مشهد عرضي من شتات متخيل

كنت مذهولا، وكانت قامتها تتلاشى أمامي في الممر، تنسحب وئيدة بخطوها الرشيق، رغم ان هناك صراعا عميقا بداخلها بين التراجع أو المضي قدما قد بدا واضحا على ساقيها المرتحلتين، كان حضورها يبهت في عيني، ويتجذر في قلبي عميقا.

صوت وقع أقدامها كان يختلط بالضوء المنهمر من النوافذ؛ ببقية من ضوء أصفر علقت بمصابيح السقف، بينما تسرب حفيف شتلات زهر البنفسج تحتك ببعضها في الشرفة، مطلقة عطرا يتخلل المكان عبر فتحة صغيرة في الشباك، لتزيد في حراجة موقفي البائس ـ كنت أقول لها: لا أجيد العناية بالزهور، انا ابن العاقول والخُبّاز، فتضحك ساخرة ولا تزيد، كأنها تقول لي: وهل انت مؤهل للبنفسج، انهن لي، انا ابنة الربيع والزهر ـ شعرت أن للضوء رائحة، وأنه يحرص على أن يصلني عبيرها وهي تنسحب، بذات القوة وذات العنف، بل ان ذلك العبق المبهم كان يزداد حدة كلما ابتعدت صاحبته خطوة عني، حتى توقفتُ عن تلمس عطرها بحاسة الشم، وصرت أحسه بكل مسامي، يتسرب فيّ، رويدا مع الضوء، مختلط بأصوات السيارات المندفعة خارجا، تطلق أزيز محركاتها، كأنها تؤذنني بشكل حياتي القادم من دون هذه الراحلة، نفير لا يهدأ من الوحشة، ووجع جديد يصل المواجع القديمة ويزيدها حدة، كان المشهد يعتصر روحي، رغم كل البهاء الذي يلفه، رغم ما صنعته الأمواج الذهبية التي تتوج رأسها في روحي، وهي تتمايل منكسرة عني، يلفها الضوء ورائحة البنفسج.

ـ أنت تحب الخسارة، لا اعرف كيف أكون جزءا من خساراتك المحبوبة إلا بهذه الطريقة.

لا أدري كيف استطاعت الفتاة المرحة، الممتلئة بالحياة ان تجد تلك الجثة المدفونة عميقا بروحي، المتوارية تحت ركام آلاف السنوات من التجارب العراقية المعمّدة بالخسارة، المتوضئة بالفقدان، مطمورة عميقاً في ذاتي المنهكة حتى لم أعد أتبينها، رغم انها تظهر في كل سلوك أسلكه، تجاهلت وجودها المتحكم بوجودي، حتى اقتنصتها البنت الأوربية اقتناصا، مبددة الركام عنها، بعد أن كبحتُها عن تبديد العتمة التي تلف أيامي، رغم شراسة الضوء في روحها السعيدة، التي قال عنها النواب:

يلي ما جاسك فكر بالليل

ما جاسك سهر

غادرتْ، لم تترك الباب مفتوحا كما يجدر بأي راحل ساخط، حرصت على إيصاده برفق، لأنها تعرف أنني أخاف الابواب المفتوحة، تسلبني راحتي وطمأنينتي السريعة العطب، ومع آخر نغمة منبعثة من تلاشي خفق حذائها على الأرض، صحوت من ذهولي، لقد ذهبت، أما أنا، فبقيتُ كنخلة ذاوية، هربت من طينتها لأديم غريب، فشل في احتضانها رغم حنانه وينعه، غادرتها المياه، وجفاها الفلاح، أتلفتُ، أبحث عني وسط هذا الظلام العراقي المغترب، فلا أجد سوى العطب والسخام.

15/ 8/ 2015

اللوحة لـ (tzviatko kinchev)

 

Jupiter Ascending

نادرا ما يجد المرء في فيلم إثارة مليء بالرصاص والأشلاء المتناثرة دعوة للتأمل والتفكير، وهذا الفيلم ـ برأيي ـ قد يكون من هذه الأفلام.

إذ بقدر ما يتضمن من إشارة إلى ما تتعرض له القيم من استنزاف وتخريب بسبب عامل البحث عن الربح بأي ثمن ـ وهو الميكانزم الأساس الذي تنطوي عليه الرأسمالية ـ فإنه بذات الوقت يبعث رسالة مفادها أن كونك جزء من نظام رأسمالي، أمريكي بالخصوص، يوفر لك عملا مهما كان حقيرا وقائم على الاستغلال فإنك رابح، لأنك لست جزء من الأنظمة الدكتاتورية ـ بالمعيار الأمريكي ـ والتي لن تضمن سلامتك فيها على الاطلاق، أي أنه يمنحك قيما بديلة عن تلك التي تحدث عن استنزافها، أنها طريقة القديمة في إظهار ما تزعم انه إيجابي في شيء ما، عبر شتمه.

يفتتح الفيلم بالحديث عن قصة حب روسية بريطانية، تنتهي في الدقائق الأولى منه بمقتل الزوج ـ ابن الدبلوماسي البريطاني ـ في هجوم عصابة على منزلهم، الغريب ان العصابة ترتدي زيا موحدا، وتبدو مجهزة بتجهيزات وحدة عسكرية حكومية، تسرق المنزل، وتأخذ أعزّ ما يملك الزوج، تلسكوبه، أو لنقل أمله في التحرر وتطلعه نحو الحرية، وما أن يحاول التمسك به، حتى يقتله فرد من العصابة بكل برود، الهراء الأمريكي الهوليودي التقليدي حول روسيا والشرق عموما، وقد بدا مبتذلا فعلا تقديم العصابة وكأنها وحدة عسكرية حكومية، ببزات موحدة، واقتحام منظم كما تنفذه وحدات التدخل السريع النظامية  عادة.

أما الزوجة الروسية فتقرر بعدها الهرب من وطنها الذي سلبها زوجها، الهرب إلى الولايات المتحدة ـ بالتحديد! ـ وتلد ابنتها جوبيتر=المشتري [تؤدي دورها  Mila Kunis] في عرض البحر في حاوية لنقل البضائع، وبعد وصول الأسرة الصغيرة إلى مقصدها تبدأ بالعمل عند شقيق الأم، متعهد تنظيف المنازل، الذي يصر على أن تتحدث أسرته الانجليزية لا غيرها في المنزل، وفي ذات الوقت يثقل عليهم بالعمل، ويشيع روح منافسة شرسة بين أفراد الأسرة ـ فعل أمريكي تقليدي ـ ويتكرر أكثر من مرة مشهد جوبيتر وهي تهمس أثناء إيقاظ أمها لها فجرا (أنا أكره حياتي)، ويتكرر مشهد تنظيفها للمراحيض، الصورة الافتتاحية القاتمة لأي هارب أو مهاجر غير شرعي.

ولكن مهلا، انها امريكا، أرض الفرص، ولا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحدث له فيها، فقد تنام فتاة ليلتها وهي مجرد مهاجرة غير شرعية، لتستيقظ وهي ملكة الأرض ومالكتها!

في هذه الأرض الجديدة، تستمر رتابة حياة جوبيتر ـ التي ولدت بطريقة استثنائية ـ حتى يقبض ابن خالها من جهة مجهولة مبلغ لدفع ابنة عمته للتبرع ببيوضاتها مقابل مبلغ من المال، وتقتنع الفتاة بالأمر لتتمكن من شراء تلسكوب، ويتبين لاحقا أن هناك من يتتبع البنت، قوى خارجية، من خارج كوكب الأرض، وتدريجيا يكتشف المشاهد ان هذا الكوكب ما هو إلا مزرعة يستعد هؤلاء الغرباء لحصد سكانه، مستخلصين مادة الحياة اللازمة للخلود من أجسادهم، ويستثمر الفيلم في ذات الوقت فكرة التناسخ الفلسفية بإطار علمي، لنعرف ان جوبيتر تمثل إعادة ظهور جيني لأم لثلاثة من أمراء هؤلاء الأغراب (آل ابراساكس Abrasax) الذين يتحكمون بتجارة أعادة الحياة هذه، وأن ابنها الأكبر (Balem [يؤدي الدور Eddie Redmayne]) وهو الأثرى بينهم هو وريث الأرض، وانه يستعد لحصادها، لولا إعادة الظهور الجيني المفاجئ لأمه، التي تسبب هو بموتها من الأساس.

وسنجد شخصية (Caine Wise [يؤدي دوره Channing Tatum]) الذي يمثل نتاجا خالصا للعلم، مقاتل مهجن جينيا بين الذئب والانسان، ليكون جندي مطيع للأوامر، مقاتل عنيد لا يلين، منشق على قيم الطاعة التي زرعت في جيناته، تارك للخدمة بسبب اعتداءه على أحد النبلاء، ليظهر في لحظة خاطفة وينقذ جوبيتر من موت محقق، بعد أن استأجره الأبن الأوسط لآل ابراساكس (Titus [يؤدي دوره Douglas Booth] لإحضار جوبيتر، ومرة أخرى، سنجد التأكيد على موضوعة العلاقة بين العلم والانسان، بوصفها المزيج الذي به تقوم الحياة وتتكامل.

يقول الابن الأكبر، (بليم) لجوبيتر بعد أن أسرها جنوده: (الحياة هي فعل استهلاك يا جوبيتر، لتعيشي يجب ان تستهلكي، البشر على كوكبك مجرد مصدر للمنفعة، بانتظار تحويلهم إلى رأسمال) وبعد أن يشير إلى (المصفاة البشرية) العملاقة التي يقفون بها، يقول لها (ما تشاهدينه هنا هو جزء بسيط من آلة كبيرة وجميلة تعرف بالتطور، وهي مصممة لغرض واحد فقط: جني الربح)، كم هو غريب اختصاره لفلسفة الرأسمالية المجردة بهذه الكلمات البسيطة، بينما مهدت أخته (Kalique [تؤدي الدور Tuppence Middleton]) لذات الفكرة بالقول لجوبيتر (ان البشر يتقاتلون لأجل الموارد كالنفط وغيره من المعادن، أو الأرض ولكن بالوصول للفضاء، ستدركين ان هناك مصدر وحيد يستحق القتال من أجله، هو الوقت، المزيد من الوقت، الوقت هو أثمن شيء في الكون)، بعبارة أخرى هي تتحدث عن الخلود، الذي يتم باستنزاف أجساد البشر، بمعاملتهم كحيوانات.

إن الضرب على فكرة المنفعة المجردة من الأخلاقيات أمر غريب حقا في فيلم إثارة أمريكي، ورغم انه ينتهي بطريقة أمريكية مسرحية بالغة، بعد أن تبدأ جوبيتر بمحبة وظيفتها، تستيقظ مبكرة، تنظف المراحيض وهي مبتسمة، سعيدة وسط عائلتها، ثم تجلس على قمة ناطحة سحاب، الرمز الأمريكي التقليدي، لديها حبيب، هو ذلك النصف ذئب، أنها عاملة مهاجرة، لكنها تمتلك الأرض، لأن أمريكا تمنح لك ما لا يمنحه الآخرون، رغم ذلك كله، أحسب أن رسالة جيدة بعثت في ثنايا الفيلم، انتقدت البحث المجرد عن النفع دون قيم أخلاقية، ودون إقامة وزن لحياة الانسان.

سكتُّ عن ذكر الكثير من الوقائع التي تعزز فكرتي، حرصا على أن لا أحرق أحداث الفيلم، مشاهدة ممتعة.

Imdb