كل المقالات بواسطة علي المعموري

متخصص بعلم السياسة، وما يتطلبه من اطلاع على الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم القريبة الاخرى، مهتم كذلك بالادب والفن، وكل ما يتصل بالحياة والابداع الانساني

نخلة لارغو ماغنانابولي

أجعلُ محطة التيرمني ـ وهي المحطة الأساس في مترو #روما وقطاراتها الخارجية ـ خلف ظهري، واتوجه صعودا الى “بيازا ديلا ريبوبليكا” ساحة عظيمة، نصف دائرية، حيث تقع كنيسة سانت ماري للملائكة والشهداء مشكلة الضلع المستقيم للساحة، والتي صممها مايكل انجلو، وقسمها شارع الى قسمين غير متساويين، ناهيك عن تهدم بعض من اجزائها، اتوقف حين أصلها، أعني ساحة الجمهورية ونافورتها التاريخية وكنيستها المايكل انجيلوية، استديرُ يسارا، تصير الكنيسة خلف ظهري، وانحدر باتجاه مركز روما القديم، المنتدى الروماني، والكولوسيوم، وقبلهما نصب فيكتور ايمانويل الثاني حيث ينتهي شارع نازولينا، قبيل الوصول الى الدرج النازل نحو النصب، هناك ساحة صغيرة، دوار أو فلكة كما نسميها في العراق، اسمها لارغو ماغنانابولي، على يميني شارع يصعد شمالا، ويسارا سوق تراجان التاريخي أمر جنبه، اتجاوزه وانزل الى الساحة يواجهني عمود تراجان، مفتوحا على المشهد التاريخي بكامله، نصب فيكتور ايمانويل ـ كتبت عنه مرة ـ المنتدى الروماني ببقايا قصوره وجلاله، الكوليسيوم وغيره، كنت امر يوميا بهذه الكيفية، وهذا الطريق، ربما حوالي شهرين، دون أن ألتفت الى الفلكة الصغيرة، الفلكة التي اكتشفت أن بها بعضا من أهلي!

كنت نازلا من الطريق الشمالي الذي ذكرته، لا أدري أين كنت، عبرت الساحة بعجل، مشيت قليلا، ثم صعقت، والتفت لما سكبته ذاكرتي فجأة في رأسي، طلقة سريعة، يا الله، هذه نخلة، نخلة تقف وحيدة هنا، مثلي في هذه المدينة العتيقة، هذه عمتنا النخلة، بعض من أهلي، من كرامهم، وقفت لما شاءت الروح من الوقت اتأملها، ثم مضيت لأمري، وصرت اتقصد المرور قربها حتى وإن كان مقصدي نائيا عنها، اقف مُسَّلِما، ثم أمضي لا ألوي على شيء.

 

 

 

في استحضار وديعة الطريق

(1)

لا زلت استعيد ذلك الطفل، اذكر أبي بشكل جيد في مثل هذه الأيام مطلع تسعينات القرن الماضي، دشداشة رصاصية، ويشماغ أحمر حول عنقه، يلف عبائته الوبر البنية الفاتحة تحت ذراعه، تُجهز امي وعمتي طعام رحلته السرية نحو المحبوب القتيل، خبز من يدي جدتي، بيض مسلوق، طماطم وبعض الفجل، يقمن بلفهن بحرص، لف الطفل في قماطه، يحمل أبي الكيس، ويخرج متخفيا، قاصدا كربلاء مشيا على قدميه، بيادة، بين ظلال النخيل، بعيد عن الأعين المتوثبة لاعتقال كل من يجرؤ على المسير، وأنا، الطفل المطمئن لما يسمعه من أهله، أحلم أن أكون معه ذات يوم، ابديت رغبتي وقتها برفقته، بشجاعة لم أعهدها يوما معه، لا قديما، ولا اليوم، فكان الرفض القاطع الخائف جوابي، إذا ذهبت أذهب وحدي، لا يعتقل طفل معي، وبقي الحلم غض لسنوات طوال مرهقة بعدها، سنوات طويلة، لم يأزف تحقيقه حتى صرت شابا ناهزت العشرين، وحتى امتلأ الطريق عام 2003 بالناس، يمشون جهارا لا يتسترون ولا يتخذون طريق أبي القديم، تحت ظلال عماته نخلات الفرات.

(2)

أيها السائرون رويدا، “خففوا الوطء”

هذا الطريق مفروش بقلبي

الذكريات الطرية

والنوايا البريئة التي كانت تغتسل بالصدق

الأحلام التي كانت تحمل آمالا عراض

ووعود بسعادة الدارين

نية نظيفة

ورجاء بعيد لا ينطفئ ضوؤه، أو هكذا ظننت تلك السنوات

تلك الليالي المتسترة الخائفة، كانت تحمل ظنونا عطرة، كلها طمأنينة

السكينة التي أردتها، وآمنت بتحققها يوما

حين غادرتها وغادرتني، أودعتها أمانة على هذا الطريق

لعلي..

لعلي استعيدها يوما، طاهرة كما كانت، بريئة كما استودعتها، على حواف الطريق الذي تضربه أرجلكم اليوم.

(3)

بثياب سوداء، خرجنا عام 2003 تحت ذات الرايات المخبئة منذ آخرمسير عاصف عام 1977، يظللنا صوت الرادود وطن رحمه الله، يشدو لعودة الأهل إلى قتلاهم يوم الاربعين، من شعر عبد الحسين ابو شبع، الباكي:

من يوم عنك مشينه

لليوم والحرگة بينه

خرجنا من طرف البراق نحو الصحن الحيدري، نودع الأب في مسيرنا نحو الابن، خرجنا من “العگود” التي استيقضت بعد غفوة وتستر، دلفنا إلى شارع الصادق، ثم نحو الصحن، استدرنا عبر شارع زين العابدين وصولا إلى “الگراج” القديم، لنتفرق كل يسري بسبيله نحو الموكب الذي نصب على عجل في خان الربع، بت ليلة يتيمة هناك، ثم عدت لمواصلة المسير صحبة أبي الذي كان يركض في مشيه كعادته، احاول مجاراته، وهو يسخر مني قائلا: (امشي، كنت بعمرك انهب الطريق مشيا كسيارة شوفرليت)، وكنت أشعر أنه يريد أن يصل بأسرع وقت، شوق ولهفة للراقد في كربلاء.

(4)

كان اصطفاف موكب أهل النجف نهار الاربعين مهيبا، الرادود ابو حبيب، طاهر أمين شلاش، يدور على الجوقات واحدة واحدة، يعلمنا كيف نردد “المستهلات” التي كتبها الشاعر علي التلال رحمه الله، بوزن ثقيل، لم تعتد اسماعنا الغضة اداءه بعد، يستعيده مرارا حتى نحفظه، ونحفظ اللحن، في مقدمة الموكب جوقتان لكبار السن، ووجهاء النجف، يرددون بيتي شعر للمرحوم عبد المحمد، بالفصحى، ذات الابيات التي كانوا يرددونها طوال تلك السنين المنصرمة، علنا، ثم في قلوبهم منذ السبعينات:

إن أبناء أمير المؤمنين

زحفت للسبط يوم الاربعين

فيجيب الاخرون:

نتحدى الموت في مر السنين

نبذل النفس فداء للحسين

وحين وصلنا باب القبلة، ترك الجميع الشعر، وأخذوا بالصراخ يا حسين، والأكف تهوي على الرؤوس، والدموع مدرارة، لا اذكر أنني بكيت بحياتي مثل بكائي تلك السنة، قلب عامر بالرجاء، والحزن، والطمأنينة، والتطلع نحو المستقبل المرتكز على جذر عميق، كانت آخر مرة يقرأ فيها وطن للاربعين، بعدها توفي سعيدا.

(5)

أيها السائرون، تركتُ طريقكم منذ سنوات للزوابع التي في صدري، ولكن قلبي مودع على الطريق، لعلي استعيده منكم ذات يوم، رويدا رويدا، الله الله بنوايانا وقلوبنا الكسيرة التي ترافقكم، الله الله بذاكرتنا التي اعطبت، ولمّا تزل غضة على الطريق، كلها رجاء..

من مآسي المترجمين وحمولاتها السياسية العرضية

يوقع المترجمون القراء في مطبات كثيرة، منها تَعَوُّد ذاكرتهم على كلمة معينة، تصبح “تابو” وقاعدة مقدسة تصبح مخالفتها خطأ، مع العلم أنها ليست من العربية، ولا توجد حدود معينة أو قاعدة نحوية لها.
على سبيل المثال، ترجم الشاعر الكبير خليل مطران ـ الملقب بشاعر القطرين ـ مسرحية لشكسبير، واختار أن يكون اسم بطلها بالعربي “عُطيل” ولا توجد قاعدة استند عليها هذا الضليع بالعربية الفصيح ليحول اسم “أثيلو” أو “أتيلو” الى عطيل، مستنتجا أنه كان عبدا لسواد بشرته، والعبد عاطل عن الحلية والزينة، اليوم تعال أقنع القراء العرب أن عطيل هو اسم من عنديات خليل مطران، وليس ما اختاره شكسبير لبطله.
بعد…
مشكلة اللغة العربية مع الترجمات من الأدب الروسي اكبر وأكثر تعقيدا، ترجم العرب الأدب الروسي أول الأمر عن الانجليزية والفرنسية، بل أن سلسلة الترجمات الكاملة لكل اعمال دوستويفسكي التي انجزها الدكتور سامي الدروبي رحمه الله كانت عن الفرنسية وليس عن الروسية، الأمر الذي جعلنا نعرف اسماء الروائيين الروس عبر هاتين اللغتين، بعد أن لعب المترجمون “الانجليز والفرنسيس” بهذه الاسماء لتكون قابلة للفظ باللغتين الفرنسية والانجليزية، فماذا حدث؟
أذكر أنني قرأت رواية مترجمة من الروسية قبل 15 عام، صدرت عن دار المأمون في بغداد في الثمانينات ربما، للروائي الروسي ليرمنتف، اسمها فاديم، ترجمها د. مكي عبد الكريم المواشي، ولم اجدها على الانترنيت، في مقدمته بين المترجم الضليع هذا الخطل الحاصل في أسماء الكتاب الروس بسبب أننا قرأناهم أول مرة عبر لغة وسيطة، فمثلا تولستوي يلفظ بالروسية طالسطوي، ودوستويفسكي يلفظ بلغة أهله داصتافسكي، وهكذا قل عن بقية الاسماء.
اعتادت آذاننا أن تسمع كلمة معينة، فصار كل ما يختلف عنها خطأ، حتى صرنا نفتي على شخص يحمل شهادة الدكتوراه باللغة العربية، وترجم عشرات الكتب ترجمة فائقة الدقة، في الفلسفة والشعر، ناهيك عن مؤلفاته الخاصة، اتفقت معه أم اختلفت في خياراته السياسية، فننعى عليه استخدامه لكلمة معينة ونجعلها خطأ، لأن آذاننا تعودت على غيرها لا أكثر، والكلمة بوجهيها صحيحة، وإن كنت أميل الى كتابتها كما يلفظها أهلها، وليس كما أشاعها المترجمين.
نظل مشغولين بهذه السفاسف وننسى مصائبنا الكبرى، مثل أزمة المياه، والكهرباء، ووووو.
 الحقيقة أن هذه الضجة حول استخدام د. حسن ناظم لكلمة واشنطون بدلا عن الشائع سياسية وليست معرفية،

آلان شور.. التركيبة الغريبة للسربوت السرسري مع حس إنساني عالي

ظهرت شخصية آلان شور أول مرة في مسلسل (The Practice) الذي ظهر موسمه الأول عام 1997 واستمر حتى العام 2004.

ظهوره الخاطف والمؤثر في المسلسل، الذي انتهى بطرده من الشركة، مهد لأن يظهر ببطولة مطلقة في المسلسل الذي ستأخذ فيه شخصيته مساحتها الفعلية، مسلسل (Boston Legal) الذي استمر من العام 2004 إلى العام 2008.

بحسب موقع (FANDOM) ولد الان في الستينات، ينحدر من عائلة اسكتلندية ـ قومية روبن هود الذي سيتماهى الان شور معه في سرقة الاغنياء حتى يطرد من شركته القديمة ـ وتحتاج متابعة المواسم الخمسة لتستطيع تكوين صورة باهتة عن طفولته، وكيف تشكلت شخصيته، علاقته بأمه، وبصديقتها!

بطريقة ما، قدم المسلسل شخصية آلان شور بوصفها مرآة المعارضة الامريكية، ليبرالي، يتبنى آراء يسارية دون مواربة، على عكس خدنه وصديقه الصدوق، ديني كرين، المحافظ الجمهوري بدون تحفظ، مناصر الاعدام والسلاح، محب بوش، والداعم للحرب، بينما عارض آلان شور الحرب على العراق طوال المسلسل، ومسخر الجيش الامريكي مرارا في محاكمات سببت إحداها قطيعة بينه وبين ديني، قطيعة لم تدم طويلا، على الرغم من هذا، يحب آلان امريكا بشدة، ويجد نفسه مدافعا عن فكرة أمريكا الاساس، الحريات، والحقوق، ونصرة الضعفاء!

يتمتع بلسان طليق لا تكاد تفلت منه إذا امسكك بحديثه، ينثال في المحكمة دون توقف، يقف أمام المحلفين، ينطلق في مرافعة طويلة، يوظف فيها ثقافته العالية، وذكاءه منقطع النظير في ربط الأمور ببعضها، بإحداث بلبلة في قلوب المحلفين، استدرار عطفهم، ضميرهم، اخلاقياتهم، مخاوفهم الشخصية من أن يوضعوا موضع المتهم، وفي أحيان كثيرة لا يتورع عن أكثر الأفعال انعداما للياقة داخل المحكمة ليثبت وجهة نظره، ويوجه المحلفين حيث يريد، وتكاد تشعر أن جيمس سبايدر، الممثل الذي أدى الدور، يكاد أن يخرج عليك من الشاشة، تتابع حركاة يده، ترتفع وتنخفض، تعبيرات وجهه، انفعالاته الصادقة مع الدور، كأنه يتماهى ويذوب حتى التلاشي مع آلان شور، الضمير اليقظ، والصديق الجيد على الدوام.

معارض دائم للقوانين الجامدة، للسياسة الرسمية، لا يخاف مطلقا من العواقب القانونية لأفعاله، إنه ببساطة يتخذ كل السبل اللازمة لتحقيق نصر اخلاقي لموكل مظلوم، مهما بدت القضية خاسرة، لا أمل فيها، حتى لو كانت طريقته غير أخلاقية، ابتزاز، تهديد، هجوم غير شريف، لا يتورع عنها، ووصل به الحال إلى شن هجومين كاسحين على قدس أقداس النظام القضائي الأمريكي، المحكمة الاتحادية العليا، صفوة القضاة، في بلد يسيطر فيه قضاة هذه المحكمة على النظام عبر احتكارهم حق تفسير الدستور.

لكن هذه المسؤولية الأخلاقية العالية، والروح شديدة التأثر من تعرض الانسان للظلم، يقابلها قلب خاوٍ غير قادر على الحب، حب النساء، لدرجة أنه تخلى عن زوجته التي أحبها، وتوفيت لاحقا، ليتحدث عنها بشكل عابر، مرتعب من أنها كانت تفهمه تماما، وقادرة على التنبؤ بردود فعله وتصرفاته مهما حاول أن يكون مفاجئا، ليغرق في عبث تام، لا سكن ثابت ـ يعيش في فندق ـ لا امرأة في حياته، يحرص على أن يبعدهن جميعا حين يشعر أن واحدة قد اقتربت أكثر من اللازم، مثل تارا السمراء الجميلة، لتكون متعته الوحيدة، ومحل سكونه، هي شرفة ديني كرين، حين يتشاركان سيجارا وكأس من الخمرة آخر النهار، يتحدثان عن الحياة، والعمل، والقانون، والانسان، الرابط بين كل شيء.

آخر الأمر، وبغض النظر عن كون آلان شور “ضمير الامة الامريكية” فإنه نموذج لـ”السرسري” مع قدر عالي من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه تحقيق العدالة وتقويض الظلم، والقدرة على الفعل في هذا الاتجاه، وتحقيق الانجازات، أنه بطريقة ما، دليل على أن التقاة، المترددين، غير قادرين على الفعل، بما يذكرني بتاريخ العراق، الذي قامت أغلب انجازاته على اكتاف السرسرية المغامرين، مع حس عال بالمسؤولية تجاه واجباتهم، حتى قال عدنان الصائغ، في قصيدته عن “العراق الذي يبتعد” أن هذا البلد:

نصف تاريخه أغان وكحل

ونصف طغاة

 

 

 

الفسنجون، أكلة بروح امرأة

قبل البدء

يجيد الرجال صنع الأشياء في أكثر الأحيان أفضل من النساء، لكنهم لا يستطيعون أن يحبوا تلك الأشياء الجيدة، أو أن يتركوا فيها شيئا من ذواتهم، كما تفعل النساء مع الأشياء اللاتي يُجدن صناعتها.

أيضا قبل البدء

تصنع أمةٌ ما شيئا، لنقل نوع من الطعام، فتأخذه أمة أخرى، وتجوّده، وتحسنه، وتمنحه روحا جديدة ومذاقا أكثر حبا ودفئا، مثل الفسنجون، الذي صنعه الإيرانيون، وجوّده النجفيون غاية التجويد.

ما عرفت أكلاً يتطلب وقتا طويلا ومهارات خاصة، وكلف باهضة، مثل الفسنجون في النجف، تعمد المرأة إلى إعداده فتطلب حب الرمان المجفف ـ وتستصغر قدر من تشتري ماء الحب الجاهز لطبختها ـ والراشي – عصير السمسم ـ من أجوده، والجوز، وتفضل لحم البط لما فيه من دهن، ومستلزمات أخرى غالية الثمن لا أكاد استحضرها اليوم.

ثم تنفق ساعات طوال في غلي حب الرمان، وعصره في كيس من الخام، وساعات أخرى في مزج المكونات بدقة وخبرة، بعين لا تخطئ، ولا تستخدم الميزان لإضافة المكونات.

وتراقب المرأة القدر لساعات أخرى، كأنها تراقب رضيعها، تشمه، تتذوقه، تحرص على تشكله في قوام معين ، بعض النساء النجفيات يخزنَّ بذور الرقي – البطيخ بلهجة غير العراقيين ـ فتقليه بدون دهن، وتطحنه ناعما، وتضيفه حتى يصل القوام لحد ترتضيه.

لا تكاد المرأة تبارح مطبخها حين تعده، ينتهي يوم كامل في طبخ هذا الطعام الذي لا يعرفه غير أهله، ولا يقدره غير بنو المدينة التي تجيد طبخه، وآخرون ممن يفدون على أهلها، أكلة الملوك، هكذا يسمونها.

أجد البعض يذكر أن فلانا من الرجال يجيد طبخه في المطعم الفلاني، فلا أصدق قولهم، ولا أرغب حتى بإقامة دليل عليه، لأن لي في هذا النوع من الأكل رأي أزعمه.

إني أرى أن هذه الأكلة مما تختص بصنعه النساء فحسب، لأنها تحتاج رعاية كتلك التي تمنحها الأم لطفلها، ولا يجيد الرجل تلك الرعاية مهما بالغ، يعرف الطفل أمه من رائحتها، وتعرفه منها، ولا يكاد الرجل يستطيع أن يتحمل بكاء الرضيع ساعة، في حين تسهر أمه معه ليالي طوال، حتى تبكي معه عاجزة عن فهم ما يريد، فيتبسم في وجهها، لتنسى ألم السهر، ووجع الليل كله، فتضحك ملئ روحها جذلا بالمبتسم الباكي بين ذراعيها.

للفسنجون روح امرأة، بذلت وقتا في إعداده لأسرتها بحب، راقبته يتشكل ويأخذ قوامه المتين ساعة تلو ساعة، حتى نضج، كما ينضج الطفل عقب سنوات تربيته، تقوم المرأة النجفية عليه كما الطفل، شدة حيث ينبغي، ولطف حيث يستحق، ورعاية دائمة وعين لا تغفل عن المراقبة، حتى تضع فيه من روحها شيئا، فيتجلى بلونه البني الغامق، ورائحته المميزة، تضعه على المائدة وتراقب قسمات وجوه المستحسنين، كأنهم يقولون لها أحسنت التربية، أو أحسنت الطبخ.

للفسنجون روح امرأة، ولا يجيد الرجل بث روحه فيه بحب، كما تفعل النساء، لهذا أقول للسائلين عنه من غير أهل المدينة الصلبة الغريبة المزاج، لا تتعبوا أنفسكم في طلبه عند أهل المطاعم، هذا أكل تطبخه النساء، في البيوت، لتكون له رائحة البيت، ومحبته الوالدة، وعاطفة المرأة، ورقة الفتاة الناهد، إنه طفل يحتاج لأسرة تحتضنه، لأم تناغيه وتسهر عليه، وليس لأب متجهم يقيس كل شيء بالمسطرة، للفسنجون روح امرأة، لا يصلح بدونها، ولا يستقيم.

هذه أكلة لا تتعلمها المرأة من اليوتيوب، إنها مهارة تكتسبها من أمها، كما تكتسب طباعها وسجيتها في الحياة، هذه أكلة حسيّة لا يحسن العقل صنعتها، إنها تعتمد العاطفة، الحب في موازنة مكوناتها وتشكيل كينونتها، إنها روح لا تنضج بدون حب خالص لا تشوبه خشونة الرجال وغلظتهم، للفسنجون روح امرأة، لا يصلح بدونها ولا يستقيم.

الدكتور صائب الكيلاني

 

 

(1)

ساعة على الأقل، أحدق في لوح أبيض أمامي، ولا أعرف بم أبتدئ الحديث عن أبيض القلب الذي رحل سريعا، وترك لنا سواد تتشح به قلوبنا، جزعا عليا، سواد كثير…

(2)

ربما تعرف عليه الكثيرون بوصفه طبيب، جراح ماهر، يصارع المنية دون مرضاه حتى يسلمهم ليد العافية، بإيمان عميق يتملك روحه، بابتسامة توشّح وجهه البهي، وقامته الوسيمة، بمظهر الطبيب المهيب على ما كان عليه الأطباء، وبالانضباط الاخلاقي اللازم لسليل الأسرة العلوية ذات السيادة والرياسة الدينية، ودقة ابن الضابط الحقوقي الذي نفاه البعثيون خارج بلده بعد انقلابهم الثاني، على عبد الرحمن عارف، أما أنا، فقد تعرفت عليه بصورته الثانية، نعم، بانضباطه، بدقته، بثقافته، بهدوئه وقدرته العجيبة على احتواء الغاضبين، ولكن ليس بوصفه طبيب، بل بوصفه رجل المجتمع المدني، والمفاوض المعتمد دوليا، ورئيس لمنظمة مختصة بالسياسات العامة.

(3)

كان اللقاء الأول في أربيل عام 2012، كنتُ في سنتي الأولى للماجستير، زجني أستاذي الدكتور عماد الشيخ داود في الدورات الأولى لتكوين كادر لمنظمة دار الخبرة، بوصفها بيت مختص بالسياسات العامة وصنع القرار، كان الدكتور أحد المحاضرين، ورئيس المنظمة، طول فارع وقامة متينة البنيان أفاضت عليه وسامة لا تخطئها العين، ولا تضيف لها أناقة ملبسه كثيرا، فهو وسيم بكل حال، نظرة مطمئنة مهيمنة يطلقها نحوك من خلف عويناته، وعلى صدره تدلت عوينات القراءة، يمزج حديثه في السياسات العامة للشأن الطبي في العراق بالنكتة، وبالكثير الكثير من المعرفة، والتجارب الشخصية المثمرة.

(4)

في بيروت، كنا نتمشى سوية في شارع الحمراء، هنا بدأت استكشف صائب الكيلاني الإنسان، النبيل المتواضع، نتمشى، أوقفني عند رأس أحد الشوارع النازلة من الحمراء باتجاه الجامعة الأمريكية، امسك كفي وانحدر بي في الشارع بحثا عن محل دخله عام 1973، كان يجلب قماشا فاخرا ويخيطه في لبنان، ووجده، عبد الله فريج ـ على ما اذكر ـ حين دخلنا واشترى سترة للذكرى، ووجدني مهتم ببدلة معينة، انتحى بي جانبا وأعطاني نصيحة أب لابنه، قال: بني، أنت في مقتبل حياتك، كن حريصا على ما تكسبه، لا تشترِ من هنا شيئا يمكن أن تجده في العراق أرخص وأجود، اسمع من عمك…

لاحقا، حين كنت أساعده في حزم حقيبته، قال لي، هل تعرف كيف تحزم السترة الرسمية في الحقيبة؟ قلت له علمني أبي، قال وهو يربت على كتفي: مع ذلك، تعال أعلمك، هكذا…

هذه الأشياء البسيطة التي يعلمها كبير ذو تجربة لشاب بعمر ابنه، هي أثمن ما يبقى في الذاكرة، الأشياء البسيطة المتعلقة بالحياة، وإدارة الشأن الشخصي، هي النابضة أبدا.

(5)

لعله كان أول طبيب جاء بزراعة الكبد للعراق عقب تدربه في ألمانيا وبريطانيا، وحين كان مديرا لمستشفى الكاظمية التعليمي المرتبط بجامعة صدام وقتها ـ النهرين اليوم، جامعتي ـ حدّثني مرة عن استخفاف السادي عدي بن صدام بالدنيا وبالمستشفى وقتها، يقول أنه كان يدخل عليه الرجل القبيح المنظر والمخبر، بيده ورقة مقصوصة من علبة سجائر، كتب عليها يصرف له كذا من ملايين الدنانير، بتوقيع عدي، الذي لم يكن له رفضه، فكان يأخذ الورقة، ويستنسخها عشرين نسخة، ويرفق أمر الصرف بنسخة منه إلى، فيبدأ من سكرتير الرئيس، ورئيس الديوان، ومدير المالية، وصولا إلى وزيري الصحة والتعليم العالي.

فصرّها السادي له في نفسه، واتخذ من مشكلة لا شأن له بها ذريعة ليرسل له قاضي بغداد الشرعي، وقاض مدني، وضابط كبير ليحققوا معه بشأن مريض اشترى عصارة كريم من خارج المستشفى، ولولا صدقه، وبعض من تاريخ العائلة المحترم، لكان ضحية من ضحايا عدي.

بعد الـ2003، في الأيام الأولى للفوضى، خرج اطباء مدينة الطب العريقة بتظاهرة يطالبون الامريكان بتوليته إدارة المستشفى، فكان أهلا لها، ومقتدر عليها.

(6)

حين هدد عام 2006، وكان لزاماً أن يبارح بغداد، لم يذهب بعيدا، حمل حقائبه إلى أقرب مكان آمن يستطيع العراقيون الوصول له، ذهب إلى أربيل، سألته مرة لماذا لم تترك العراق وأنت القادر على العمل في أي مؤسسة طبية غربية تريد؟ قال: ومن يبقى للمساكين العراقيين هنا إذا هربنا كلنا، وجدت أربيل أقرب مكان استطيع منه خدمة أهلي، وبعد صمت قليل أردف: لقد ضيعنا الكثير من الاطباء، لدينا ثلاثة آلاف طبيب استشاري في لندن، أعلى مرتبة طبية، من جانبي، استطعت أن أقنع 7 منهم بالرجوع والعمل في أربيل، ليخدموا الناس من هنا.

حيث تحرك، وأنّى ذهب، كان العراق حاضر في عينيه، وشاغل لباله، حين انتقل لأربيل بقي يدفع إيجار عيادته في الحارثية لمدة، وكان يرسل المبالغ تلو المبالغ لمساعده المرحوم عدي الجواري، يعطيها للعوائل الفقيرة التي يعرفها.

(7)

اخبرني أنه كان ضمن الفريق المفاوض الذين اختارتهم منظمة دولية للقاء القذافي وإقناعه بتجنيب ليبيا الكوارث المحتملة على إسقاطه بتدخل خارجي، كان مسترسلا في الحديث عن بعض ذكرياته السياسية، وما لاقاه في حياته، وبعض الأسماء التي عاشرها وخبرها، قلت له دكتور، لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية؟ ميراثا تاريخيا للأجيال، فضحك بدفء، وربت على كتفي وقال يمعود مشاكل، قل يا الله …

كان ذلك في المرة الأخيرة التي التقيته فيها، وصحبنا إلى مجمع ضخم ـ لعل اسمه أبو شهاب ـ كعادته حين يدعو أحبته الزائرين لأربيل ويصلهم ودادا وكرما.

(8)

ذوق رفيع، علاقات في المجتمع الثقافي والفني ناهيك عن المجتمع الطبي، مرة كنا في عيادته في بغداد، نظر إلى لوحة على الجدار، وقال كنت ناسيا لها، اهدتنيها وداد الأورفةلي، ولا أدري أين صفى باللوحة الدهر.

(9)

مثل الأولياء ذوي الكرامات، كان الحناء على باب عيادته، على عادة العراقيين مع من يكون سببا لبرئهم من أوجاعهم، أن يخضبوا بابه بالحناء، وكذلك كانت بابه، تعلن عن طبيعته، طمأنينة وشفاء على يد النطاسي الخبير، الضاحك، الودود.

(10)

عاجز عن تنميق كلامي أيها الراحل الكبير، عزائي الخالص لأولادك محمد وحسن وحسين، لأستاذي الدكتور عماد الشيخ داود، صديقك، لأهلك، لكل من يحبك، لكل من عرفك وعرف سجيتك النبيلة، وسعيك في حوائج الناس، وعفة ضميرك، وبذلك للمحتاجين، ومسارعتك في كل مكرمة، لي، أنا الذي طالما دافعت عني، ووثقت بي، وداعة الله دكتور، لك، عليك، في قلبي حسرة لا تمحوها الأيام، ولا تنسينيها الحوادث…

لذكرى الدكتور صائب الكيلاني، الذي توفي يوم الاحد 6/ 12/ 2020

الصورة: تجمعني معه وهي من اليمين، علي، د. عماد الشيخ داود، د. صائب الكيلاني رحمه الله، عدي الجواري رحمه الله، أربيل 2016

 

كتاب وأقدار ثلاثة

ربما كانت مطبعة حبل المتين التي دخلت إلى النجف وافتتحت عهد الطباعة فيها ثالث أو ثاني مطبعة في العراق، وقد طبعت الكثير من الكتب في النجف مما لم يجد له طريقا للطباعة في غيرها من مدن العراق، مجلة الكلمة، الأدبية، التي كانت تصدرها عصبة من اليساريين العراقيين كانت تطبع في النجف، وابتدأت خلسة بمغامرة من حميد المطبعي، سليل العائلة المطبعية، وعضو هيئة تحريرها، وقد اعلن اليوم 2/ 12/ 2020 عن وفاة أحد اعمدتها، الناقد الكبير طراد الكبيسي.

وفي الستينات والسبعينات، كانت أولى دواوين الشعر الشعبي تطبع في النجف، الطبعة الأولى من ديوان الـﮕـمر والديرة للراحل #عريان_السيد_خلف طبعت في النجف، ولدي طبعة من ديوان #مظفر_النواب الأشهر، للريل وحمد، مما طبع في النجف.

بكل الاحوال، بين يدي كتاب اقداره غريبة، مؤلفه صار مؤرخا كرديا معروفا، هو زبير بلال اسماعيل (1938 -1998) سليل الاسرة الدينية، والمولود في قلعة اربيل، والكتاب المعني هو أول كتبه، أربيل في أدوارها التاريخية، وطبع في النجف عام 1970 في مطبعة النعمان المعروفة.

أما الاستملاك على الكتاب، الذي سبقني، فهو مكتوب بالسريانية، التي لا أعرفها، ولكن يبدو لي أن مالك الكتاب كان شخص مثقف ومتخصص ربما، مسيحي آثوري، إذ ملئ صفحات الكتاب بالملاحظات بالقلم الأحمر، والتقطت على عجالة ملاحظات عابرة أهمها أن الرجل كان يحرص على كتابة الاسم بالثاء، آثوريين وليس اشوريين كما هي السردية الحاضرة اليوم.

والثانية أن سردية أصالة الآثوريين في العراق ليست مما استحدث بعد 2003 مثل مصطلح الاشوريين، ولكن الرجل ـ مالك الكتاب ـ يخالف آراء المؤرخين بحداثة وجود الاثوريين في العراق، فيكتب معلقا مثلا على سرد المؤلف لأحوال المسيحيين في العصر المغولي الثاني بعد دخول ملوك المغول للاسلام، تحديدا احداث سنة 1317م فحين يقول المؤلف (نصارى) يكتب مالك الكتاب: الاثوريين النصارى، وهو أمر غير ثابت، أعني وجود الاثوريين في تلك الحقبة في الاراضي العراقية.

تقلبت الدنيا بهذا الكتاب، بمؤلفه الكردي الذي سطره في اربيل، وطبعه في النجف، واستملكه مسيحي آثوري ربما في بغداد، ليصل ليدي آخر المطاف.

 

كيف خسرنا مهاراتنا؟

أخبرني صديق عزيز، فنان ومثقف مهم، أن هناك مسؤولا بعثيا كبيرا من إحدى العشائر الجنوبية القوية التي دخلت في صدام شرس مع صدام حسين طوال حقبة حكمه، هذا المسئول لم يقتل بعد الـ2003، لأنه لم يؤذ أحد، حضر مجلس فاتحة لعشيرته ذات يوم فغمزه ولمزه بنو عمومته، فقال لهم: ماذا قبضتم بعد 2003 سوى أنكم أصبحتم شرطة؟ لماذا لم تأتوني قبلها طالبين التعيين كشرطة ونفض الموضوع من جذره بدل القتل والتشريد الذي تعرضتم له؟
هذه الحادثة تلخص الكثير من ورطتنا الحاضرة.
بعد
حين أصدر عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي، لم يعززه بجمعيات تعاونية فاعلة توجه الزرع والتسويق والانتاج، ولم يضع سياسات لتدارك مشكلة بعض المحافظات الجنوبية وعقدتها من الأرض والزرع (ارد اشرد لبغداد من الفلاحة… لا تـﭽـسي العريان لا بيها راحة) ماذا حدث؟ صدم الفلاح بحجم الامور التي ينبغي عليه أن يقوم بها، من شراء البذور، إلى تسويق الحاصل والتعامل مع التجار المرابين، ونقل الحاصل، وبلاوي أخرى كثيرة لم يكن معنيا بها من قبل، فاتخذ الحل الأسهل، هرب إلى بغداد، ليعمل شرطيا، أو فرّاشا بباب دائرة أو طبيب، أو چايـﭽـي في أحسن الأحوال.
ثم جاءت 2003، بقافلة كبيرة من غير المؤهلين لإدارة علوة مخضر، ناهيك عن دولة معقدة مثل العراق، وبرعاية تخريبية أمريكية إيرانية، لنغطس تماما في اقتصاد ريعي مدمر، ونتوسع بسياسة التوظيف حتى يتضاعف عدد الموظفين في الحكومة لثلاثة مرات، ويتضاعف عدد من يتلقى الرواتب لعشرة مرات، ونقفز في سباق الارانب للانجاب من 20 مليون نفر إلى ما يقارب الـ40 مليون عالة، كلهم يعيشون على #حشيشة_الحكومة المسماة رواتب.
أمسيت تجد الفلاح العراقي، وقد صار اربعة من ابناءه في الجيش والشرطة والاتحادية والرد السريع، وأخذ الأب الولد الخامس والتحقوا بالحشد، بالبيكب التي اشتروها من نقود المبادرة الزراعية المضحكة، التي اخذوها على الارض، او الماشية، ونزلوا بها واشتروا بيتا في الولاية، وهايلوكس تويوتا بيكب التي يسميها العراقيون ولأسباب غير مفهومة (فلاونزة الطيور).
بهذا، وبعجز الحكومة عن الاستفادة من قدرات خريجي كليات الطب البيطري والزراعة كما كان يحصل في السابق، وبابتعاد الابناء عن خبرة آبائهم في الزراعة، وبترك الاباء للممارسة في الزرع وتربية الحيوانات، فقدنا خلال 17 عام تقاليد في الزرع والتربية الحيوانية راكمناها خلال 10 الاف عام، وبقانون بريمر للبذور سيء الصيت، فقدنا سلالة من البذور هي من الأقدم في العالم، ولم يتحدث أحد عن هذا القانون والظلم الذي احدثه، وركض الفاشلون لإصدار قانون لمعادلة الشهادات يتساوى فيه الفاشلين جميعا في الخسارة مع المجدين.
غدا، وحين تشح الرواتب أكثر وأكثر، ونعجز عن الاستيراد لملئ جيوب الباشوات من اصحاب السماحة المستثمرين، سوف يكون ابناء الفلاحين عاجزين عن مسك المسحاة بطريقة صحيحة فضلا عن معرفة مواعيد البذار والحصاد، وسنجد أن الزراعة صارت عارا على حامل الكلاشنكوف، وسنأكل بعضنا كالضباع الجائعة.
سيكون تيجان الرأس من ضاربي ركعة الاصلاح والمقاومة إلى ضاربي الأوزو ـ الذين لم يفلحوا حتى بالحفاظ على مشروب العرق الوطني ـ وقتها في مشارق الدول المحترمة ومغاربها، يتنعمون بإيراد سنوات من قتل الأرض، والمواهب، وتضييع الخبرات والتجارب، وجلب نفايات الصين وايران وتركيا وغيرها من الدول إلى هذا الأرض، ونكون قد جردنا بالصيد الجائر بادية العراق، ونبته، وقتلنا نخيله، ونفد بالجمع الجائر ما لديه من موارد كالصخر والنفط وغيرها من المواد دون رقابة ولا متابعة، ساعتها، سيكون السعيد من يسلم على باب بيته مصانا من القتلة الجدد الذي ادعوا بالأمس حمايتنا.
تعديل: من المهم قراءة تعليق مولانا ايتش هومو الفراتي على المنشور.

عن قانون مهزلة المعادلة وأشياء أخرى

حديث سيغضب منه أصدقائي، بعضهم

ما دمت قد قطعت عزلتي واعتزالي الفيسبوك، مؤقتا، قلت في نفسي، لألقي كلمتي وأمضي، واستجلب مزيدا من الزعل على نفسي، في هذا المزاد الحافل بالغث والسمين، والترقب لما ستسفر عنه انتخابات الامريكيين، ثور هائج، أم حية متمرسة.

كعادة برلماننا الموقر ـ أوقر الله مساعيه ـ أتحفونا بقانون فضيحة، سعى به عدد من النواب، ليزيدوا طين مشكلة الشهادات العليا في العراق بلة، ومستنقعها أسنا.

قبل كل شيء، لا أنكر المهزلة التي تتبعها وزارة التعليم العالي في معادلة الشهادات، فتحاسب خريج اوكسفورد معاملة دكاكين الشهادات العليا التي يغترف منها العراقيون بالجملة ـ نحمده على مكاره مقاديره ـ وتلحف بالروتين والتعقيد حتى يصيب أهل الجامعات العشرة الأولى العجب من هذه الاجراءات، ولكن، ما لهذا الأمر من بد، في هذه المهزلة المسماة شهادات عليا.

ينتحب المئات على الفيسبوك منذ أيام، يشتمون المعترضين على القانون الفضيحة، الذي أعدته اللجنة القانونية وليس لجنة التعليم العالي! وأن كل من ينتقده موتور أو حاقد أو مستفيد، وأن الوضع خربان، ولا يقف عند هذا المعول الجديد، وهم فيما يقولون على باطل كبير مغلف بحق احمق.

بدلا من السعي لترصين التعليم، والضغط باتجاه موائمة مخرجات الكليات لسوق العمل، وإيقاف هذا السيل الاحمق من شهادات الدكتوراه والماجستير بهدف التعيين، أو العلاوة على الراتب المتشج باقتصادنا الريعي الاحمق، الأهوج، الغبي، وفي الوقت الذي نحتاج فيه إلى أن نقلل من عدد الكليات، ونلتفت للتعليم المهني، لنعزز الاقتصاد بصناعات محلية، نأتي لنعادل مليون شهادة يعلم الله عدد المضروب منها وعدد الرصين، وعدد الباحثين الحقيقيين الذين انتجتهم الدراسة وصيرتهم حملة شهادات عليا.

لا أغامر، ولا أتجنى إذا قلت أن أغلبها إنما يكون سعيا باتجاه زيادة الراتب، أو التعيين وإثقال موازنة الدولة المثقلة بـ8 مليون راتب تستحق حوالي 5 مليار دولار شهريا ـ عام 2003 كان لدينا حوالي 800 الف موظف، قبال 4 ملايين اليوم يضاف لهم المتقاعدون ـ طالب العلم الحقيقي لا يأبه إذا احتسبت شهادته أم لا، ونال عليها مال أم لا، أعرف الكثيرين من اصدقائي ممن نالوا شهادة الدكتوراه بجدارة من جامعات عريقة، وهم باحثون على قدر كبير من الابداع، ولم يعادلوا شهادتهم، ولم يأبهوا بالمعادلة، أما الناعين الداعين بالويل والثبور على كفائتهم المضيعة فيعلم الله كم منهم يستطيع كتابة مقال صغير دون أخطاء علمية، مقال مفهوم ذو قيمة.

بعض الناشرين يناولوني بين وقت وآخر اطاريح دكتوراه، وشهادات ماجستير، انجزت في الخارج، لأقيم صلاحيتها للنشر، وأصدم بما فيها من خطل علمي يبدأ من عنوان الرسالة او الاطروحة، ولا ينتهي عند المنهجية، والخطة، واللغة، وحتى في سرد المصادر واستخدام ما يتعلق منها بموضوع الدراسة ذاتها، فأعجب للمشرف واللجنة التي أجازتها، ثم يعود صاحبها وقد دمغ اسمه بميسم الدكتور، ينال الدرجة الوظيفية وعلاوتها، ثم يصمت صمت أهل وادي السلام فلا بحث ولا مقال ولا حتى فكرة مكتملة الجوانب، تامة الملبس، اقرأ هرائهم المسمى اطاريح ورسائل، فأرفضه دون تردد.

ماذا تصنع العديد من الوزارات بحملة الشهادات العليا؟ ما حاجة وزارات خدمية بحامل شهادة عليا يدير قسم مهني بحت يعتمد الخبرة العملية؟ لكم أحيي مجلس القضاء الأعلى الذي أرسى رئيسه السابق قاعدة لا محيص عنها: لا نحتاج شهادات عليا، نحتاج قضاة وكادر ينجز أمور القضاة وحسب، فيرفض طلب كل طالب للشهادة، تريد الدراسة لترضي ذاتك؟ أهلا وسهلا، خذ إجازة واذهب، ولكن لا تطلب مني احتسابها ومنحك المزيد من المال عليها.

قانون تضخيم الرواتب المسمى بمعادلة الشهادات هذا فضيحة جديدة، تضاف لفضائحنا التي لا يسترها جلد بعير بسمكه، الحق أقول لكم، أنا مع إيقاف الدراسات العليا في العراق ـ خصوصا الدراسات الانسانية ـ لعشر سنوات، لا يحتاج الباحث المجد إلى شهادة عليا ليثبت قدرته البحثية، وأن تقتصر على حقول معينة وبعدد محدود من المقاعد، وأن يتم التشدد غاية التشدد في القبول والدرس والكتابة حتى المناقشة، بذات الوقت، تلتفت كل وزارة إلى من لديها من حملة الشهادات العليا، ويتم تقييم مدى استفادة الوزارة من الشهادة تلك، وهل تستوجب مخصصات؟ وهل ينجز حاملها بحوثا قيمة؟ هل يكتب أوراق توصية تثمر قرارات تسير بالعمل قدما؟ وإلا فلا علاوة ولا مخصصات مالية لها.

وقبل ان تشتموني، أنا أول المتضررين من هذا القرار العقلاني لو اتخذ، أنجزت الماجستير فقط، وأعمل كباحث في مركز دراسات حكومي، وسيوقف القرار مسيرتي المهنية ويعرقل استحقاقا يشهد لي به كل العاملين في حقلي التخصصي.

والسلام

كراون الصغيرة تكبر

علي عبد الهادي المعموري

طلبت أن يفتحوا نافذة السيارة، انسلت نسائم نيسان بنعومة إلى المقعد الخلفي، حيث اتمدد.

أشعر بملمس الهواء يتبدل على وجهي رويدا، لم أعرف مثل هذه النعومة من قبل، هل احتضر؟ كنت أظن أن كل شيء يقسو على المحتضر، وأن روحه تتلوى في عروقه وهي تبارح بدنه، ولكن راحة رطبة تتمشى في عروقي الآن، هل السبب يعود لهذه الناعمة التي تنساب على الطريق؟

أتذكر ذلك اليوم، قبل ثلاث وثلاثين، أقود سيارتي الكراون 1975 بأسرع ما استطيع، على المقعد الخلفي تمدد أبي، لم يكن لديه أولاد وأحفاد مثلي، كنتُ مملكته الوحيدة وسنده الأوحد، استمع الآن إلى أصوات أولادي، وأحفادي يتلونهم خلفي، بينما لم يسمع أبي سوى عواء الكلاب المنذر بالرحيل تلك الليلة، والطريق يخضه خض القربة اللبن.

أتذكر أني استلمت تلك السيارة من المؤسسة، قبل يوم، ووعدته بأن آخذه في جولة تمتد إلى كربلاء والكاظمية وسامراء، ولكنني أخذته إلى المستشفى، واستلمته منهم في الصباح، وضعته هذه المرة في صندوق على سقف سيارتي، السيارة التي شاطرتني حزني، ورضيت بأن اطفئها، لأركنها في مزرعتي، وأشتري شقيقة لها بعد عام، في سنة صناعتها، كيف أبيع السيارة التي توفي أبي على مقعدها الخلفي؟

سيارتي الكراون الثانية موديل 1976 شهدت زفافي، وما أن أوشك العام على المضي في سبيله إلا وركنتها ـ شاهدة على تقدمي ـ جنب أختها.

السيارة الثالثة احتضنت بزوغ حياة بعد أن شهدت أختها الكبيرة أفول حياة أخرى، على المقعد الخلفي أيضا، وبين يدي والدتي، ولدت زوجتي أبني الأول، مفخرتي الكبيرة، وحين انتهت السنة ركنت السيارة جنب أختيها، يشهدن على موتي وولادتي المتجددة.

الأشياء التي تكسبها بيسر تخسرها بسهولة…

هكذا كانت زوجتي تقول، مدرسة اللغة الانجليزية، ترددها على مسمعي، تخبرني أن ما جمعته بالتعب الحلال قمين بأن أحرص عليه كما أفعل، أفكر في هذه اللحظات، كيف رضيت تلك الجميلة بي؟ أنا الذي كنت أفك الخط، كيف حولت البنت الجامعية تلك شبه الأمي الذي كنته إلى الرجل الذي تقوم له المجالس حين يدخل؟ ويقصد الباحثون مكتبته العامرة؟

– أسمعني أيها الوسيم، لا أريد أن أموت في إحدى سياراتك، هذه الأشياء الجميلة لا تصلح للموت، تذكرني وأنت تقود السيارة التي زفتني إلى بيتك، لا أعرف سرك مع هذه السيارات، لكنك تتمرأى فيها، تولد وتموت وتولد وتتجدد، كأننا كلنا عابرون في حياتك وهي من توثق يومك الوليد ويومك الغارب.

وما خالفت الجميلة الصواب، كل سيارة جديدة، اشتريتها مطلع كل عام من عراكي والحياة، شهدت يوما استثنائيا في حياتي، كنت أقف أمامهن وامنح كل واحدة اسماً، اسم يرتبط بما شهدته، سيارة “الزفة”، “أم الولد”، “أم البنت” التي ـ مرة أخرى ـ  ولدت فيها ابنتي الوحيدة بين 6 ذكور، قرة عيني، “الخريج” و”الخريجة” اللتان شهدت أولاهما تخرج ابني الكبير من كلية الطب، والثانية تخرج ابنتي من كلية اللغات، “الدكتورة” التي زففت بها ولدي يوم ناقش الدكتوراه، وتنهمر الأسماء في ذاكرتي، واحد تلو آخر.

كنت أقول لنفسي كلما ركنت واحدة واشتريت أختها، يا ولد: هذه البنت شهدت حدثا استثنائيا، شهدت واقعة لا تشارك، فاحفظ لها فرادتها، ما قيمة النقود يا فتى أمام تلك اللحظات التي خلبت لبك؟

طالما توقفت اسائل نفسي، كيف لي أن أحب جمادا بهذه الطريقة؟

أذكر أن واحدا من الذين طالما أسبغت عليهم الفضل قال ـ وهو لا يدري بجلوسي خلفه ـ أن سر اهتمامي بسياراتي وحدبي على كل واحدة منهن لأنهن يُعلنَّ ما أنا فيه من نعمة، لا البيت الكبير، ولا العمل المزدهر، ولا الأولاد المباركين، كلهم لا يعلنون ثروتي كما تفعل هذه السيارة، بنسخها التي ارصفها في ظل ظليل، يكبر كل عام، وتكبر “كراون” التي كانت صغيرة معه، تخبر الناس بما أرفل فيه.

لم يدركوا أنني لا أعدها بمثابة علامة الغنى، بل هي حلقات متصلة ببعضها، مثل سلسلة مترابطة، تؤرخ أولها محطة بدئي حياتي، قبلها كانت سرابا، كنت أطفو ولا أرض أنشب قدماي فيها، كانت إيذانا ببدئي العيش، والموت، ومدي لجذري في هذه الأرض.

ولكنها لم تكن على الدوام لغيري كما كانت لي، أبان الحرب في الثمانينات، كانت نذيرٌ يخشى دخوله أي حي، تحمل على سقفها نعشا ملفوف بالعلم، تتخطى الأبواب واحداً تلو آخر، حتى تقف أمام دار بعينها، لتخرج أم هذا المسجى على سقف الفارهة، تتلمس العلم، تتشبث بالسيارة وتهزها كأنها تهز مهد طفولته، وعيناها تحومان على مستقبل كان واسع المدى، ثم أفل.

لهذه الفسيحة من الطبيعة اثنتان، تطوي بالموت وتنشر بالحياة، تنقل في جوفها العرائس إلى غرف مفروشة ببياض ناصع، معلنة امتداد الحياة الازلي، يضم جوفها الحياة كأنها رحم مترع بالأمل، وتحمل على كتفها الاجساد الملفوفة بالبياض، في آخر رحلة للرفاهية ـ كما احسبها توشك أن تفعل معي الآن ـ وإن كانت تحملني حانية بين ضلوعها.

صحبة تلك النسائم، أنصت لصوت يتدفق نحو روحي، يشبه جريان النهر، صوت المياه وهي تداعب أقدام ابني البكر في طفولته، لينطلق ضاحكا من نعومتها، كانت دجلة تسير بصفاء في تلك المنطقة المعلقة على جبال السليمانية يوم قدت سيارتي نحوها، صحبة أهلي، شوينا السمك، واكلنا كباب السليمانية، قبل أن التقط تلك الصورة عند متن النهر، تجلس أمي على المقعد الأمامي، تدلي برجليها إلى الخارج عبر الباب المفتوح، يدها تقبض على ساق ابني الجالس على سقف السيارة، مدليا ساقيه نحو جدته، تقبض أمي على رجله كأنها تقبض باب رجاء مستقبلها، وكل آمال حاضرها وماضيها، وزوجتي تحمل ابني الثاني قربها، وأنها معهم، وبيني وبينهم الباب الأمامي المشرع.

هل كانت سيارتي الخامسة؟

نعم الخامسة هي التي اسميتها السندباد، كانت أول مرة اطوف بها البلاد وأهلي، سافرت بهم إلى الشمال والجنوب، عبرت بها الحدود، يا لتلك الليالي قبيل الحرب، الحرب التي سلمتني إلى السادسة، أم الشهداء، تلك التي حملت على ظهرها ـ تباعا ـ ثلاثة من ابناء عمي، ملتفين بالعلم والدم، وهي الوحيدة التي طليتها باللون الأسود، وتربض مكللة بغطاء مطرز بالورد، تقف شامخة بين الجميع.

كنت كلما أضفت لها طرازا جديدا، أقف لأعدها بانتشاء طفل يحسب عيديته من الدنانير، يسمع رنينها وهي ترتطم في جيبه، يتحسسها بجذل، كنت اتلمسهن واحدة تلو اخرى، كأنني اضع يدي على رأس طفلتي، اتطلع لتلك السيارة الأولى، ثم تمر عيناي على الصف، أراقب كيف كبرت صغيرتي تلك، واشتد عودها، وزادت متانتها وصفاتها، مثل كائن حي ينمو، صغيرتي كراون التي كبرت.

كانت السيارة تخب بسرعة وثبات كعهدي بها، التقطت أذناي النغمات التي يصنعها مرورنا بأعمدة الكهرباء تباعا، حفيف رقيق يصطنعه الهواء المار بينها وبين نافذتي، ينهمر منها ضوء خافت ـ أو لعلها عيناي التي تحسبه خافتا؟ ـ  بدأت أعدها، واحدا تلو آخر، واحد اثنين ثلاثة… ثم اختفت الأعمدة من ذهني، وقفز محلها  صف طويل من طرز سيارة تويوتا (كراون) يمتد لثلاثين عام من عمري، طويل حد التلاشي.

الصورة: تفصيلة من بيت نجفي، وجدتها في مجموعة حفظ التراث النجفي