رفيق على غير موعد

هذه الليلة عاشت لحظات غريبة، فعلا غريبة.

طالما ربت أسرتي البلابل، كان أبي يجلب البلبل صغيرا، يختطفه المزارعون من أعشاشه المودعة على متون النخيل، نربيه في البيت، حتى يعتاد علينا ولا نضطر لحبسه في قفص، بل أننا مرة ربينا بلبلا كنا نطلقه في النهار فيأخذ المنطقة كشفا وبحثا، ويذهب ليدلل نفسه من ثمار شجرة السدر في منزل آل الشاهرودي في طرف البراق، ثم يعود إلى قفصه حين يطيب مزاجه، وبلبل آخر كان لا يقف إلا على متن أبي، يناديه فيأتيه بلهفة، وحين يجلس أحدنا لتناول طعامه فإنه يدعو نفسه للأكل، شرط أن تطعمه بيدك، لا أن يأكل هو بنفسه، وإلا لن يتركك تأكل براحتك، وحين يشبع، يتركك ويذهب غير عابئ بك.

ولكنني لم أحب يوما حبس طيور الزينة هذه، منحها الله أثمن ما في الوجود، الحرية، فكيف لنا نحن البشر الذين نخرب الدنيا إذا امتلكنا حريتنا، فكانت القيود أصل الأصول في انتظام عيشنا وقيام أمرنا؟ فعلا كرهت حبس هذه الطيور الجميلة لمجرد أن نستمتع بصوتها وبريشها الباهر الحسن.

على أي حال، الليلة، ومثل أي وحيد عتيد، خرجت لأتناول عشائي في مطعم قريب، داعب الهواء البارد حواسي، ونفذ إلى جسمي المتدثر جيدا عبر رأسي الحليق، كانت البرودة تتسلل إلى جوفي بنعومة لطيفة، وقد أشبعت برائحة أوراق الشجر، وعبق سعف النخيل، وبقايا التمر الذي لم يجنه أحد من النخيل الرابض وحيدا في البيوت الفخمة التي هجرها أصحابها بهذا الحي الفخم.

في المطعم الصغير، كانت هناك أسرة تتناول عشائها، مما اضطرني أن أغير مجلسي المعتاد لأدير ظهري للأسرة الصغيرة وعصفورتهم التي في الرابعة من العمر تقريبا.

بعد أن وضع أمامي الطعام، وفجأة، وجدت ريشة رمادية اللون ناعمة تهبط أمامي متراقصة، تتمايل مع النسائم المتسربة من الستارة البلاستيكية الشفافة التي تغطي باب المطعم، تعجبت من هذه الريشة الراقصة، رفعت رأسي لأتبين مصدرها، وإذا بعينين سوداوين تحدقان بي من خلف قضبان خشبية، كان هناك بلبل كبير في قفص من سعف النخيل فوق الطاولة تماما، يقف على العارضة الخشبية، مخفضا رأسه، ويتطلع نحوي، بريشه الممزوج بالأسود والرمادي، وكتلة الريش الصفراء عند قاعدة ذيله تتمايل مع حركته المهيمنة من الأعلى، لم ارتح للريشة التي هبطت على طعامي، ولكنني عدت للأكل مجددا.

ولكن الأمر لم ينتهي، لقد غضب الجميل من تجاهلي، نعم أقول لكم غضب.

انتقل إلى المنهل المركب في زاوية القفص، فوق طاولتي اللعينة، وبدأ ينثر المياه علي، حين ارفع رأسي نحوه يتوقف عن طرطشة المياه، يتطلع في عيني، مديرا رأسه يمينا وشمالا، يرمقني بنظرة من يمينه، ثم أخرى من شماله.

اعود لطعامي، فيعود للطرطشة، أرفع رأسي فيتوقف، تكرر الأمر أربع أو خمس مرات، فاستسلمت، رفعت رأسي نحوه وهمست:

– حسنا يا صديقي، آسف لأنني تجاهلتك، اعتذر لمقامك الجميل، هل تسمح لصديقك الوحيد مثلك، المسجون في ذاته، هل تسمح له بتناول طعامه بسلام؟

ولكن العينان العميقتان بقيتا تتطلعان فيَّ، ورأسه يتمايل برشاقة ذات اليمين وذات الخبب ـ بتعبير عدنان الصائغ ـ رفعت كاميرتي لأصوره فهبط سريعا إلى قاع القفص وأخفى نفسه، المشهد يزداد غرابة، حسنا أيها الجميل، أنت وشأنك، عدت لطعامي فعاد لمناكفته.

– طيب أيها الوسيم، أخبرني كيف الحل معك اليوم، أعرف أنك وحيد، وأنا مثلك، وحدتنا مزمنة، ما الحل يا صديقي الصغير؟ هل ستدعني أنال لقيماتي وأمضي بطريقي لا ألوي على شيء؟ أم أنك استعذبت هذه اللعبة؟ طيب دعني ـ على الأقل ـ أصورك حتى استعين على وحشتي بجمالك، لعلك ترضى مرة أو تسامح ـ هل العجز صحيح؟ لقد نسيت عجز ذلك البيت الذي مطلعه: فليتك تدري كل ما فيك نالني ـ ولكن رجائي خاب مرة أخرى، ما أن أرفع الكاميرا نحوه، يتوارى في قفصه مبتعدا، وبقيت معه، مدا وجزرا حتى أكملت طعامي وسط رشيش المياه الذي يطلقه نحوي حين اخفض رأسي عنه متجاهلا كبريائه المتدفقة من علياء متلفعة بالجمال.

حسنا، أنا يا صديقي مبارحك، عائد حيث ألتف على روحي، اسحب وحدتي إلى صدري مثل دخان السجائر، تستنزفني رويدا أيها الرمادي الأسير، وأنت وريشك الجميل، وزهوك المتكبر، تظل هنا، وقد غيرت الإضاءة مواعيد نومك، وأفقدك الأسر قدرتك على أن تدع أمثالي من المكسورين بسلام، أو لعلك بما وهبك المصوّر من قدرة أردت أن تؤنس وحشتي، أن تُطرق نحوي بحنو، أن تشاركني أمسيتي هذه بمحبة، أن تقول لي أنا معك أيها النائي، انظر بعيني وكلمني، لا تصورني، فهذه اللحظة أثمن من أن تحبسها في هاتفك المتخم هذا.

سلام لك أيها النبيل في هذه الليلة الباردة، خرجت، وليس في يدي من جمال هذه اللحظات الحميمة غير ذكرى، وصورة لقفص يختبئ فيه بلبل خجول من الكاميرا.

الاثنين، 15 كانون الثاني، 2018