جعيفران الموسوس

كان صوت الفرات – يخب مسرعا نحو الأفئدة التي تنتظره – النسيم الذي يحدثه جريانه؛ يدفعانه بإحكام صوب دجلة، بمائها المنساب رويدا
فكانت بغداد، التي تملئ فم الأديب بالذهب ـ أو هكذا قيل له ـ
كان يتطلع الى حياة تليق بشاعر
ينفق عن سعة
ويسكن في رحب
ويأكل كما يحب
تصب في اذنه الموسيقى وضحكات “الكرخيات”
وردها معدم لا ميراث بجيبه
ولا وجيه يحميه
عرف المدينة بقدميه
جالها طولا وعرضا
لمس كبريائها وجمالها وخيباتها ووجعها
المدينة التي حلم بأن يعيش حرا فيها
سلبته نفسه
ضربته حتى اثخنته
عصرته حتى يبس
واطفأت مصابيحه، كسرتها قنديلا فقنديلا حتى صارت العتمة فراشه وغطائه
وردها خالي الوفاض إلا من أمله
فاختضمته قصورها الفسيحة، وبيوتها الضيقة، حتى مات الغد في قلبه
وصار عقله رميما تدوسه الارجل وتدعكه دعكا
يغرق في وساوسه
يغيب في لحظات من الهلع بمفرده
ثم يثوب، ليهيم في الطرقات التي أوحشتها الحروب والحفر
فتتبعه همسات الكبار وضحكات الاطفال
تسخر من جعيفران الموسوس
وهو، المدقع
بأحلامه الخاسرة
وأماله الذاهبة مع أمواج دجلة واشرعة قواربها الغاربة، التي يتمناها الشعراء كفنا حين يأزف المغيب
يطفو على السخرية ولا يسمعها
جعفيران يتمتم، وهو يدور حول ذاته، وحيدا، منذ قرون وقرون:
طافَ بِهِ طَيفٌ مِنَ الوَسواسِ
نَفَّرَ عَنهُ لَذَّةَ النُعاسِ
فَما يُرى يَأنَسُ بِالأُناسِ
وَلا يَلَذُّ عِشرَةَ الجُلّاسِ
فَهوَ غَريبٌ بَينَ هذي الناسِ
الصورة: زقاق من بغداد التي شغفت جعفيران، وحطمته، كما هو شأنها، بعيني.
بغداد 8/ 2019

#جعيفران_الموسوس

أم سمير

 

لا اذكر السنة تحديدا، ربما في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، اشترى أبي وصديقه وشريكه: أبو زينب، صاحب العصيبي، سيارة فولكسفاكن طراز ترانزبورتر (Volkswagen Transporter) ميني باص صفراء اللون، كانا يطلقان عليها اسم أم سمير، ولعله كان الاسم الدائر السائر لها تلك الأيام.

لا اذكر كم مرة ركبت تلك السيارة، لهذا لا اعرف تفاصيل صالونها الداخلي بشكل واضح، أذكر أن هناك قاطع يفصل مقصورة السائق عن السيارة، وخلف الباب الخلفي المنزلق الذي تدلف منه لحوض السيارة الخلفي، كانت هناك مخارج لجهاز التبريد في السيارة ـ ربما، لا أذكر ـ لا ادري إذا كانت هناك مقاعد خلفية في السيارة، تقريبا لا اذكر من مرات ركوبي تلك السيارة سوى مرتين، في إحداها اصطحبني أبو زينب ليشرب الحليب صباحا حين كنا ننتظر خروج أبي ليذهبا إلى العمل في الحي الصناعي، لا أدري لم تأخر أبي وأرسلني قبله، كان الجو شتاء بارد، سألني أبو زينب أذا كنت أريد الذهاب معه لشرب الحليب، وكطفل لم يتجاوز العاشرة وافقت، اذكر أن المحل كان قرب ساحة ثورة العشرين، وحين وصلنا تصاعد خوف الطفل لدي، وملأني الرعب من تذكري منع أهلي لي من أن آخذ أو آكل من أي شخص دون إذنهم، فرفضت أن ارتجل معه لشرب الحليب، رغم توسلاته.

ويبدو أننا قد تأخرنا قليلا، فعدت لأجد أبي ينتظرنا على الشارع العام بقلق، قرب مقبرة آل الصائغ على جهة النجف الجديدة الموازية لطرف البراق، حيث بيتنا القديم، ولقلقه الشديد نالتني صفعة معتبرة، هي من الصفعات القليلة التي وجهها أبي لي خلال حياتي، وانخرط في عتاب شديد لصاحبه لأنه اخذني ولم ينفع اعتذار أبو زينب ومحاولته الدفاع عني.

المرة الثانية التي اذكرها مرتبطة بعلة أم سمير الكبيرة، وهي إطاراتها دائمة العطب، أذكر أن أبو زينب لم يكن يتحدث عن السيارة دون ذكر آخر زياراته لـ”البنـﭽـرﭽـي” صحبة المحروسة الصفراء التي يسر لونها الناظرين، ذاهب آيب منه، دون جدوى، ذات يوم، تأخر أبي في العمل، ويبدو أنه نسي شيء ما وكان مستعجلا، دار بي والسيارة في عدة أماكن، ليعود إلى الحي الصناعي عقب انتهاء ساعات العمل، ويقتحم بأم سمير أرضا غير مسفلتة، وعرة ممتلئة بحطام الطابوق وشظايا الزجاج، وبسرعة، كانت الكلاب السائبة تنبحنا أنّى التفتنا في تلك الظهيرة القاصمة، وخلص، لا اتذكر تفاصيل أخرى، لكن الذي لا انساه أبدا هو ما فكرت فيه ساعتها، قلت لنفسي، أن كثرة العطب الذي يصيب إطارات أم سمير هو لأنها مدللة، لأن أبي وصاحبه لا يحملان السيارة أي ضغط أو جهد، لهذا صارت مائعة، كثيرة العطب، وأن ولوج أبي إلى هذه الأرض الوعرة اليوم هو  أفضل دواء لهذه السيارة النحسة، كثيرة الشكوى، وستتعلم الأدب وتتجلد على الشدائد، اتذكر الواقعة، وأتذكر أن إطاراتها لم تتأثر بعد تلك الحادثة، وأقف مستغربا من طريقي تفكيري في سني اليافعة تلك، كيف ناغمت أبا نؤاس حيث يقول:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

لا ادري كيف!

على أي حال، قبل مدة وأنا أتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت مجسمات صغيرة لسيارات متعددة، كان من بينها الظاهر في الصورة المرفقة، صرخت دون وعي: يا الله، أم سمير! ودون تردد اشتريت النموذج.

لقد أحببت تلك السيارة التي لم أركبها كثيرا، أحببتها بشغف كبير.

 

اسطنبول

انها المرة الاولى التي ازور فيها مدينة ذات تاريخ امبراطوري توسعي – هل ألطِّف المعنى القديم للاستعمار؟ نعم، أنا افعل لسبب سيتضح لك يا رعاك الله – زرت مدننا كثيرة، مدن جميلة، بعضها امتلكت تاريخا عريقا زاخر بكل ما يستوقفك كثيرا لتتأمله، وتتفكر بمساره وتحولاته، ولكن، مدن مثل التي افتتحت بها حديثي؟ لا، اسطنبول الاولى.
هذه المدينة مثل أي مدينة فائقة الجمال، تنطوي في ثناياها على قسوة بالغة، روحها الحسناء متوهجة تحرق كل رقيق، وتطحن بثقل متطلباتها كل هش ضعيف، لكنها مدينة ذات جمال باذخ، متوحش، كل ركن فيها يستوقفك، يدهشك حتى يسلبك انفاسك، حتى اكثر احيائها خطورة، يتربع على صدر خليج القرن الذهبي بكل جماله – مثل منطقة قاسم باشا، الخطرة التي نشأ #اردوغان فيها.
ولكن، وبالرغم من كل ذلك، لم استطع أن احبها لأن كل “سراي” جميل فيها، وكل مسجد مهيب يهيمن بارتفاعه الشاهق على بناياتها التي لا تعلو فوق معالمها التاريخية، على الرغم من تذمر صديق اكاديمي اسطمبولي مما يراه تراث مضاع في مدينته – اتذكر مدينتي التي غطاها الاسمنت بوجع – لم احبها، لأن كل هذا الجمال يذكرني بما سلب من بلداننا، ونقل إلى الاستانة، ليوزعه السلطان – ظل الله في الارض كما كتب على باب قصر طوب قابي – كيف يشاء، فتشاد السرايات “القصور” والمساجد، والاسبلة المذهلة.
ولكن مهلا، واعود هنا لسبب تلطيفي لماضي مثل هذه المدن، اليست بغداد التي احب، واعيش فيها لأكسب عيشي، اليست ذات ماض يشبه ماضي اسطنبول، بعبارة الرشيد التي ترن في اذن التاريخ مخاطبا غمامة مرت فوق رأسه: أينما أمطرت لي؟
اقف هنا لأسأل نفسي، ألا أنقم من بغداد ما نقمته من اسطنبول لو حاكمتها بعين الذين جُبي الخراج منهم لخليفة بغداد كما جُبي لخليفة اسطنبول؟ نعم، هي امبراطوريات قديمة ما كان لها أن تكون غير ما كانت، هي ابنة سياقها التاريخي، ومتطلبات زمنها، لكنني هنا اركز على الذات البشرية، عن منظارها إذ يستدير لداخلها، إذ تحدق في المرآة، هل تحاكم التاريخ بذات المعيار؟ هل تقف محايدة على الدوام؟ هل تقرأ الحدث في سياقه الزمكاني بذات الموضوعية دائما؟
لا اظن، حكايتي مع اسطنبول وبغداد تخبرني بذاتي المنحازة، وهي تحب وتتداعى افكارها الداخلية في غير السياق العلمي على الاقل.
#بغداد
#اسطنبول
الصورة: مدخل قصر طوب قابي، تصويري

لا شيء مجانا

كل جميل ترغب بالاستمتاع به له ثمن، للجمال مهرهُ، لتلبية حاجاتك مقابل يستلزم أن تدفعه، حتى دخول المساجد للفرجة هنا له ثمن، برج مراقبة بائس يستلزم أن تدفع لتدخله، وبجوفه محلات تبيع لك وتجبي المزيد والمزيد، كل شيء قابل لأن يتحول الى مورد رزق للناس، وللدولة الضامنة لك، إلا في العراق.
تضع الدولة رسم تأشيرة بائس على الزائرين فتقوم الدنيا ولا تقعد، ويتهم من يسند القرار في عقيدته وضميره الديني، رسم حدودي بائس مقابل سكن مجاني على طول الطريق بين كربلاء وغيرها، طعام مجاني متنوع وفاخر، الدولة تسخر كل مواردها وبنيتها التحتية – ليخرج سماحة المتولي الشرعي على الحضرة العباسية منددا بتقصيرها رغم كل شيء – بيوت الناس مفتوحة، والدوائر معطلة، والشوارع مكتضة “مالك محط رجل” العتبتان المحترمتان توفران باصات نقل مجاني من الحدود الى كربلاء، لتقطعا رزق سواق بسيطين ينتظرون المناسبة من العام الى العام للتكسب خلالها، اطنان من النفايات المستوردة من دول الزائرين، [المساكين] الذين استكثر الناس عليهم الدولارات العشرة، نفايات لا يعاد تدويرها، تملئ الشوارع وما تبقى من مساحات خضراء، ضغط على شبكات متهتكة قديمة للمياه والمجاري والكهرباء، كل شيء مشرع وكأننا في مضيف شيخ قديم لا في دولة حديثة لها متطلبات وواجبات وحقوق، ونستكثر التأشيرة البائسة آخر المطاف!!!
#اركض_يعامر_اركض
#اسطنبول
الصورة: #برج_الفتاة، تصويري.