها دورا كبيرا وفاعلا ـ مثل الكويت ـ حيث بدأت التجربة العمانية بالسماح للنساء بالمشاركة تمثيلا وتصويتا في انتخابات مجلس الشورى الاولى (1994) ولكن في ولايات العاصمة الست فقط. اما في انتخابات (1997) فقد سُمح بالمشاركة التامة لكل النساء وبلغت نسبة تمثيلهن حوالي (10%) على مستوى البلاد وإن ظلت مساهمتهن محدودة حيث اقتصرت على (27) امرأة من بين (736) اي بنسبة (3,66%).

الى جانب ذلك تشغل النساء اربعة مناصب وزارية (سنة 2007) هي وزارات التعليم العالي والسياحة والتنمية الاجتماعية ورئيسة الهيئة العامة للصناعات الحرفية إضافة الى مكان المرأة التقليدي ضمن مجلس الشورى وعضويتها ضمن مجلس الدولة ومجلس ادارة غرفة تجارة وصناعة عمان ومجلس رجال الاعمال الى جانب مناصب رفيعة في الجهاز الاداري للدولة والادعاء العام ومجالس ادارة بعض مؤسسات القطاع الخاص.

من جانب آخر تشكل برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية جزءا هاما من منظومة رعاية المرأة فقد تم تخصيص معاشات شهرية ضمن قانون الضمان الاجتماعي تصرف للارامل والايتام والعاجزين عن العمل والمطلقات واسر السجناء وغيرهم ممن لايوجد لديهم معيل ملزم وقادر على الانفاق عليهم وقد تم تخصيص (16) قطعة ارض عام (2005) لأسر الضمان الاجتماعي إضافة الى منح اخرى مثل منحة العيدين ومنحة تأدية فريضة الحج والمساعدات المالية الطارئة والاعفاء من رسوم الخدمات الجامعية للابناء على نفقة الدولة وغيرها من الامور بالاضافة الى ذلك بدأت برامج تطوير مهارات النساء ضمن بعض القطاعات البسيطة والواسعة الانتشار في نفس الوقت على سبيل المثال برامج تعليم الخياطة التي ادت الى ان تسيطر النساء العمانيات سيطرة شبه تامة على هذا القطاع.

وما يتعلق بالطفولة، وفي نفس السياق، فقد خطت عمان خطوات كبيرة في هذا الموضوع فأولا نظرت بعين الاهتمام مشاكل المعاقين حيث تأسست دار رعاية الاطفال التي تخدم الاطفال في سن (3ــ14) سنة اضافة الى مراكز الوفاء الاجتماعي وهي مراكز تطوعية اهلية ترتكز على تأهيل المجتمع المحلي لرعاية المعوقين ويستفيد منها اكثر من (1870) طفلا وطفلة معاقة وحققت عمان ميداليات ذهبية وبرونزية عديدة في مباريات المعاقين الدولية في عدد من دول العالم.

وايضا فقد اعيد تشكيل وتحديد اختصاصات اللجنة الوطنية لرعاية الطفولة والتي انبثقت منها لجنة متابعة تنفيذ بنود اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عمان عليها ووصلت بيوت رعاية الطفل والحضانات حتى الى المناطق الريفية.

وهناك ايضا دار رعاية الطفولة التي تخدم الايتام وايضا نظام الاسر البديلة التي تحتضن الاطفال الايتام ضمن نطاقها وتلعب دورا هاما في رعاية الطفولة.

اما قطاع الخدمات الصحية فهو  من اهم القطاعات التي حققت تطورا واسعا وملموسا في كل ميادين الرعاية الصحية. واعتمدت عمان نظام توفير الرعاية الصحية الاولية كمدخل اساس للرعاية الصحية بكافة مستوياتها وبدرجة عالية من الجودة في مختلف مناطق السلطنة  حيث توفر (49) مستشفى ـ منها (13) مستشفى مرجعي ـ تشكل نسبة (90%) من اجمالي المستشفيات في السلطنة وفق احصائيات عام (2007) وتقدم المراكز والمجمعات الصحية والعيادات الخارجية بالمستشفيات الرعاية الصحية الاولية والفاعلة والجيدة وتنتشر في كل مناطق عمان.

والمستوى الثاني تقدمه المستشفيات المرجعية في عشر مناطق صحية وهي توفر رعاية اكثر مهارة وتخصصا وفي المستوى الثالث للرعاية الصحية توجد المستشفيات التخصصية وهي مستشفيات تتخصص بتقديم رعاية صحية ذات تقنية عالية في احد المجالات الصحية خاصة. وهي تنقسم الى ثلاث مستشفيات: مستشفى خولة يتخصص بجراحة الحالات الدقيقة المتعلقة بالعظام والمخ والاعصاب والتجميل والحروق وغيرها ومستشفى النهضة لجراحات الانف والاذن والحنجرة والعيون والاسنان والامراض الجلدية ومستشفى ابن سينا للحالات العصبية والنفسية.

وفي غضون ذلك كله تحرص عمان على توفير مناخات مناسبة للانشطة الرياضية والنشطة الثقافية والعلمية والمهرجانات وتطوير الهيئلت الكشفية مما ينصب جميعه في النهاية بعملية تطوير قابليات الانسان العماني ورفع قدرته على المساهمة الفاعلة في عملية التنمية.

يتبع

[الصورة المرفقة وردت من دون ذكر اسم صاحبها في الموقع الذي استعرتها منه، وهي لمشهد من عمان]