The Adjustment Bureau

علي المعموري

هذا الفيلم من الأفلام التي تجمع الحديث عن كل شيء في حبكة واحدة محكمة، تختلط فيها الرسالة السياسية بالغيبيات، بالعلاقات الإنسانية، الدراما البحتة بالأكشن، مع مسحة خفيفة من كوميديا إنسانية نعيشها يوميا، يتناول مسألة الاختيار الحر، أو الجبر والتخيير على اختلاف توجهها، مع لمحة من فلسفة القوة للمرحوم نيتشة، ناهيك عن الجو الساحر الذي تحيطك به موسيقى الرائع (Thomas Newman).

فيلم لا يقوم على الثنائية التقليدية من الخير والشر وإن تعرض لها، هنا لا يوجد شرير من الأساس، توجد قوة عليا تتحكم بمصائر الناس، في دوران موارب حول (الإله) لا يقول لك الفيلم انه يعنيه، ولكنه يمنحك كل الأسباب التي تعتقد من أجلها انه يعنيه، يقول تومسون (تيرانس ستامب) لديفيد نوريس (مات ديمون) إننا كنا حاضرين منذ بدأتم بتكوين الحضارة، أيام الرومان، أعطيناكم الإرادة الحرة، فمنحتمونا خمسة قرون من الجهل والظلام، وهكذا يستمر في سرد مراحل تاريخية “تدخلوا” خلالها في حياة الإنسان بوصفهم قوة عليا، وخربها الإنسان، ثم قرروا أن لا يتركوا الأمر بيد الإنسان، الإرادة الحرة فكرة سيئة حينما تمنح لهذا النوع من البشر، “هم” الآن يحرصون على ان يتدخلوا في حياة مجموعة معينة من البشر الذين يؤثرون في الآخرين، وعبر زرع الافكار في رؤوسهم، وتهيئة الصُدف المقصودة لإحداث انعطافات مهمة في حياتهم، وهم بدورهم سيقودون القطيع خلفهم.

من هذه “الصُدف” المعدة مسبقا، تبدأ الحركة في الفيلم، في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، وأكثرها إبداعا في الفنية الصورية، وأداء، ديفيد نوريس، المرشح اللامع لعضوية مجلس الشيوخ الامريكي، الذي هزم بشدة، يقف في حمام الرجال مناجيا نفسه قبل خطاب إعلانه هزيمته، يظن انه بمفرده، يتحدث بصوت عال، ليكتشف بعد لأي انه ليس وحيدا، هناك شفق يؤذن بالحياة يختبئ في حمام الرجال، إليس (اميلي بلانت) الساحرة التي اقتحمت حفل زواج في الفندق نفسه، وسمعته، زرعها “هم” في الطريق، لتمنحه إلهاما لخطابه المهم، تخرجه به عن التقليدية، ينتهي الحوار بقبلة شغوفة، ونوريس يجري وراء الفتاة في الممر، حائرا، مأخوذا، للطيف الذي هز كيانه بعمق، وغيره إلى الأبد، ثم يظهر إلى الجمهور أمام الكاميرا بحركة زوم آوت توحي للمشاهد بأنه بطل المشهد وليس نوريس وحسب، ويلقي خطاب خسارة غير تقليدي يمهد أمامه الطريق إلى الترشح مرة ثانية.

الصدفة الثانية، وهي صدفة بالفعل هذه المرة، هي حينما يذهب إلى عمله الجديد صباحا، والرجل المكلف به ــ سمه ملاكا أو أي شيء آخر ــ تأخذه غفوة من الإرهاق، فيتأخر عن سكب القهوة على قميصه وتأخيره، يصعد نوريس إلى الباص، ليشاهد الفتاة الحلم غافية في الباص، يجلس قربها منبهرا، وتصحو على مقدمه، ثم شرارة تضطرم.

لاحقا يكشتف نوريس انه ليس بمفرده، ان هناك من يعمل على أن يملي عليه إرادته، يخبره تومسن لاحقا عن “الارادة الحرة” المزعومة للبشر، انها تتعلق بمعجون الاسنان الذي يستخدمه، بالسرير الذي ينام عليه، أما مصائر الأمم، فهي مُسَّيرة، ولا تترك لنزوات البشر وسيرهم المتخبط، يخبره ان بقاءه مع (إليس) هو خارج المخطط، ان تلك الفتاة ستملأ الفراغ الذي في داخله، بما يوقف طموحه إلى الزعامة، هنا تطفو الرسالة السياسية التي تتحدث عن “الدور الامريكي” وواجب الرجل الامريكي تجاه الإنسانية، يخبره “أنهم” يريدون له ان يفوز بدورتين في مجلس الشيوخ، وبعدها يريدون له ان يذهب إلى البيت الأبيض، “باستطاعتك تغيير العالم” الا تفهم، الرجل الأمريكي، الذي يدافع عن حريات الآخرين، الرئيس الامريكي الذي يقاتل في سبيل الإنسانية، هو نفسه يعمل بتأييد من الرب، إذا شئت، من القوى الغيبية كائنا ما تكون، يذكرنا بأعتى افكار المحافظين الجديد من بوش الابن وكوندوليزا رايس ورفاقهم في النضال!

فضلا عن ذلك، سنجد الفيلم يدور حول “الطريقة الامريكية في الحياة” فإن روح المخاطرة الامريكية، السعي وراء المجهول، اتخاذ خيار المخاطرة بأمل الافضل، كلها تبدو في الفيلم، إليس تركض يدها بيد ديفيد من باب إلى باب، في مشاهد مبهرة وجميلة، توحي بالتنقل من حال إلى حال، الانبهار من المجهول، ثم اتخاذ الخيار الاصعب المنطوي على المخاطرة، الثيمة التي يسوق لها كصفة أمريكية لازمة، الامر الذي تمجده القوى العليا، الغيبية، مثنية على الاختيار الصعب، وسياق الثقة والتضحية من أجل الحب الذي تأتي فيه خلال المشهد قبل الختامي، لدرجة إلهام “المدير” لأن يغير خططه.

في الواقع يكون الفيلم أكثر صراحة في هذا الطرح، في العبارات الختامية، يقول “الملاك” ــ الاسود بالمناسبة، ضمن اللازمة الاثيرة في الافلام الامريكية في أن يكون للرجل الابيض تابع أسود، صديق، ملاك حارس، سمه ما شئت، يمثل جانب الغيبيات، الغيبيات التي تجاوزها الرجل الأبيض “المتحضر” الذي يؤمن بالمنطق، بالدلالة التي تمثلها الغيبيات بالتخلف وفق هذا الطرح، ويأتي الاسود ليعيد له توازنه الروحي اللازم، الذي لا يسلبه منطقه، ولكن يمنحه شيئا من الروحانيات ــ يقول هاري (انثوني ماكي) بعد أن يؤكد ان اغلب الناس يسيرون وفق الخطط التي “نضعها لهم” ولكن كل مدة يأتي اشخاص يتجاوزون العقبات، اشخاص يفهمون أن: (الارادة الحرة هي نعمة لن تعرف كيف تستخدمها حتى تقاتل من أجلها، اعتقد أن هذه هي خطة المدير الحقيقية، أنه يوما ما نحن لن نقوم بكتابة الخطة، أنتم من سيفعل)، كل هذا يذكرني بالتلاعب الذي قام به صلاح عبد الصبور في قصيدته (الملك لك) التي عارض فيها قصيدة توماس إليوت، التي بناها على فقرة من الصلاة الانجيلية (لأن لك الملك) اما صلاح عبد الصبور، فقد جعل الملك للإنسان على الأرض، منحيا المشهد الغيبي عن الصورة، وهنا في هذا الفيلم يدور المشهد بطريقة ماكرة جدا، تُبقي على “المسيطر” الذي يملك كل شيء على مقامه، ولكنها تجعله يتجه إلى منح “الخاضعين” القدرة، القدرة على ان يكونوا هم المسيطرون على حياتهم، بإرادته بطبيعة الحال.

ولكن إلا يمكن أيضا ان ننطلق من الآية الكريمة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ضمن نفس السياق؟

لا أريد أن استطرد في هذا كثيرا…..

على أي حال الفيلم لا يخلو من الاستناد على الكثير من الافكار، بينها الدينية بشكل أكيد.

وينبغي أن أشير أيضا إلى المشاهد الخلابة، والمواقف غير المتوقعة في الفيلم، التي لا يمكن تجاوزها دون شعور بالاثارة، بالسعادة البالغة، بالجمال، كمشهد وقوف ديفيد نوريس وحيدا في اللوبي بداية الفيلم، تنتقل الكاميرا من يمين الصورة حتى تقف في المنتصف، مركزة على ديفيد الواقف، مركز الحدث هو بلا شك، الممر طويل، تزداد الإضاءة كلما زاد العمق، لتنتهي بشباك طويل يعتلي الضوء قمته، كأنها إشارة إلى الأمل، إلى الانتقال من العتمة إلى الضوء تدريجيا كمرحلة قادمة.

مشهد الحمام وحواره مع إليس وهربها، مشاهد التنقل بين الأبواب من قبل ممثلي القوى الغيبية، تنقل ديفيد نفسه مع إليس بعد أن اعطاه هاري قبعة الانتقال، الصدفة المبهرة التي جمعت ديفيد بإليس في الباص، مواظبته على ركوب نفس الباص لثلاث سنوات لكي يجدها بعد أخذ الغيبيون رقمها منه، ثم لقاءه بها، سعيه إلى لقاءها رغم العقبات التي وضعت في طريقه، وغيرها من المشاهد المبهرة، فيلم جميل، ممتع، محفز.

 

The Adjustment Bureau(2011)

Director: George Nolfi

Writers: George Nolfi (screenplay), Philip K. Dick (short story “Adjustment Team”)

Matt Damon . Emily Blunt . Michael Kelly. Anthony Mackie .John Slattery.Terence Stamp

للمزيد عن الفيلم انظر: Imdb

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.