هل نحن في زمن الإصلاح الراديكالي؟

علي المعموري

لن أتكلم عن الأطفال الذين قضوا نحبهم من البرد، والأمهات اللواتي يتمنين ان يشققن ضلوعهن لضم أطفالهن عن البرد المتوحش المستأسد في خيام النازحين، لن أتكلم، لأنني أعرف أن أي كلام يقال هو محض هراء، لن يدفأ هؤلاء الذين يدفعون ثمن 1400 عام من التاريخ الملغوم، أي كلام يصدر من شخص ينعم بالدفء والأمان سيكون مجردا من أي معنى.

ولن أتكلم عن مقتل صحفيي شارلي ايبيدو، لن انكر الواقعة مثلما انتشرت فيديويات مربكة وصادمة تبين انها واقعة مفبركة، ولن اصدق بها، لن اشجبها، وأتباكى عليها، ليس بسبب ما ذكر، بل لأنني كعراقي أرى أخوتي يوميا يقتلون بسبب آرائهم ومعتقداتهم؛ ولن أشجبها إكراما لأحمد الربيعي الذي لم يجد له صريخا، ولن أشجبها لأن سبايكر، وألبو نمر، والصقلاوية، وغيرها العشرات من المجازر لم توقظ الضمير الأوربي نصف الأصم، ولم تستفز عدالته العوراء، ولم تستفز حكام العرب الأوغاد الذين تصدروا تظاهرة باريس.

ولن انتحب متباكيا مهاجما قيام النظام السعودي بجلد رائف بدوي، الذي أحترم موقفه، وشجاعته، لأنني أؤمن أن هناك ضريبة يجب ان يدفعها صاحب أي رأي، قد تكون رقبته أحيانا وليس ظهره المجلود، ولأن جرائم الأنظمة العربية لم تقف عند رائف، ولأنني لا أعرف الكثير عن الرجل، وما يكتبه، إذا كان ثمة موقف أتخذه، فلن يكون سوى تقديس حرية الرأي والكرامة الأنسانية، حرية الرأي المسؤول، البناء، القائم على المعرفة، وليس الارتجال العاطفي، الرأي الذي يحترم الآخر المخالف له، يحاوره، ولا يهاجمه.

ولكني اكتب هذه الكلمات خصيصا لأنني قرأت كلمات كتبتها أعلامية عراقية معروفة، وشاعرة من مدرسة سوزان برنار هي صابرين كاظم، تتسائل فيها ــ محقة ــ عن  الأصوات الشيعية التي ارتفعت تندد بالنظام السعودي الذي يجلد رائف، ماذا كانت لتفعل لو أن ناشطا تعرض لشخصية من الشخصيات الإسلامية التي تقدسها الشيعة، ماذا كان ليكون موقفهم، وكانت أكثر صراحة حينما تسائلت ماذا سيحدث لمن تناول (مقدسا أثني عشريا).

قبل كل شيء ارجوا معرفة أنني لا اقصد بما سأقوله شخصا بعينه، خصوصا صابرين كاظم، انا هنا اتحدث عن فكر سائد، وأسلوب صار شائعا، منحته مواقع التواصل الاجتماعي زخما كبيرا، أنا هنا أحاور، ولست في موضع الهجوم، ولعل صابرين كاظم كانت تتكلم باحترافية لا تضعها ضمن تيار الشتّامين على الاطلاق، في هذا المنشور خصوصا.

ما أريد أن اناقشه هو التالي: ولماذا يتناول ناشط يريد الإصلاح والتنوير مقدسا جمعيا؟

هل نحن في زمان الإصلاح الثوري؟

هل نحن مهيئون لتغيير فكري راديكالي؟

نحن في زمان التطرف.

نحن في زمان التموضع على الذوات الفرعية.

وأي كلمة، أو دعوة، أو رسالة تريد تغيير قناعات تقوم بدرجة كبيرة على أسس عاطفية ستولد ميتة.

ولي أن أتسائل:

هل من الضروري حقا لمن يريد توحيد مجتمع متنوع، ويمر بأزمة وجود (مكوناتية)، هل من الضروري له أن يهاجم مراكز دفاع هؤلاء، أم يعمل على أخراجهم من خنادقهم طوعا؟

نحن في زمن التسويات، وليس الحلول الجذرية.

نحن بحاجة الآن لأن نفهم ضرورة التعايش مع الآخر، تقبله، احترام حدوده، وبناء الثقة معه.

ان دعاة الليبرالية الجدد لا يختلفون في تعصبهم، وتموضعهم الايديولوجي عن المتعصبين الشيعة والسنة، كل واحد منهم يريد أن يلغي الذات الأخرى، ويحل ذاته محلها، الأمر الذي لن ينتقل من طور الحلم إلى الواقع يوما، 1400 عام من الجدل الفقهي والكلامي الذي ندفع ثمنه يوميا يقف شاهدا على ذلك، لم ينتقل أحد من مذهبه إلى المذهب الآخر كنتيجة لهذا الجدل، كل الانتقالات كانت تقف خلفها مواقف وتجارب شخصية، مكنت في مرحلة ما للانتقال الفجائي إلى الضفة الأخرى، أما الذي انتقل من الإيمان إلى الإلحاد مباشرة فقد مرّ بنفس التجربة، بطريقة مختلفة شخصها المفكر العظيم هادي العلوي كما نقلتها أكثر من مرّة هنا، والنتيجة ان أغلب المنتقلين هؤلاء صاروا ملكيين أكثر من الملك، احترفوا الشتيمة، والتبكيت، والهجوم على الآخر، والأمثلة كثيرة.

ماذا تريدون منا؟

وإلى أين تسيرون بنا؟

الجدل، والشتيمة، والتسفيه، والأسماء المستعارة، والمغالطات، كل هذه الأمور لن تنفع، ولن تصلح، ولن تطفئ نارا زيتها يتجدد بلا توقف، بل إن مواقفكم لن تزيد في النار إلا اضطراما.

دعوا الشيعي على شيعيته

والسني على سنيته

والمسيحي على مسيحيته

والصابئي على صبوته.

وعلموهم كيف يتعايشون معا

وكيف يحترمون بعضهم، ويكرمون الآخر عبر إكرام مقدساته، واحترام معتقداته.

ان دعواتكم الانقلابية الحادة لن تمنح الذين يشعرون بالتهديد أمنا، ولن تنتقل بهم من الخنادق إلى العالم الفسيح الرحب.

انتم لم تفهموا يوما ديالكتيك هذا الشعب، جمعيكم، اسلاميون وعلمانيون، قوميون وأمميون، مسلمون وملحدون، كلكم أردتم أن تلبسوا جسما اجتماعيا متخم ثوب لا يلائم مقاسه للأسف، والنتيجة هي ما نحصده اليوم.

أريد أن اقول المزيد، ولكني أطلت بما يكفي

تدوينة مسافرة

عادة ما افرح كثيرا بصحبة كبار السن اثناء السفر، لأنني أُمني نفسي ساعتها بالاستماع الى تجارب غنية وآراء استخدمها في قياس آليات تشكل الرأي عند العراقيين، او على الاقل استمع الى حكايات أوسع رصيدي التراثي عبرها، اما اذا اجتمعت التجربة والعلم معا فتلك الغنيمة الكبرى.
ولكن الامور لا تكون كذلك دائما، اليوم جلس جنبي “شايب” صحبة زوجته، جعلني احس انه بسذاجة طفل تمت تربيته في زجاجة، وانه لم يعش اي تجربة ولم ير شيئا في حياته، وخلال الرحلة اقتصر نشاطه إما على التذمر بسذاجة حتى من جباية النقل، او مشاركة زوجته بازدراد اطعمة متنوعة من حقيبة الزوجة، الحقيبة التي بدا انها كالحقائب السحرية التي تمتد الى اعماق سحيقة، عامرة بالاكل و”النمنمات”
في النهاية استسلمت “للهدفون” وشغلت تسجيلي لعزف الاوركسترا العراقية للسمفونية الاولى لمالر يوم الجمعة الماضي.

عن التنمية وتوابعها ومستلزماتها!

وأنت تقلب في صفحة الفيسبوك، يسأل سائل (بطران كلش) ماذا ستفعل لو صرت رئيس وزراء؟
هنا تذكرت الحكاية التي سمعتها عن المرحوم غني عجيمي (آل عجيمي عائلة عربية نجفية، وتلفظ بألف موصولة: آعجيمي).
فقد روي انه كان جالسا مع أبناء طرفه (العمارة) في ديوان الحاج عطية ابو كلل رحمه الله، في ليلة باردة، وكان (حجي آعطية) قد وضع لهم شوالا من التبغ الفل، وتل من أوراق لف السجائر أيام لا فلتر ولا هم يحزنون، قبل زمان (المزبّن).
وبين لهيب الجمرات في (المنقلة) وتشابك دخان السجائر (المثعولة) يصل الى سقف الغرفة ليهرب من كوة فيها لا يلوي على شيء، وبين خبر جاد، وضحكة عابرة، بين وقار الشيوخ ولهفة الشباب، رمى الحاج عطية سؤاله الى غني، الشيخ الثمانيني، الذي قضى عمره حمالا، وحتى موته كان أشهر من حمل المشعل في النجف، عاري إلا من سروال، تتطاير النيران العالقة بالخرق المحترقة على جسده كرذاذ الماء وهو ثابت يدور بالمشعل و(يردس)، وتذهب الاسطورة الى ان تلك النيران المنهمرة كالمطر في الميازيب لم تكن تحرق شعر جسده العاري الأشيب.
سأله (حجي آعطية) بصوته المجلجل:
ــ يغني….. إذا تصير ملك شتسوي؟
فرد غني بسرعة فائقة، مختصرا الأصل في احتياجات كل فقير، وفّر له (عطية) ــ الذي مثّل النظام السياسي حينها ــ التبغ والقهوة، وترك له أبوه دارا يسكنها واطفاله، فلم يحتج سوى قوة يستعين بها على العمل، والقوة تحتاج ما لخصه غني عجيمي بالقول سريعا:
ــ أكثر الطبيخ والتاﭼـينة.