حول النظام الرئاسي

نحن كعراقيين ماهرين بمعالجة رأس المشكلة، وتجاهل أصلها، مما يجعل حلولنا تبدو كمحاولات قطع رؤوس القصب دون اقتلاع جذوره، والتي تنتهي بنموه من جديد، وآخر هذه الحلول العبقرية التي يطالب بها العراقيين الفيسبوكيين هو النظام الرئاسي.

ولو سألت الكثيرين ممن يطالبون به، عما يميز هذا النظام عن غيره، وأن يحددوا بدقة نوع النظام في العراق لما دروا، ولما عرفوا رأس القضية من ذيلها.

1. يحسب الداعون إلى النظام الرئاسي أنه لا يضم برلمانا، وهو السبب الأساس الذي يطالب العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي بالنظام الرئاسي لأجله، فخلال الأعوام الماضية، تضافرت مجموعة من العوامل على تشويه صورة البرلمان كمؤسسة أصيلة في النظم الديمقراطية أمام المجتمع العراقي، وحمّلته بمفرده مسؤولية الخراب الذي ضرب البلد حتى اليوم، رغم ان المسؤولية لا تقع على البرلمان كمؤسسة، ولكن تقاسم تخريب صورته نواب قدموا له بأسس المحاصصة، وتداعيات التشظي العراقي، والخلافات المذهبية العرقية، فنقلوا مشاكلهم إلى البرلمان، وقاموا بتضخيمها، بدلا من العمل على حلها، وزاد في الطين بلة تمدد السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان خلال ولايتي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وعمله على رمي الكثير من الأخطاء والاخفاقات التي صدرت عنه على البرلمان، وتنصل الحكومة منها، مع أنها الاكثر سلطانا كأمر لازم للنظم السياسية في العالم النامي، أو المتخلف أو التي تمر بمراحل انتقالية، فبدا أمام العراقيين وكأن مشكلتهم تقبع في البرلمان وحسب.

2. البرلمان العراقي ما هو إلا انعكاس للمجتمع العراقي، أو ما أريد له أن يكون عليه، وخلال السنوات الماضية تعمق الشرخ الاجتماعي لدرجة كبيرة، واعضاء مجلس النواب ما هم إلا نتيجة تصويت ذات المنادين اليوم بطردهم، والسراق، السبابون، المستعرضون بالفضائيات هم نتيجة لصناديق الاقتراع، وللنظام الانتخابي الفاسد الذي جعل هيمنة ذات الوجوه على العملية دائماً.

3. طيب، عن أي نظام رئاسي يتحدث المطالبون به، هل هو النظام الرئاسي المطلق كما في الولايات المتحدة، أم هو النظام شبه الرئاسي كما طُبق في فرنسا؟ والغريب ان البعض يقارن انظمة رئاسية مثل النظام المصري أو الجزائري بالنموذجين الأولين، على ما بينهما من اختلاف واسع، فالنظم الرئاسية في الدول غير الديمقراطية أو المتدثرة بالديمقراطية ــ صندوقراطية ــ ما هي إلا تطبيق لما يطلق عليه الدارسون للسياسة اسم (الرئاسية) حيث يبدو ان النظام الحاكم رئاسي، بينما هو رئاسية، يتفرد بها الرئيس بكل الصلاحيات ويلغي دور البرلمان، مما ينفي صفة الديمقراطية بالتالي، ويجعل مقارنة النظم في العالم النامي بالنظم المتقدمة نكتة سمجة.

4. الرئيس في النظم الرئاسية عموما ورغم صلاحياته الواسعة، إلا انه يظل كما في النظم البرلمانية، مقيد الصلاحيات فيما يخص الإنفاق المالي، وإعداد الميزانية، يقترح القوانين، لكنه لا يمنحها القوة القانونية الملزمة دون موافقة البرلمان، قد يوقفها، ولكنها لا يمنحها القوة للتطبيق، ويخضع لاستجواب البرلمان، وتراجع سياساته هو ووزرائه بشكل دائم من قبل السلطة التشريعية ــ يعني البرلمان وراكم وراكم ــ.

5. الفكرة من تقسيم السلطات عموما هي تهشيم السلطة، وعدم حصرها بيد فرع واحد كإجراء يضمن عدم استبداده، لهذا ظهر التقسيم المعروف للسلطات، تشريعية، تنفيذية، قضائية، وأي مطلب بإضعاف أحداها هو مطلب ينافي الديمقراطية ونظرياتها، شئنا أم أبينا.

6. طيب، كيف سيتم اختيار الرئيس في النظام العراقي الرئاسي الذي تريدون؟ عبر الانتخابات أليس كذلك؟ ولكن وفق أي قانون انتخابي، الاغلبية المطلقة، أم النسبية، أم معادلة سانت لاغ “المخربطة” عفوا المعدلة عراقيا؟ ما يجب أن تتم ملاحظته، أن المشكلة العراقية لا تتعلق بالدرجة الأولى بشكل النظام السياسي المتبع فيه، بل بطبيعة الثقافة السياسية السائدة، والتشظي الهوياتي عموديا، والطبقي أفقيا، الرئيس المفترض سيكون جزءا من حزب، أو طائفة، ولن يكون مقبولا بالنسبة لجمهور الطائفة الأخرى أو الحزب الآخر، لأننا لا نزال في العراق يا سادة، بكل مشاكلنا السياسية والهوياتية.

7. فضلا عن ذلك كله، وبالتتابع مع النقطة السابقة، يجب ملاحظة أمر فائق الأهمية يجعله المتخصصون عادة من أهم أسباب عدم الاستقرار الحكومي والسياسي تبعا له، وهو طبيعة النظام الانتخابي، حيث ان نظام الأغلبية النسبية يقود دائما إلى عدم الاستقرار الحكومي، ويحتاج إلى دولة مؤسساتية قوية لا تهتز كثيرا بالتقلبات الحكومية الدائمة، مثل ما يحدث في إيطاليا وإسرائيل مثلا، بينما تلجأ دول أخرى إلى وضع عتبة انتخابية تسهم في تقليل الكتل القزمية في المجلس التشريعي، وتقود إلى استقرار حكومي عبر تحالف قوي، مثل ما ينص عليه القانون الانتخابي التركي مثلا، أما نظام الأغلبية المطلقة فهو ما يتبع في بريطانيا والولايات المتحدة الذي يقود بالتالي إلى الحزبية الثنائية.

8. النظام العراقي الحالي ليس نظاما برلمانيا تماما، بل نظام هجين، فيه ملمح من النظام الرئاسي برئيس يملك صلاحيات اقتراح القوانين، والاعتراض عليها، بينما هو في صلبه يحاكي النظم البرلمانية، وبطبيعته، وطبيعة الوضع العراقي فهو مجرد صيغة توفيقية بين المصالح المتصارعة، وبملاحظة فشلها فهو غير مجدٍ علميا.

9. مرة ثانية، في النظم السياسية التي تواجه مشاكل التقليدية والتخلف مثل النظام العراقي تبرز مشكلة أساسية، وهي تمدد السلطة التنفيذية على بقية السلطات، وهو ما تبيّن بدرجة واضحة خلال حكومة نوري المالكي، واستفراده بالقرار السياسي، وتأثيره على القضاء وغيره، الأمر الذي لا يزال موجودا ولكن بطريقة مختلفة، لان الدكتور العبادي لم يتسنم منصبه والعراق شبه مستقر كما كان الأمر، بل نصف العراق ضائع، والجيش والشرطة ضعيفان، وقوى الأجهزة الردعية هي أضعف من في الشارع اليوم، والمحافظات تكاد تستقل بقرارها الإداري، فعن أي دولة وأي ترقيع تريدون الحديث؟

10. ان اختزال المشكلة العراقية بهذا الموضوع ما هو إلا تسطيح لها، فالمشكلة العراقية متعددة الأبعاد، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، عسكرية، وتواجه تحديات داخلية وخارجية، ضغوطات إقليمية ودولية، ناهيك عن صعوبة تعديل الدستور، وجمع الكلمة على ذلك.

11. اعترف اليوم، وبالاتصال مع آخر النقطة السابقة عن مدى ضلالي السابق، الذي بني على جهلي ونقص المعرفة، فعندما كنت طالبا في المرحلة الأولى عام 2005 بكلية العلوم السياسية كان أساتذتي يحدثونا عن خطأ الطريقة التي كتب بها الدستور، ويحاولون بكل ما أوتوا من تهذيب بذلك الظرف الخطر أن يبينوا لنا القنابل التي زرعت فيه، والتي ستهدد الوحدة الوطنية، وتؤذن بتفجير صراعات لا آخر لها، وخطر تضمينه نصوصا تجعل منه هرما لا يقبل النقض ولا التعديل ولا التغيير، وكنت كغيري من الزملاء مندفعين بحس وطني أو غيره، تشدنا العاطفة إلى الأمل بمستقبل واعد بعد انهيار نظام صدام حسين، وورود بشائر الديمقراطية رغم السلبيات القائمة، فضلا عن التحشيد الطائفي، واليوم تتحقق كلماتهم، لأنها كانت نتيجة لاستقراء علمي، ومواقفنا كطلبة كانت نتيجة لآراء مسبقة، ولأحكام نقاشات المقاهي التي صارت اليوم نقاشا فيسبوكياً، ولا يزال الموقف نفسه يتكرر، الأكاديميين وأهل الخبرة تم تنحيتهم عن الموضوع، ومن دخل من الأكاديميين في معمعة الأحداث اليوم في الغالب يغرد مع رغبات الجهة التي تحميه، وظلت الجماهير تهتف بمزاجها.

12. مشكلتنا ــ باختزال شديد يصل حد الاخلال ــ لا تتعلق بشكل النظام السياسي، مشكلتنا تتعلق بالمجتمع ذاته، بقيمه المؤسسة، وانعكاساتها على الدولة وما تتضمنه من أنظمة فرعية، منها النظام السياسي، نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي بعد أن تفككت روابطنا القديمة التي ضمنت حداً أدنى من إمكانية التعايش.

 

20/ 6/ 2015

 

النزاهة في العراق الجمهوري

ملاحظات أولية حول النزاهة، بين السلوك الشخصي والالتزام بالقانون

السؤال الأساس الذي أود طرحه في هذا الموضع هو: هل إن النزاهة المطلوبة من الحاكمين هي منقبة وسلوك شخصي وحسب؟

أم أنها يجب ان تكون سلوكا قانونيا لمن نهض بأعباء الرياسة وتبعات المنصب؟

ان تفحص طبيعة سلوك رجال الحكم في العراق الجمهوري، وطبيعة النظام السياسي، وجره للدولة وراءه بكل سلبياته أو إيجابياته، سيبين ان الطابع الشخصي كان هو الأساس في السلوك الإداري والسياسي، بعيدا عن الالتزام بالقوانين.

ولعل أول ما يتمسك به محبي وأنصار عبد الكريم قاسم هو نزاهته، وخروجه من الدنيا بدون تركة مالية أو عقارية.

كما ان هناك من يلاحظ أن النزاهة تلك كانت سمة ظاهرة ــ أيضا ــ على أغلب القابضين على السلطة في العراق، حتى وصول صدام حسين إلى المنصب الأول في الحكم، وفي حقيقة الحال لا يمكن نكران ما ذكره الفريق الأول أو الفريق الثاني.

ولتفحص ما أذهب له، من المهم العودة إلى العصر الملكي، حيث سنلاحظ ان ما يفتخر به الشيوعيون، والمعجبين بقاسم من غير الشيوعيين، من نزاهته لم يكن بالأمر الغريب عن رجالات العهد الملكي، الذين تربى قاسم على قيمهم، ونشأ في مؤسساتهم.

ولكن المميز الأساس بين العهد الملكي والعهد الجمهوري ان النزاهة في العهد الأول لم تكن مجرد صفة شخصية نابعة من البيئة والتربية، بل كانت ــ من جانب آخر أكثر أهمية ــ انعكاس لصورة الالتزام بالقانون وتعليمات الدولة.

فكل إنفاق، أو نشاط، أو خطة عمل كانت تتم بقانون، ولست أزعم هنا ان البرلمان في العهد الملكي كان برلمان ملائكة، أو انه نابع من انتخابات حقيقية، فطبيعة الصراع السياسي، وصيرورة بناء دولة حديثة في العراق في ظل الاستقطابات الآيديولوجية التي بدأت تغزو المنطقة بعد بدء الحرب الباردة خصوصا، فرضت أن تتضمن السياسات الحكومية الكثير من التلاعب في الانتخابات، الأمر الذي تطرق له د. نزار توفيق الحسو في كتابه (الصراع على السلطة في العصر الملكي)، وناقش حنا بطاطو جذوره في كتابه المهم (العراق).

ولكن رغم ذلك، فقد كانت للقانون حرمته، وكان القضاء مستقلا، والقضاة لا يساومون، ولا يجاملون، ولا يخضعون لرأي سياسي، ويمكن هنا مراجعة كتاب القاضي فتحي الجواري (سدنة العدالة اعلام القضاء في العراق).

ولكن ما تغير في طبيعة نزاهة الحاكمين في العهد الجمهوري أن العسكر لم يحترموا القوانين يوما رغم نزاهة أغلبهم، وأولهم عبد الكريم قاسم، وأن سلوكهم النزيه كان مجرد طبيعة شخصية نشئوا عليها، ولم يكن انعكاسا لالتزامهم بالقوانين، وبطبيعة الدولة وروحها القائمة على القانون بالأساس.

ففي عهد عبد الكريم قاسم بدأ تدخل السلطة السياسية والفرع التنفيذي بشكل أدق ـــ بعد ان انتهى دور البرلمان نهائيا ــــ في عمل القضاء، وحدث الصدام الأول بين عبد الكريم قاسم وقضاة محكمة التمييز العراقية، وإن لم يتطور كثيرا لأن قاسم كان أكثر نزاهة وأجنح إلى التنظيم وعدم تكسير الأيدي من الذين قبضوا على السلطة من بعده، حيث تناما التدخل إلى ذروته بعد صدور قرار مجلس قيادة الثورة ــ أبان رئاسة احمد حسن البكر للجمهورية ـــ بجعل الأشراف على القضاء من صلاحيات وزير العدل، مما سبب احتجاج قضاة محكمة التمييز، واصطدامهم بوزير العدل ــ للأسف كان الدكتور منذر الشاوي ـــ.

إن طريقة التعامل مع القضاء، والنزاهة التي لم تكن تعبيرا عن التزام بقانون أكثر من كونها خيار شخصي، يبين حجم الفارق بين أنظمة العراق الجمهوري، والعهد الملكي، ويدلل على ان الأخير كان عهد دولة، وإن شابته من الأخطاء ما يشمل أي نظام إنساني آخر، بينما كان العراق الجمهوري عهد حكام شخصنوا النظام في ذواتهم، وليس دولة بما تعنيه الدولة من تجرد.

ولأسأل، كم هو عدد الذين أعدموا لأجل موقفهم السياسي في العهد الملكي؟ باستثناء فهد ورفاقه بطبيعة الحال.

وحتى إعدام سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في خضم تيار الحرب الباردة الجارف، لم يتم برغبة مزاجية، أو بإيعاز من نوري السعيد أو عبد الإله، بل كان بمحاكمة، وبقانون، عكس الفوضى الدموية والمحاكمات الفورية التي برعت بها تيارات العهد الجمهوري، ابتداءا من الشيوعيين وانتهاءا بالبعثيين، محاكم شارع، يقوم متأدلج حزبي نصف متعلم، متسلح بالبندقية لا بالقانون، تنتهي بإصدار حكم سياسي ينفذ بالاعدام ولا شيء سواه.

ثم هزل الأمر للدرجة التي صار القانون مضغة في فم صدام حسين، والذين عاصروه يتذكرون جملته الشهيرة التي كان يعقب بها على طلبات مواطني المناطق التي يزورها، ملتفتا إلى مرافقه صباح ميرزا، بعد أن قرر منح المواطنين مكرمة إعطاءهم جزءا من حقوقهم قائلا: (صباح سويلهم قانون).

إن الدول لا تقوم إلا بالقوانين، والسجايا الشخصية تذهب مع أصحابها، نعم هي جزء لابد من غرسه وتنميته في عملية التنشئة، لأن الدولة في النهاية نظام شامل، يتكون من مزيج من النظم الفرعية، بينها النظام القانوني، والنظام الاجتماعي، الذي يضم الثقافة، والتي تندرج النزاهة ضمن إطارها بالتالي.

ولعلي لست مبالغا إذا قلت أن أول ما خرّب الدولة في هذا البلد كان الزعماء الملهمين، النزيهين، غير الملتزمين بالقانون.

[للاستزادة حول دور محكمة التمييز، من المناسب الاطلاع على هذا المقال: القضاء العراقي سابقاً وحاضراً من منذر الشاوي إلى مدحت المحمود]

 

الكدس الأول

(1)

قضيت الشطر الأول من سنوات دراستي الابتدائية في مدرسة الغفاري بمقرها القديم، وهو المقر الذي انتزعته السلطة من جمعية منتدى النشر بعد إغلاقها، الجمعية التي أسسها المجدد المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسس كلية الفقه في النجف، حيث كان مقر المدرسة التابعة لها بعد ان توسعت، فبنت الجمعية مدرسة ابتدائية على مساحة مربع سكني كامل (بلوك)، بقينا في مقرها حتى الصف الرابع، ثم انتقلت إلى مقر جديد جنب إعدادية النجف، التي تأسست عام 1925 فكانت ثالث اعدادية تؤسس في العراق.

(2)

كل السنوات الجميلة، الخالية من المسؤولية التي قضيتها تلك الأيام كانت بكفة، واكتشافي لكنز أسأت استخدامه غاية الإساءة بكفة أخرى.

(3)

في طرف المدرسة الجنوبي الغربي، كانت تقبع ثلاث حجرات لم تركب لها أبواب مما يوضع للحجرات عادة، بل ركبت لها صفائح حديدية مبرومة، من تلك التي تركب للمحلات التجارية، ويسمي العراقيون واحدها (فنر)، صفائح مثناة تبرم على محور عمودي مركب عليه زنبرك يسهل طيها وفتحها إلى الأعلى أوالأسفل.

لا اتذكر بالضبط كيف اهتديت لها، خصوصا ان الوصول لموقعها كان يتطلب ان أمر بمكتب المدير وغرف المعلمين، التي كانت تتمركز في الجهة الغربية بطولها، بكل ما تعنيه سلطة المدير، وعامل الإرهاب الذي تشكله للطفل الصغير، الذي قد يتعرض للصفع لو خرق النظام، لا اعرف تماما كيف ولجت لها، ولكني متأكد ان زميل الطفولة حسن أنيس الذي احببته كثيرا ولم اسمع عنه شيئا منذ الابتدائية كان شريكي بذلك الفتح الجريء.

(4)

كان طرف احد (فنرات) الحجرات تلك قد أفلت من السكة التي تحبسه، فولجت لداخل المحل المظلم، إلا من خيوط ذهبية لأشعة الشمع تتسلل من شقوق (الفنر) لتضيء تلك العتمة بنعومة وئيدة، فيختلط الضوء المتسرب برائحة الرطوبة وبقايا رائحة سأغرم بها حتى آخر أيام حياتي، رائحة أحبار الطباعة المتسربة من الكنز، مختلطة بالرطوبة، ورهبة ذاكرة المكان، كدس كبير، تلٌ من الكتب، كتب المناهج القديمة للمدارس العراقية.

(5)

كانت خليطا متنافر الطبائع، متجانس في صلب ذات المعرفة ــ وهل لها ذات؟ ــ، مناهج الخمسينات حتى الثمانينات، كتب الأدب واللغة والمطالعة والنصوص والتاريخ والرياضيات والعلوم إلى آخر أنواع المناهج.

تقبع هناك وحيدة إلا من ذاتها، مهملة إلا مما انطوت عليه من علم، أكاد اليوم أسمع الأصوات التي تنبعث منها كالهمهمة الخفيضة، تتصاعد رويداً مرحبة بالطفل الذي شب وهو يسمع عن مكتبة جده التي لم تظل بعده طويلا، ولم ير من قبل هذا الكم من الكتب مجتمعة معا، كأنها في حفلة، أو كأنها في انتظار جماعي لزوار بدا أنهم لن يعودوا مجددا لتلمس صفحاتها، كما يتلمس العاشق خد حبيبته، كما تتلمس الأم وجنة رضيعها بجذل.

بسرعة خاطفة، حمّلت ما استطعت منها في حقيبتي المدرسية، وخرجت هاربا صحبة حسن، إلى البيت.

(6)

كنت طفلا في أول عهده بهؤلاء الصحب، ولا أعرف كيف ينبغي بي أن اعاملهم، ولهذا، فإن عمتي جلست تتفرج علي وأنا اشرع في مجزرة ورقية، بغياب أمي في المدرسة، التي عادت لتفاجئ بالمنظر المرعب الذي صنعته.

كتب الرياضيات والعلوم كانت تتحول مباشرة إلى صواريخ ورقية وانابيب للقتال بيني وبين أخوتي، أما كتب الأدب والنصوص فكنت أقرأ منها ما استطيع، ثم تلحق بصويحباتها، وأمي تؤنبني، وتحاول ردعي عن هذه المجزرة التي صارت برنامجا يوميا دون فائدة.

(7)

لا يمكن لي اليوم ان اصف المتعة التي منحتها تلك الكتب لي، سواء بعد ذبحي لها وجعلها ألعاب عنيفة، أو وأنا أقرأ ما تيسر في كتب المطالعة والتاريخ من قصص أدبية، وأشعار مختلفة، بعضها لا يزال حتى اليوم في بالي بعد أكثر من عشرين عام ـ يااااااه وصلت إلى تلك المرحلة التي اتحدث فيها عن ذكرياتي قبل عشرون يا أمي ــ لا زالت بعض الأسماء عالقة في ذهني، ولا زالت بعض الكذبات التي سقتها لأصدقائي في (العكد) مستلهما أصولها القصصية من تلك اللمحات الخاطفة.

في تلك الكتب، قرأت أول الأسماء الرنانة التي ستلازمني طويلا بعدها، ورأيت أول صور القادة، والملوك، والفلاسفة، لا زال رأس أفلاطون المرمري، ولحية ارسطو، وأطلس يحمل الكرة الأرضية تلازم مخيلتي.

لا زالت أواني ارخمديس المستطرقة تداعب نظرية فيثاغورس في مخيلتي، رغم كرهي للرياضات، ولا زالت قصيدة شوقي عن الهدهد غضة طرية في ذاكرتي، أقرأها بيتا بيتا بين الحين والآخر.

(8)

لا أذكر المدة التي بقيت خلالها استهلك من تلك الكتب، قبل ان يقبض المدير أ. عدنان علينا، وننال صفعة عامرة رغم أننا من المتميزين الذين لا يداس لهم طرف، ثم تولاها الرجل بالبيع لمن كانوا يصنعون منها أكياسا ورقية تستعمل مرة واحدة أيام الحصار في التسعينات، كانت هناك عربة يسحبها حمار ظلت تؤم المدرسة لأيام قبل أن تأتي على تلك الجموع، التي كنت وحسن سببا في تعكير سكينتها، أو في خلاصها من اللاموت أو اللاحياة!

(9)

رغم ذلك، لا زلت حتى اليوم احتفظ بواحد أو اثنين من تلك الكتب، من كتب المطالعة والنصوص والأدب خصوصا، لا أعرف في أي خزانة مزوية من كتبي يقبعان، لكني أذكر من أحدهما واحدة من أكثر القصص التي أبكت طفولتي الغضة الآخذة بالتماس سبيل أهلي الباكي الحزين، كانت قصة لتشيخوف، اسمها الحصان، عن حوذي توفي ولده بمرض وهو لتوه آخذ بسبيل الشباب، وكل قلب أبيه أمل بأن يقوم بشيخوخته، كان الرجل يتلوى بين لسعات البرد، والثلج الذي يكشط وجهه، وبين حزنه الذي يمزق قلبه، يحاول ان يحدث من يركب في عربته عن مأساته دون جدوى، كان يريد أن يخبرهم كيف كان ولده قويا، يقود العربة بشكل أفضل منه، وكيف مرض، وذوى عوده كالورد عاجله الخريف، لكن أحدا لم يصغ، بل إن شبانا نبلاء صفعوا قفاه ليضحكوا وحسب، وفشل حتى في الحديث إلى ساقي البار عن مأساته، فأخذ كوبه، وخرج ليطعم حصانه، وفي الوقت الذي كان الحصان يلعق (الهرطمان) من كف صاحبه برقة، أخذ الحزن من الحوذي مداه، فانخرط يحكي للحصان مأساته.

(10)

اتذكر في هذه اللحظات تلك الوجبة المبكرة من الحزن، التي قرأتها مرارا وتكرارا، وبكيت لها بشجاعة في طفولتي، ونهنهتها بخجل في شبابي،.

أتذكر تلك الرائحة العبقة اللذيذة التي داعبت حواسي في ذلك المكان الممتلئ كتبا، الذي أسلمني لاحقا إلى أكداس أخرى، ولكن بعد أن صرت ممن يقدسون الكتب، ويأنسون بمجرد الجلوس بين أكداسها.

كيف لي أن انسى، وعبد الرضا الرادود يستفز طفولتي التي تعرفت إلى الدنيا عبر المآسي التي كان صوته المجلجل يسردها لي قائلا:

أيام عاشوها….وشلون ينسوها

7/ 6/ 2015