أرشيفات التصنيف: تاريخ وأشخاص

الدكتور صائب الكيلاني

 

 

(1)

ساعة على الأقل، أحدق في لوح أبيض أمامي، ولا أعرف بم أبتدئ الحديث عن أبيض القلب الذي رحل سريعا، وترك لنا سواد تتشح به قلوبنا، جزعا عليا، سواد كثير…

(2)

ربما تعرف عليه الكثيرون بوصفه طبيب، جراح ماهر، يصارع المنية دون مرضاه حتى يسلمهم ليد العافية، بإيمان عميق يتملك روحه، بابتسامة توشّح وجهه البهي، وقامته الوسيمة، بمظهر الطبيب المهيب على ما كان عليه الأطباء، وبالانضباط الاخلاقي اللازم لسليل الأسرة العلوية ذات السيادة والرياسة الدينية، ودقة ابن الضابط الحقوقي الذي نفاه البعثيون خارج بلده بعد انقلابهم الثاني، على عبد الرحمن عارف، أما أنا، فقد تعرفت عليه بصورته الثانية، نعم، بانضباطه، بدقته، بثقافته، بهدوئه وقدرته العجيبة على احتواء الغاضبين، ولكن ليس بوصفه طبيب، بل بوصفه رجل المجتمع المدني، والمفاوض المعتمد دوليا، ورئيس لمنظمة مختصة بالسياسات العامة.

(3)

كان اللقاء الأول في أربيل عام 2012، كنتُ في سنتي الأولى للماجستير، زجني أستاذي الدكتور عماد الشيخ داود في الدورات الأولى لتكوين كادر لمنظمة دار الخبرة، بوصفها بيت مختص بالسياسات العامة وصنع القرار، كان الدكتور أحد المحاضرين، ورئيس المنظمة، طول فارع وقامة متينة البنيان أفاضت عليه وسامة لا تخطئها العين، ولا تضيف لها أناقة ملبسه كثيرا، فهو وسيم بكل حال، نظرة مطمئنة مهيمنة يطلقها نحوك من خلف عويناته، وعلى صدره تدلت عوينات القراءة، يمزج حديثه في السياسات العامة للشأن الطبي في العراق بالنكتة، وبالكثير الكثير من المعرفة، والتجارب الشخصية المثمرة.

(4)

في بيروت، كنا نتمشى سوية في شارع الحمراء، هنا بدأت استكشف صائب الكيلاني الإنسان، النبيل المتواضع، نتمشى، أوقفني عند رأس أحد الشوارع النازلة من الحمراء باتجاه الجامعة الأمريكية، امسك كفي وانحدر بي في الشارع بحثا عن محل دخله عام 1973، كان يجلب قماشا فاخرا ويخيطه في لبنان، ووجده، عبد الله فريج ـ على ما اذكر ـ حين دخلنا واشترى سترة للذكرى، ووجدني مهتم ببدلة معينة، انتحى بي جانبا وأعطاني نصيحة أب لابنه، قال: بني، أنت في مقتبل حياتك، كن حريصا على ما تكسبه، لا تشترِ من هنا شيئا يمكن أن تجده في العراق أرخص وأجود، اسمع من عمك…

لاحقا، حين كنت أساعده في حزم حقيبته، قال لي، هل تعرف كيف تحزم السترة الرسمية في الحقيبة؟ قلت له علمني أبي، قال وهو يربت على كتفي: مع ذلك، تعال أعلمك، هكذا…

هذه الأشياء البسيطة التي يعلمها كبير ذو تجربة لشاب بعمر ابنه، هي أثمن ما يبقى في الذاكرة، الأشياء البسيطة المتعلقة بالحياة، وإدارة الشأن الشخصي، هي النابضة أبدا.

(5)

لعله كان أول طبيب جاء بزراعة الكبد للعراق عقب تدربه في ألمانيا وبريطانيا، وحين كان مديرا لمستشفى الكاظمية التعليمي المرتبط بجامعة صدام وقتها ـ النهرين اليوم، جامعتي ـ حدّثني مرة عن استخفاف السادي عدي بن صدام بالدنيا وبالمستشفى وقتها، يقول أنه كان يدخل عليه الرجل القبيح المنظر والمخبر، بيده ورقة مقصوصة من علبة سجائر، كتب عليها يصرف له كذا من ملايين الدنانير، بتوقيع عدي، الذي لم يكن له رفضه، فكان يأخذ الورقة، ويستنسخها عشرين نسخة، ويرفق أمر الصرف بنسخة منه إلى، فيبدأ من سكرتير الرئيس، ورئيس الديوان، ومدير المالية، وصولا إلى وزيري الصحة والتعليم العالي.

فصرّها السادي له في نفسه، واتخذ من مشكلة لا شأن له بها ذريعة ليرسل له قاضي بغداد الشرعي، وقاض مدني، وضابط كبير ليحققوا معه بشأن مريض اشترى عصارة كريم من خارج المستشفى، ولولا صدقه، وبعض من تاريخ العائلة المحترم، لكان ضحية من ضحايا عدي.

بعد الـ2003، في الأيام الأولى للفوضى، خرج اطباء مدينة الطب العريقة بتظاهرة يطالبون الامريكان بتوليته إدارة المستشفى، فكان أهلا لها، ومقتدر عليها.

(6)

حين هدد عام 2006، وكان لزاماً أن يبارح بغداد، لم يذهب بعيدا، حمل حقائبه إلى أقرب مكان آمن يستطيع العراقيون الوصول له، ذهب إلى أربيل، سألته مرة لماذا لم تترك العراق وأنت القادر على العمل في أي مؤسسة طبية غربية تريد؟ قال: ومن يبقى للمساكين العراقيين هنا إذا هربنا كلنا، وجدت أربيل أقرب مكان استطيع منه خدمة أهلي، وبعد صمت قليل أردف: لقد ضيعنا الكثير من الاطباء، لدينا ثلاثة آلاف طبيب استشاري في لندن، أعلى مرتبة طبية، من جانبي، استطعت أن أقنع 7 منهم بالرجوع والعمل في أربيل، ليخدموا الناس من هنا.

حيث تحرك، وأنّى ذهب، كان العراق حاضر في عينيه، وشاغل لباله، حين انتقل لأربيل بقي يدفع إيجار عيادته في الحارثية لمدة، وكان يرسل المبالغ تلو المبالغ لمساعده المرحوم عدي الجواري، يعطيها للعوائل الفقيرة التي يعرفها.

(7)

اخبرني أنه كان ضمن الفريق المفاوض الذين اختارتهم منظمة دولية للقاء القذافي وإقناعه بتجنيب ليبيا الكوارث المحتملة على إسقاطه بتدخل خارجي، كان مسترسلا في الحديث عن بعض ذكرياته السياسية، وما لاقاه في حياته، وبعض الأسماء التي عاشرها وخبرها، قلت له دكتور، لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية؟ ميراثا تاريخيا للأجيال، فضحك بدفء، وربت على كتفي وقال يمعود مشاكل، قل يا الله …

كان ذلك في المرة الأخيرة التي التقيته فيها، وصحبنا إلى مجمع ضخم ـ لعل اسمه أبو شهاب ـ كعادته حين يدعو أحبته الزائرين لأربيل ويصلهم ودادا وكرما.

(8)

ذوق رفيع، علاقات في المجتمع الثقافي والفني ناهيك عن المجتمع الطبي، مرة كنا في عيادته في بغداد، نظر إلى لوحة على الجدار، وقال كنت ناسيا لها، اهدتنيها وداد الأورفةلي، ولا أدري أين صفى باللوحة الدهر.

(9)

مثل الأولياء ذوي الكرامات، كان الحناء على باب عيادته، على عادة العراقيين مع من يكون سببا لبرئهم من أوجاعهم، أن يخضبوا بابه بالحناء، وكذلك كانت بابه، تعلن عن طبيعته، طمأنينة وشفاء على يد النطاسي الخبير، الضاحك، الودود.

(10)

عاجز عن تنميق كلامي أيها الراحل الكبير، عزائي الخالص لأولادك محمد وحسن وحسين، لأستاذي الدكتور عماد الشيخ داود، صديقك، لأهلك، لكل من يحبك، لكل من عرفك وعرف سجيتك النبيلة، وسعيك في حوائج الناس، وعفة ضميرك، وبذلك للمحتاجين، ومسارعتك في كل مكرمة، لي، أنا الذي طالما دافعت عني، ووثقت بي، وداعة الله دكتور، لك، عليك، في قلبي حسرة لا تمحوها الأيام، ولا تنسينيها الحوادث…

لذكرى الدكتور صائب الكيلاني، الذي توفي يوم الاحد 6/ 12/ 2020

الصورة: تجمعني معه وهي من اليمين، علي، د. عماد الشيخ داود، د. صائب الكيلاني رحمه الله، عدي الجواري رحمه الله، أربيل 2016

 

خضير جلعوط

(1)

في الظروف الطبيعية، حينما لا تكون الحروب قد سلبت النظام الاجتماعي ـ وحدات النظام ـ اتساقها، ولا يكون هناك حاكم دموي يصادر آمال الناس ويستنزف ألفتهم، أو معتوه يؤمن بضرورة سفك الدماء قربانا لفكرة يراها مقدسة، وحين تنفذ العائلة من كل هذه المصائد ـ وهي مصائد صميمة في حياة كل أسرة عراقية ـ في مثل تلك الظروف، فإن وجه أول رجل يألفه الطفل يكون وجه أبيه، ربما اخوته من بعده، ثم وجوه اصدقاء والده، وفي الحروب والمعتقلات والمعارك العقائدية التي نفذ أبي منها سالما بجلده، وقد حرثت في روحه حقولا من الأسى لمّا تنمحي، فإني تعرفت على وجوه أصدقائه صغيرا، أنا ابنه البكر، وهو وحيد أمه، أبي من أعنيه، فكنت انتقل بين أذرعهم، تداعبني ابتسامات المحبة المنثالة من وجوههم التي أرهقتها الحروب، وأضناها العمل الشاق، وأنهكها الحزن، والوجل.

(2)

خضير جلعوط، قلها بملئ فمك، وأطلقها كقذيفة مدفع، في العراق، لا نلفظ الاسم كما هو في الفصحى، أعني (خُضَيْر)، بل نقول (إخْضَّيِّر) نكسر الألف، ونسكن الخاء، ثم نفخم الضاد والياء إلى آخر المدى، ونطلقه، رصاصة مسرعة ثابتة، وبالنسبة لأبي الياس ـ كل خضير عندنا مرتبط باسم خضر الياس، فنقول لمن اسمه ياس: ابو خضير، ومن اسمه خضير: ابو الياس ـ بالنسبة له، فإن قوة اسمه مرتبطة بقوة اسم جده الذي اتخذته العائلة لقبا ـ اسم ابيه: تركي ـ نقول: خضير جلعوط، فتشعر أن للاسم وقعا، وجرسا، ومهابة، وحين تتفرس في وجه صاحبه، الأسمر، حاد الملامح، بشاربه الرفيع، وعينه الخازرة ـ يخفض حاجبه بطبيعته لا تكلفا ـ بذقنه البارز نحوك، وعيناه المقتحمتان، ينزل من مقعد السائق في سيارته طراز (OM)، ثم من سيارته (التريلة) طراز (مرسيدس اكتروس) التي نسميها في العراق: (ألبي)، حين تشاهده، بدشداشته الزبدة، وكفه الغليظ، مقرونا باسمه العاصف، تقول في نفسك: إن هذا لرجل صعب، شديد، قوي الشكيمة، مهاب الجانب، وهكذا كان.

(3)

يرتبط وجهه في ذاكرتي بصورتين أساسيتين، طفل، يحدق هو في وجهي مركزا، يستمع لي، ربما كنت أسأله، ربما كان يحدق بوجه ابن صاحبه، الذي يرتبط معه بصلة نسب ـ جده، خال جدي، لهذا كان أبي يضايقه مازحا بمناداته: خالي ـ لا اذكر لماذا كان ينظر لي، وقد خفض حاجبه الأيسر، مركزا في وجهي، بملامح ساكنة، لا تعبير في وجهه سوى التماعة في العين، لعلها فيض من المحبة الخبيئة خلف هذا الوجه ذل الملامح الصلدة.

أما الصورة الثانية فقد كتبتها قبل سنوات وأنا استعيد ملامح مدينتي التي ابتعدت عني، استذكر صور من أحبهم واحدا فواحد، والأماكن التي شغفتني وقد صارت طللا، أثر يتلو أثر، كنت اتحدث عن (سبيل عمران) المنصوب على السور، قرب بيتنا في طرف البراق، كتبت:

(وأغرب ما علق بذاكرتي عن ذلك السبيل أنني طوال عمري لم أشاهد أحدا يضع الثلج فيه، إلا مرة واحدة، شاهدت من بعيد (خضير جلعوط) صديق أبي الحميم ومعه صديق آخر لا أتذكره اليوم، فتحا غطاء السبيل، وأخذا يكدسان قوالب الثلج في جوفه، ثم أحضرا بطانية ثقيلة، ولفا بها الثلج، لتزداد حيرتي، كيف يُلف الثلج بهذه القذارة ويفترض بنا أن نشربه، كنت متحيرا، فذهبت لأتساءل، لا أذكر أذا كان أبو حيدر (خضير جلعوط) هو من رفعني لأستكشف داخل السبيل أم رفيقه، بل أني لا أذكر إذا كنت قد رفعت غطائه مستكشفا بنفسي أم أن ابو حيدر هو من وضّح لي الأمور، لكن الحيرة تبددت ساعتها، واكتشفت أن نظام مياه السبيل الأسطوري ما هو إلا أنبوب حديدي طويل، التوى على نفسه مرارا وتكرارا، حتى غدا كجوف الإنسان، كأمعائه الملتفة على نفسها، تديم حياته ما بقيت نشطة الالتفاف، وأن الثلج المكدس فيها يعمل على تبريد الانابيب، والمياه تسري فيها، فتخرج مثلجة تبل عطش الشاربين).

بهذه الكيفية، ارتبطت صورته في ذاكرتي، يقوم بالمهمة الأقدس في محيطه الاجتماعي: سقاية المياه للظامئين، تقربا للقتيل الظامئ قبل ألف ونصف الألف من السنين، النابض في صدور هؤلاء العراقيين ما بقوا.

(3)

كان واحدا من أبطال طفولتي، بصوته المجلجل، بالنكتة الحاضرة التي تجتاح وجهه بضحكة تطفو فوق قسوة السنين على محياه، حتى تضيق لها عيناه، وتشعر معها أنه يضحك من جوفه، كأنه لم يضحك من قبل، كأنه بحاجة ماسة للضحك كغريق يلاحق الهواء النزر من حوله، يرفع كتفيه العريضين حتى يقاربا رأسه، ثم يسكت، ويستعيد وجهه تلك الصرامة الحزينة، قبل ان يطلق نكتة اخرى، وحديث آخر.

(4)

كان يخب بمشية (الأشقيائية) القدامى، يرقص شعره الرمادي مذ وعيت عليه، وقد باعد رسغيه عن بدنه، ولوح بهما يمينا وشمالا مع خطوه الوئيد، وجسمه الرشيق، لا ادري لماذا علق بمخيلتي أنه كان يمشي خفيض الرأس، على الرغم من مشيته الفخورة المقتحمة المنذرة بجرأته وشجاعته، لا أدري لماذا.

(5)

كل من عرفه يدري أن هذا الشجاع لم يؤذ أحد يوما، ولم يغدر بأحد، ولم يقصر في نجدة قريب أو بعيد، ولم يخن أمانة، أو يعتدي على ضعيف، كان أريحيا، أبو نخوة كما نقول هنا، جرّب أن تطلب منه شيئا، وستجده يهب كصقر لعونك، كان وفيا، أمينا، طيب القلب، صافي السريرة، بدأ شبابه كما بدأه مجايلوه، وأنهاه كما قلت عنه، بأوبة إلى ربه، بيقين وتسليم، ورضا صرت أحسد كل من نزل في قلبه مثل ذلك الرضا والتسليم.

(6)

لم يتزوج، بقي مع أمه وأخته يرعاهما، ثم أخذ ابن أخيه عبد، حيدر الجميل الأشقر، وقام بتربيته كأنه ابنه، فكنا لا نناديه إلا (أبو حيدر)، وكان حيدر إذا تحدث وقال أبي دون إضافة فهو يعني عمه خضير، وإذا أراد التخصيص قال: أبويه عبد، وآخر أمره، كتب بيته وسيارته باسم حيدر، ولده الذي ربّاه وعلمه وصار رفيقه وصديقه في حله وترحاله، يصحبه حيث ذهب، يشتري له الجديد من الملبس قبل أن يشتري لنفسه، ويعده ليتكأ عليه في شيخوخته.

(7)

هذه الوجوه، هؤلاء الاشخاص، صورة طفولتي، النجوم التي غمرتني بالضوء صغيرا، كنت أشعر بالأمن لرؤيتهم قربي، كانوا طمأنينة لي، ظل نشأت في برده، الندى الذي بلل هجير هذه الأرض، وهوّن أيامي فيها، وجنّب الطفل الذي كنته التعرف المبكر على قسوتها، كلما غاب وجه منهم، شعرت بثلم في الروح، ووجع يغرز جذره عميقا في ذاكرتي، ليستمر في النمو كنبت شيطاني، تسقيه هذه الارض وتتعهده بالغذاء كل ساعة.

(8)

عمي ابو حيدر، سمعت برحلتك الأخيرة أيها السائق المترحل، إلى مستقرك الأبدي، وأنا في بغداد، بعيد عن الدار والديار، لا أذكر متى رأيتك آخر، مرة، لكنني أعرف أنني سأفتقدك ما حييت، متذكرا صوتك الجهوري المجلجل مرحبا بابن صاحبك: هله عمي علاوي.

وداعة الله ابو حيدر.

لذكرى العم أبو حيدر، خضير تركي جلعوط، جار العمر في طرف البراق، صديق أبي، وقريبي الذي توفي يوم السبت، 27/ 6/ 2020، في النجف، فضلت وضع صورة له وهو في أوج عافيته، صورته آخر ايامه، بالعقال، بعينين غائرتين، ووجه غائم بالقلق والحزن، وبعصا في يده يتوكأ عليها تؤلمني رؤيتها..

29/ 6/ 2020

ارنستو تشي جيفارا

من قديم ما كتبت، لا اذكر تماما لماذا كتبت هذا المقال عن جيفارا، اظن ان احدهم طلب مني كتابة شيء عنه، تعريف به وبفلسفته، فكتبت هذه السطور البسيطة:

ولد ارنستو تشي جيفارا دي لا سيرانا، أو (تشي) كما يعرف مجردا في روزاريو/الارجنتين يوم 14 حزيران 1928، وتخرج من كلية الطب ليبدا سنة 1952 رحلته الشهيرة على الدراجة النارية ويشاهد مآسي أمريكا اللاتينية، المآسي التي حمّل الولايات المتحدة مسؤولية وقوعها.

وبالرغم من انخراطه المبكر في النشاط السياسي، واندماجه شيئا فشيئا بالحركات الراديكالية خصوصاً بعد أن اطاحت المخابرات المركزية الامريكية بحكومة خاكومو اربينيز المنتخبة في غواتيمالا وهروبه إلى المكسيك على أثرها، بالرغم من هذا النشاط، إلا أن نقطة التحول الحقيقية في حياة (تشي) السياسية كانت لقاؤه في تموز 1955 بجماعة كوبية يتزعمها معارض كوبي اسمه فيدل كاسترو.

انخرط جيفارا بعدها في حرب ثورية أطاحت بالنهاية بالدكتاتور الكوبي ورجل الولايات المتحدة بانيستا، وبعد توليه منصبا وزاريا في الحكومة الجديدة لمدة ترك السلطة وعاد لحمل السلاح في بوليفيا، وأسرته القوات الحكومية الموالية لواشنطن، وقتل سنة 1967 ولم يظهر جثمانه حتى العام 1997، حيث أعيد إلى كوبا.

وفي حقيقة الأمر، فإن جيفارا لم يكن منظراً ماركسيا كبيرا، ولم يكن مفكرا من الطراز الآيديولوجي البحت، ولم يترك وراءه كتابات ذات مستوى عال من التنظير السياسي، كان الرجل ببساطة ثائراً ينتمي إلى الانسانية برمتها دون تفاصيل أو حدود، وكان همه الأساس هو افتداء الانسانية من الشر المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية، على هذا عاش، وعليه مات.

ومقولته الشهيرة ((إني احس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في العالم فأينما وجد الظلم فذلك موطني)) تلخص فلسفته السياسية وآراءه الثورية، وكان يؤمن بمبدأ البؤرة الثورية ودور الفرد في التغيير التاريخي، كان يرى أن الفرد عندما يقوم بواجبه تجاه الانسانية فسوف يجد من يسانده، وتتوسع البؤرة الثورية وتكبر شيئا فشيئاً.

وبالرغم من كونه شيوعيا، إلا انه اصطدم بالنهاية بالفرق بين النظرية والتطبيق، يقول أ. محمد حسنين هيكل في كتابه (عبد الناصر والعالم/ ص458 ط الأولى) وهو يتحدث عن زيارة جيفارا إلى مصر ان الاسئلة الناتجة عن خيبة الأمل كانت تصطخب في صدر الرجل، وكان يسأل: ((من هو الشيوعي؟ ما هو دور الحزب؟ هل الشيوعي مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعي ان يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم ان على الشيوعي أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ، لكني تبينت ان ما قلته هو وصف لعامل جيد وليس لشيوعي جيد)).

((من يسن القوانين؟ ما هي العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة والناس؟ حتى يومنا هذا ظلت العلاقة تدار بانتقال الافكار واستقراءها تلقائياً لكن هذه الطريقة لم تعد كافية)).

((لقد كُلفّت بمهمة الاشراف على التحول الاجتماعي وكان المشكل الأول الذي واجهته هو إيجاد الاشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة، ثم وجدناهم وظننا انهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا انهم لا ينتمون إلى الحزب الثوري إنما إلى الحزب الإداري… وأخذوا يغلقون مكاتبهم في وجوه الناس للحفاظ على الهواء المكيف بدلاً من أن يفتحوها لاستقبال العمال… إني شيوعي، وقد قرأت القدر الكثير من الكتب الشيوعية، واصبحت معذبا مشتتا بين الثورة والدولة)).

ان فلسفة جيفارا الثورية تتلخص فيما قاله ذات يوم: ((إن نقطة التحول في حياة كل انسان تحل في اللحظة التي يقرر ان يواجه الموت، فإذا قرر ان يجابه الموت يكون بطلاً سواء نجح أم أخفق، إن في وسع الانسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا، ولكن إذا كان لا يستطيع ان يواجه الموت فإنه لن يكون أكثر من مجرد رجل سياسي)).

تلك العقيدة التي عاشها جيفارا، ومات من أجلها كما قال أ. هيكل.

في وداع استاذ نبيل… فالح فخر الدين

(1)

كانت الشدة، والضرب، والصرامة والتدقيق خلف كل صغيرة وكبيرة، ومتابعة كل شاردة وواردة بقسوة، هي سمة مدرسي ذلك العصر، حرصا على الطلاب، وصيانة لهم، واتساقا مع منظومة قاسية تبدأ من رأس الدولة، نزولا إلى قاع المجتمع، بينما كان هو يرفق بالطلاب رفقه بطير كسير الجناح، يتابع بمحبة، ويدرِّس بود، ويدقق بشفقة ما فوقها شفقة.

(2)

سمعتُ باسمه في الصف الرابع الاعدادي، كان يدرس طلاب الأدبي اللغة الانجليزية، في الخامس والسادس، كان يخب في ممرات إعدادية النجف العريقة صامتا نحو الدرس، وقد صوّن عيناه مركزا على سبيله، لا يلتفت يمينا ولا شمالا، لا يعبأ بالطلبة العابثين في طريقه، ولا يتكلم إلا ليطلب بلطف من المتواثبين كالقردة أن ينتحوا عن دربه نحو الصف، وضيء الوجه، بشرة بيضاء محمرة، عينان ملونتان ـ هل كان لونهما أخضر؟ لم أعد أذكر اللون المهيب ـ يصبغ شعره بانتظام كعادة أهل زمنه من النخبة، بدلات أنيقة، وألوان تناسب بشرته الساطعة، ومزاجه المدني غير العابئ بقسوة أذواق مجتمعه، هدوء يحيط به، وهمة وانضباط في أحلك  الظروف والتزام بالدوام رغم قسوة الزمن، والطلاب.

ثم انضويت تحت القسم الأدبي لألتقي به، مدرسا متضلعا بلغة الانجليز، صبور على تدريسها لأجيال وأجيال في إعدادية النجف.

(3)

عائلته كانت مميزة، استثنائية، فعدا انتمائه لأسرة آل فخر الدين، وهم بين تاجر ورجل دين وأستاذ جامعي أو طبيب أو مدرس، فإن بيته كان مميزا، بين طبيب، ومدرسين، ومدرسات، الاشقاء كلهم كانوا ممن نال تعليما عاليا، وتميزوا بأخلاقهم الرفيعة، درست اختاه مع أمي في دار المعلمات، ودرَّس هو أجيال من عائلتي.

كان من أسمح الناس خلقا، وألينهم عريكة، وأرحبهم صدرا، لا يغضب من تقافز الطلبة، وعدم فهمهم لشخصيته التي تحبهم وتحترم وجودهم الانساني فلا تضربهم، ولا تتعسف في معاملتهم، ينساب صوته هادئا رقيقا كأنه حلم فجر ترطبه نسائم البساتين على شط الكوفة، وبينما يصرخون، يستمر في أداء واجبه المقدس، دون كلل، مرة واحدة غضب، بعد أن بلغ استهتار الطلاب مبلغه، وصرخ بالطلاب، ثم أمرهم بإخراج اوراق بيضاء لاجراء امتحان يومي، نلنا جميعا في ذلك الامتحان الغاضب أصفارا لها بريق ورنة، حل صمت رهيب من الحليم الذي غضب، ثم خرج والحمقى الذين اغضبوه صامتون كالموتى.

ولكنه لم ينزل تلك الاصفار في سجل الدرجات، ولا اعتمدها، ونجحنا كلنا.

(4)

بعض من أثمن نصائح اللغة الانجليزية تعلمتها منه، كان يحثنا على متابعة الأفلام، ويقول: لو خرجتم من كل فيلم أجنبي بـ5% من الكلمات فأنتم رابحين.

وبينما كان الاساتذة من أصحاب الدروس الخصوصية يرشحون كل عام احتمالات لما يمكن أن يأتي من أسئلة في الامتحان الوزاري المركزي المرعب لطلبة السادس الاعدادي، الامتحان المفصلي الذي يمكن أن يدمر حياتك لو صدف وأصبت بالزكام، او توفي عزيز عليك، وكان الاساتذة يخطأون ويصيبون في ترشيحاتهم، وفي السنة التي امتحنتُ بها أنا قد جائت الاسئلة المرعبة مطابقة لما اقترحه المدرس المواضب، الاستاذ فالح فخر الدين، قال: اتوقع هذا العام أن يأتي انشاء من مسرحية تاجر البندقية ليس كما اعتدتم، ليس انشاءً يخص العربي الخاطب، ولا الاربعة الذين رفضتهم بورشيا بالجملة ـ هل كانوا أربعة؟ نسيت والله ـ بل سيأتي انشاءً يشمل الخاطبين كلهم، ستتهم ـ ستة؟ ـ احفظوا انشاءً يشمل الجميع.

وصدق الرجل، ونجحتُ.

(5)

بعد تخرجي من الاعدادية، زرت المدرسة، ومعي كاميرتي الفوتوغراف الروسية طراز فيلا، طلبتُ منه أن نلتقط صورة معا، انا وهو وحسب، ففرح، وقال هيا، لكن لا تأكل الصورة عليَّ، اريد نسخة منها، قلت له تأمر استاذي، وتصورنا قرب حديقة الإدارة.

بعدها بسنوات، بقيت افكر بأن اكتب له لوحة خطية أيام كنت امارس كتاب الخط العربي، وأن أهديها له مع نسخة الصورة، لكي يتذكرني دائما كما سأذكره ما حييت، ولكن الحياة عصرتني، وأخذتني بعيدا، فلم اشاهد الرجل الأنيق بعدها إلا من بعيد لبعيد، دون أن أفي بوعدي له، وحين سمعت صباح اليوم (24/ 5/ 2020) بخبر رحيله إلى رحمة ربه الكريم، قلبت مئات الصور لأجد صورتي معه، ولم افلح.

عاقبتني يا استاذي لعدم الوفاء بوعدي لك، فرحلت، وفقدت صورتي معك…

رحمة الله عليك أيها النقي النبيل.

الصورة: في الصف السادس الأدبي، اعدادية النجف، للسنة الدراسية 2004 – 2005، يظهر في الصورة الاستاذ فالح فخر الدين، جنبه حسين كشكول، وأنا جالسا، في الرحلة الأمامية إيهاب ابو شبع، وحسنين الحارس

 

العاملي والجادرجي

الشيخ بهاء الدين العاملي، محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي الهمداني (953 – 1030 هـ) المعروف باسم الشيخ البهائي، فيلسوف وفقيه وعالم رياضيات و.. معماري، له العديد من البنايات الاستثنائية في ايران، والنجف، وظف فيها معرفته بالرياضيات والفلك فجاء ببنايات ذات طبيعة غريبة، وليس هذا محل النقاش بشأن عماراته، إنما اذكره هنا مستعينا بما قاله ذات يوم عن الايمان، اذكرها بمعرض مناسبة وفاة زميله في مهنة العمارة والفلسفة، رفعت ـ أو رفعة ـ الجادرجي كما كان يطيب له ان يكتب اسمه.

يقول العاملي الفقيه:

(إن المكلف إذا بلغ جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء إذا كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف الحق)

والدليل المعني هنا هو: الإيمان بالخالق، سبحانه.

هذه الكلمة البليغة في معنى الايمان اوجهها لكل من هاجم الجادرجي خلال الايام الماضية بسبب رحلته الفلسفية في الحياة، التي انفق عمره وأجهد نفسه غاية الجهد في استحصالها حتى صارت رؤيته تجاه الحياة، معرب معها عن احترامه لكل الاديان ومن يؤمن بها، دون شتيمة، دون تسخيف.

خلال الأيام الماضية شتم الرجل، وهوجم من طلب له رحمة الله الكريم ـ الرحمن الرحيم، الذي كتب على نفسه الرحمة، وسبقت رحمته غضبه ـ بل ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك فسخفوا منجزه المعماري بسبب عقيدته، بل ان احدهم تساخف وناقض نفسه حتى جاء برأي مهندسة عبقرية نعم، لكنها منسخلة عن بيئتها الام، ابنة الحداثة التي لا اطيق بناياتها: زهاء حديد، التي عيرت الجادرجي بانه يستلهم الفلكلور الاسلامي في عمارته، ممتدحة ايام انغماره في الحداثة قبل اكتشاف ذاته المحلية وذوبانه في العمارة الاسلامية بنكهة حداثية جعلته متميزا، قائم بمدرسته، وليس حداثي مغرق في الوهم ينتج عمارة وحشية مثل زهاء حديد.

الغريب ان من شتمه لكونه غير مسلم، جلب رأي من هاجمته بسبب تمسكه بالعمارة والفلكلور الاسلامي!!

تأمل يا رعاك الله!

انجز الجادرجي عمارة محتفية بالهوية الاسلامية المحلية، شغفه التراث الاسلامي، وصارت إعادة إنتاجه بشكل حديث متصالح مع الهوية المحلية شاغله وهاجسه الذي تجده في كل منجزه العظيم.

عمارة متميزة، مبهرة، محتفية بالتفاصيل المحلية، تجد فيها انسجاما مع المحيط الإسلامي دون مشقة، ولم افهم كيف استدل بعض الفنانين على أن منجزه خال من الروحانية أو شيء من هذا القبيل، عجيب والله.

دعوا الخلق للخالق، ورحمته وسعت كل شيء ـ كما وصف نفسه سبحانه ـ أما الجادرجي فقد كان معماريا عظيما، ومتفلسف في الحياة والعمارة، ترك تراثا مبهرا نفخر به كعراقيين.

ثم عيني، رفعت صهرنا ـ نحن النجفيين ـ ولن يرضيني ان يشتم صهرنا وهو غير مستحق للشتم!

#بهاء_الدين_العاملي

#رفعت_الجادرجي

 

 

فاضل ﮔـنوش

(1)

من الفقر إلى الفقر.

(2)

عرفت أبو عباس أول مرة صغيرا، بشكل أدق، رأيته صغيرا، ولم اعرفه إلا بعد سنوات، واظبت على رؤيته كل يوم تقريبا، دون أن اعرف اسمه، ولكنني اعرف عمله، كانت صورته الأولى التي لمّا تبارح مخيلتي تطوف في الذاكرة منذ تلك السنين البعيدة، يلبس قفاز التدليك الأسود الخشن، منحنيا على رجل مستلق في قاعة الحمام العمومي في حمام جاويد، أو كما يعرف باسم: حمام كلة حسين، يفركه بساعديه الصلبين فركا، كانت ذراعاه تصعدان وتنزلان، كنت اشاهد حركتهما عبر البخار المتكاثف، يرتفعان، يهبطان، يشقان البخار، يكونان دائرة من الفراغ حوله، وبين حين وآخر، يتباعد البخار عن وجهه، فيلوح لي، اسمرا، محمر الوجه، انتفخت اوردته الدموية لكثرة ما تنشق من البخار، عيناه استحالتا إلى كرة من الدم في هذا الاتون المتكاثف، يطلق نكتة عابرة، يضحك المستحمون، ويطبق عليه الصمت.

(3)

ارتبطت حياته بالحمام، مهنته، باب معاشه، وظيفته منح الابدان الراحة المنشودة، والنظافة المبتغاة، سمعته مرة يشكو أبان الحصار من ضيم دهره، ومن تنكر أحد الاصدقاء له، لا اذكر القضية، لكنه تحدث وقتها ان الله رزقه واحدة من بناته ـ اللواتي صرن ثمانية، ثمانية بنات يا الله في هذا البلد الذي يذل الولد قبل البنت ـ كان منتشيا بمقدمها، ويردد أن الله عوّضه عن الخذلان بها.

(4)

ببساطة متكلفة، كيف لسمكة أن تعيش خارج الماء؟

(5)

كان حاضر النكتة، يقتنص التشبيه المضحك اقتناصا، لعل ما لا استطيع نسيانه هو تشبيه أطلقه في التسعينات، حينما كان الدولار يرتفع وينخفض بسرعة جنونية تطير معها القلوب، وتخرب البيوت، وفق مزاج صدام، وقتها، كان هناك شيخ، رجل دين، يعرج بطريقة قاسية، يرتفع نصف بدنه بأعلى ما يستطيع، وينخفض بأدنى ما يمكنه، كأنه منشار صاعد نازل، أو كما شبهه أبو عباس، قال: هذا الشيخ مثل الدولار، يصعد وينزل…

(6)

هدم الحمام، وقبل هدمه ماتت مهنة المدلكـﭽـي مع مات عقب طوفانات 2003، أين يذهب أبو عباس؟ اتخذ من ظهر الحمام، قرب المسجد المفرد من بناية الحمام، مسجد جاويد، الحمام المهدوم، اتخذ من قرب المسجد محلا لبيع ما تيسر للعابرين من عصائر وما شابه، فقير على قارعة الحظ العاثر، كنت أمر به، فأجد مجموعة من الرجال الذين كنت أكبر وهم أمام ناظري، من أهل طرفي وأصدقاء أبي، يرابطون عنده، بعضهم من أترابه الفقراء، يتحلقون عند الفقير، حاضر النكتة، دقيق الملاحظة، الذي حوّل الرصيف إلى مقهى يأنس إليه أحبته.

(7)

كيف لك أن ترثي فقيرا؟ عاش فقيرا، عابر سبيل، ومات فقيرا، بأقسى طرق الموت وأكثرها إيلاما، تاركاً خلفه أفواه غرثى، وعيون ثكلى، وحسرة تخيّم على البيت وتخضه خضا، ربما لم يشكل وجوده في حياة الكثيرين محطة تستوجب الوقوف عندها، لكنه مثّل عندي حياة كل عراقي، من الفقر للقبر، وبينهما الكثير من الوجع، والضحك المداف بالأسى، وجه من الوجوه التي صنعت ذاكرتي عن هذه المدينة، المدينة التي تركتها، ولم ارتح مذ تركتها.

2/ 2/ 2020

 

حرب تلد أخرى… عدم الاستقرار السياسي والحروب العراقية المستمرة

 

علي عبد الهادي المعموري

لا يكاد المتتبع لتاريخ العراق السياسي الحديث منذ العام 1921 أن يضع يده على عقد ونصف من الاستقرار السياسي أو الهدوء من دون حرب داخلية أو خارجية يخوضها البلد، او دون مشاكل داخلية مدمرة، وفي الواقع، لو أردنا العودة إلى أزمان أبعد من تاريخ قيام الدولة الحديثة في العراق فلن نجد فرقا كبيرا، في كل الحقب، ولكننا في هذا المقال سوف نركز على الاضطرابات التي عاصرتها الدولة العراقية الحديثة، أو بعض منها بشكل أدق.

منذ البداية، كانت ولادة الدولة العراقية عسيرة، سُفك في سبيلها دم كثير، دفعته عشائر الفرات الأوسط ثمنا لوقوفها أول الأمر مع الدولة العثمانية ـ التي لم تنصف الفرات يوما ـ ثم لتحملهم أعباء القيام بثورة العشرين، الثورة التي أجبرت بريطانيا على أن تغير قرارها بوضع العراق تحت انتداب وإدارة بريطانية مباشرة، وترضخ لاختيار حكم وطني وضعت على رأسه فيصل بن الحسين، الذي بايعه شيوخ الفرات الأوسط ورجال الدين في النجف ملكا على العراق.

على الرغم من ذلك، لم تشهد سنوات حكم فيصل الأول أي استقرار أو هدوء سياسي، وكانت الصدامات المسلحة تنشب بين حين وآخر، بعمل بريطاني مرة لتقييد فيصل، أو بانتفاضة عشائرية تقف خلفها مطالب بعضها سياسي يستجيب لمطالب رجال الدين في النجف، في ظل امتلاك العشائر لسلاح يفوق ما تملكه الدولة بذاتها، وبعضها اقتصادي مصلحي بحت من قبل بعض كبار الملاكين والشيوخ، وبعضها قومي عرقي مثل انتفاضات الكرد ابتداءًا بحركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي الذي قاد حراكا مسلحا ضد الحكومة في نيسان/ابريل 1924.

وفي الوقت الذي كان فيصل يحاول لملمة شتات العشائر، والتوفيق بين المصالح الوطنية والضغوط البريطانية، وينفي في سبيل نفاذ أمره الكثير من الشيوخ ورجال الدين الذين بايعوه في الحجاز ملكا، ويحاول طمأنة العراقيين لسياسته، قامت القبائل النجدية بالإغارة على جنوب العراق في كانون الاول/ ديسمبر 1924، ليدخل العراق في مناوشات متعددة استطاع فيصل فيها أن يحصل على إجماع لمساندته في محاربة القبائل النجدية المدفوعة من ابن سعود.

وفي أواخر أيام الملك فيصل الأول، نشبت مشكلة قوات الليفي وعناصرها من الاثورييين، القبائل المسيحية التي كانت تستوطن سلسلة جبال حكاري، وجلبها البريطانيون مشكلين قوات الليفي من بينها، وبعد قيام الحكم الوطني، رفض الاثوريين تسليم سلاحهم للدولة، الأمر الذي قاد إلى صدام مسلح كانت نتيجته مقتل عدد كبير من الاثوريين فيما سمي بمذبحة سميل، قبيل وفاة فيصل الأول وخلال رحلته العلاجية التي توفي خلالها في ايلول/ سبتمبر 1933 ـ تشير بعض المصادر إلى أن فيصلا توفي متأثر بنبأ ما حدث دون علمه، أبان تولي بكر صدقي لقيادة الجيش العراقي ـ لتسجل نقطة دموية كبيرة في تلك الحقبة المبكرة.

شهد عهد فيصل اضطرابات عشائرية مستمرة، وصدام بين القوات الحكومية والعشائر، بعض الاضطرابات كان احتجاجا على جمع الضرائب على الأرض، وبعضها كان سياسيا بحتا، خصوصا بعد الاضطرابات التي تنامت عقب المعاهدة العراقية البريطانية في حزيران 1930 حتى وصلت إلى إضراب في العديد من المدن العراقية وفي الفرات الأوسط خصوصا.

وبعد وفاة الملك فيصل الأول، ازداد الوضع تعقيدا، وقامت انتفاضات متعددة على الحكومة، مثل انتفاضة الشيخ خوام العبد العباس الفرهود، شيخ بني زريج في منطقة الرميثة، التي كانت استجابة لما طرحه المرجع الشيعي وقتها الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من احتجاج على ما وجده سلوكا طائفيا لدى السلطة، وعدم إشراك جميع العراقيين في الحكم، الانتفاضة التي قمعت بطريقة دموية أسقطت الكثير من الضحايا عام 1935، وفي ايار/ مايو أعلنت الأحكام العرفية في الرميثة وسوق الشيوخ، وفي أيلول/ سبتمبر تمرد عشائر المدينة في البصرة، وفي تشرين الأول/ اكتوبر تمرد الايزيديين وأعلنت الأحكام العرفية في سنجار.

في العام التالي، وفي تشرين الاول/ نوفمبر من العام 1936، وقع واحد من أهم الأحداث في العراق، والذي سيؤثر على مجمل تاريخه اللاحق، التدخل الأول للجيش في السياسة، إذ قام الفريق بكر صدقي، رئيس أركان الجيش، وبالتشاور مع الملك الشاب غازي بن فيصل، بقيادة انقلاب استهدف إسقاط حكومة ياسين الهاشمي، التي قمعت الانتفاضات الفلاحية التي ذكرناها مسبقا بطريقة قاسية، ولم يتوقف الانقلاب عند إسقاط حكومة الهاشمي وجلب حكومة جديدة نالت ثقة الملك، بل وصل إلى قتل أول وزير دفاع عراقي، الفريق جعفر العسكري، الذي خدم في الجيش العثماني واثبت شجاعة فائقة، وكان من مؤسسي الجيش العراقي بعد قيام الدولة الحديثة عام 1921.

على أي حال، لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم يتلبث بكر صدقي طويلا قبل أن يقتل بدوره في آب/ اغسطس 1937، وتنتهي الحكومة الانقلابية بمسار صدامي.

ثم شهد العراق مرة أخرى حركة مسلحة عنيفة، عرفت فيما بعد بحركة مايس 1941، او حركة العقداء الأربعة، التي أسقطت بدورها حكومة نوري السعيد وجاءت بحكومة انقلابية رأسها رشيد عالي الكيلاني، وخلعت الوصي على العرش الأمير عبد الإله من منصبه، ووضعت محله الشريف شرف، لتسقط بدورها على يد البريطانيين بعد صدامات عسكرية غير متكافئة مع قوات الجيش العراقي، أطيح بعدها بالكيلاني وحكومته في أيار/ مايو، وأعيد الأمير عبد الإله إلى منصبه، وبينما هرب الكيلاني خارج العراق ولم يعد إلى العراق حتى ستينات القرن الماضي، فإن العقداء الأربعة تم إعدامهم مع بعض المدنيين الآخرين المتعاونين معهم، مثل يونس السبعاوي.

خلال الأحداث تلك كلها، كان شمال العراق ـ حيث يقطن الكرد ـ يشهد اضطرابات مستمرة، والحملة العسكرية تلو الحملة، منذ قمع حركة الشيخ محمود الحفيد تباعا إلى سنوات متأخرة، حيث خاض الكرد صدامات مسلحة مع مختلف الحكومات المركزية سواء في الحقبة الملكية أو في الحقب الجمهورية بمختلفها بما يضيق المقال عن حصره، وإذ سبق ان ذكرنا تمرد الشيخ الحفيد، نذكر بعضا من التمردات الكردية اللاحقة، ففي تشرين الأول/ اكتوبر 1943 اعلن ملا مصطفى البارزاني تمرده من بارزان بعد عودته من ايران، واستمر تمرده الى تشرين الاول/ اكتوبر من العام 1945 يهزم ويهرب الى ايران، ثم يعود ويعلن تمرده مرة أخرى في ايار/ مايو 1947، ويظل بمناوشات متفرقة الى ما بعد الانقلاب عام 1958، فيجدد الحركة المسلحة عقب سلام مع الحكومة المركزية، ويعود للحرب في ايلول/ سبتمبر 1961، وتتجدد الاشتباكات في 4 آذار/ مارس 1965 وصولا الى تحقيقه تقدما مهما في أيار/ مايو 1966 وتستمر العمليات بالتصاعد حتى  آب/ اغسطس 1967، وصولا الى شن القوات الحكومية هجوما على مناطق سيطرة البارزاني في كانون الاول/ ديسمبر 1968.

ظلت حالة القلق هذه حتى التقاء صدام حسين ـ كان نائبا لرئيس الجمهورية وقتها ـ بالبارزاني في آذار/ مارس 1970 لتبدأ سلسلة مفاوضات قادت الى اعلان بيان 11 آذار/ مارس لحل المسألة الكردية، الذي بانت بوادر تعثره بقطع المفاوضات في تشرين الأول/ اكتوبر 1972، لتنهار اتفاقية الحكم الذاتي في آذار/ مارس 1974 ويندلع القتال مرة أخرى، حتى توقيع اتفاقية الجزائر بين ايران والعراق عام 1975 التي توقف على إثرها دعم شاه ايران للاكراد، فانهارت حركة البارزاني وأعلن ايقافها وانسحابه الى ايران، ثم اندلاع حرب العصابات في المناطق الكردية الجبلية الوعرة في ايار/ مارس 1976، دون ان يفوتنا ذكر وقوع معارك تشرين الاول/ اكتوبر 1991 بين القوات العراقية والكرد في اربيل والسليمانية وانسحاب القوات العراقية منها، ثم الصدام الكردي الكردي الذي قاد مسعود البارزاني الى ان يستنجد في آب/ اغسطس ببغداد لدعمه ضد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني.

في غضون ذلك كله، كانت المشاكل الداخلية والصدامات العنيفة مستمرة، محاولات انقلابية ناجحة واخرى فاشلة، واعتقالات، وعمليات اغتيال، وصولا إلى انقلاب صدام حسين على البكر، وتوليه منصب رئيس الجمهورية، وإعدام عدد من القيادين البعثيين عام 1979، ولم يتلبث طويلا حتى اندلعت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في ايلول/ سبتمبر 1980، لتستمر ثمانية اعوام، وما أن أعلن عن وقف اطلاق النار في 8/ 8/ 1988، حتى اجتاحت القوات العراقية الكويت في الثاني من آب/ اغسطس 1990، ليدخل العراق في مواجهة عسكرية مدمرة مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 1991، التي قادت الى انسحاب كارثي مدمر للجيش العراقي من الكويت، وتندلع على أثره انتفاضة كبرى في آذار/ مارس ضد نظام صدام حسين خرجت خلالها 14 محافظة عراقية عن سيطرة بغداد.

ولم تتوقف تداعيات حرب الخليج الثانية على الحصار الاقتصادي المدمر، بل استمرت تفاعلاتها العسكرية، ففي ايلول/ سبتمبر 1996، أطلقت الولايات المتحدة الامريكية 44 صاروخ طراز كروز لتدمر مواقع القيادة في جنوب العراق، ثم تعود لتقود عملية ثعلب الصحراء في كانون الاول/ ديسمبر 1998 وهي اوسع عملية عسكرية تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا منذ حرب الخليج الثانية عام 1991.

وكانت العاقبة الكبرى هي ما ترتب على توجيه الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش في 17 آذار/ مارس 2003، مهلة لصدام حسين بـ 48 ساعة للخروج من العراق قبل بدأ الحرب عقب اتهامه بتطوير اسلحة نووية، ودعم الارهاب، وفي 20 من الشهر ذاته بدأت حرب الخليج الثالثة لتعلن في نيسان/ ابريل 2003 احتلال بغداد واسقاط نظام صدام حسين.

ومنذ العام 2003، بدأت الحروب الداخلية بالتنامي، متخذة طابع طائفي، طرف تقوده الحكومة العراقية بدعم من الولايات المتحدة، وطرف تمثله تنظيمات مسلحة مختلفة، كان بعضها يركز على قتال القوات الامريكية فحسب، بينما مارس بعضها الآخر حرب طائفية معلنة، مثل تنظيم القاعدة، وراح ضحية تلك الحرب آلاف من الضحايا المدنيين الابرياء.

أخذت الامور تنفرج نسبيا بدايات العام 2009، مع استمرار الانفجارات الدموية الكبيرة دون توقف، وصولا الى كارثة انهيار الجيش العراقي في الموصل في حزيران 2014 ومدن أخرى، لتخسر الحكومة المركزية السيطرة على مساحة شاسعة من الاراضي تقارب ثلث مساحة العراق، وتدخل في حالة صدمة عسكرية لم ينقذها منها سوى اعلان المرجع الاعلى في النجف عن فتوى الجهاد الكفائي في 6/ 12/ 2014، التي طالب فيها المواطنين بالتطوع في القوات العراقية والدفاع عن وطنهم، فتتأسست بعدها فصائل عسكرية غير نظامية انضوت لاحقا في مؤسسة عرفت باسم الحشد الشعبي، ودخلت مع القوات النظامية في حرب مفتوحة مع تنظيم داعش (الدولة الاسلامية في العراق والشام)، حرب استمرت حتى اعلان التحرير عام 2016، بمشاركة واسعة من مختلف الأجهزة الامنية والعسكرية في العراق، وبدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مكلفة العراق الكثير من الخسائر البشرية، وتخريب المدن والبنى التحتية، وظهور فواعل عسكريين جدد من الصعب ضبطهم مرة أخرى ضمن سلطان الدولة العراقية.

هنا، لنا ان نتسائل، ما هي السمة الأبرز التي هيمنت على الدولة العراقية الحديثة خلال عمرها الذي قارب القرن؟ والإجابة الوحيدة هي: الحرب، حرب مستمرة دون توقف، داخليا بين الحكومة ومناوئيها، خارجيا بين العراق وجيرانه، بين العراق وتنظيمات مسلحة عابرة للحدود، حروب اولدت مشاكل اجتماعية معقدة، وصراعات حزبية وإثنية طائفية، قادت بدورها الى أن تشعل حروبا أخرى، وتولد أزمات اكبر، وينمو على هامشها طفيليون استفادوا من اقتصاد الحرب، بالسمسرة، والرشاوى، وفرض الرأي السياسي، وغيرها من المشاكل.

الحرب، هي أم كل شيء في العراق، وعاقبة كل خلاف سياسي فيه، بسبب عدم الاتفاق على العقد الاجتماعي المؤسس للدولة، ولا ريب والحال هذه أن تستمر الحرب، ما دامت القوى السياسية العراقية الممثلة للإثنيات غير قادرة على أن تقدم من بين رجالها آباء مؤسسون يبنون الدولة، ويركزون دعائمها.

الصورة: دمار الجيش العراقي بعد الانسحاب من الكويت، طريق الموت.

د. مها عبد اللطيف الحديثي

(1)

كيف ترثي معلما؟ أو معلمة بالأحرى؟ كيف تصف مشاعرك تجاه شخص أغلق الموت عينيه، بعد أن فتح هو عينيك على الدنيا؟

(2)

في المرحلة الأولى من كلية العلوم السياسية، كان ذلك عام 2005، سألنا الطلاب الأقدم عن طبيعة كل قسم من أقسام الكلية، وبدأ احدهم بتبيان الأقسام، كانت لدينا أربعة أقسام، النظم السياسية والسياسات العامة، السياسة الدولية، الاستراتيجية، العلاقات الاقتصادية الدولية، عادة يفضل الطلاب قسمي العلاقات أو السياسة الدولية والاستراتيجية، لأسباب متعددة، أما أنا، وما أن شرح لي الزميل المذكور معنى الاجتماع السياسي الذي تتركز الدراسة حوله في قسم النظم السياسية والسياسات العامة، إلا واخترته دون تردد، دون نقاش، هذا هو شغفي في الحياة، أن افهم كيف يتصرف الانسان ككائن سياسي.

(3)

ماذا يفعل المعلم؟ حسنا، كما قال مصطفى جمال الدين يوما:

تأتيه أجساد فيصنع روحها

والطين لولاه الكثير الأوفر

(4)

في المرحلة الثانية لدراستي البكلوريوس، كانت السنوات الأكثر التهابا في بغداد، قتل مجاني، سيطرات وهمية، وكنت قد تقدمت بطلب تأجيل السنة الدراسية، ووافقت الجامعة على طلبي، ولكنني وبعد مضي أكثر من شهر ونصف على بدء الدراسة قررت إلغاء التأجيل والعودة لقاعات الدرس، فذهبت إلى الكلية بهذا الطلب، يومها، وفي ذروة ذلك الخبل الطائفي، رفض معاون العميد طلبي، وقال كلاماً مضمونه أنني اضحك على الحكومة، وحين كدت أن أيأس، ذهبتُ لها، وكانت رئيسة قسم النظم السياسية والسياسات العامة، قسمي، وأخبرتها بما قاله، سحبت نفسا من سيجارتها وقالت: مو بكيفه، طالب يريد يكمل دراسته يمنعه؟!! اللي يجي بهاي الظروف حتى يدرس متفضل اصلا، اكتب طلب، وكنت قد كتبتُ الطلب على ورقة هزيلة، فزجرتني وقالت: هي هاي ورقة؟! وناولتني ورقة بديلة كتبت بها طلب إلغاء تأجيلي، فأخذته وطارت به، وما هو إلا يوم وآخر، وإذا بها تأتي بموافقة إلغاء قرار مجلس الجامعة بتأجيلي، وتعيدني إلى الدراسة.

(5)

بعد كل تلك السنوات، لا يزال معاون العميد القديم يرفض طلب صداقتي على الفيسبوك، بينما أقف باكيا ناعيا للعظيمة التي كان أول احتكاكي بها أن لبت طلبي وهي دونه في الصلاحيات الادارية.

(6)

كانت المحطة الثانية مع بداية الفصل الدراسي الثاني، والدارسين في النهرين يعرفون أنها تعتمد نظام الفصول الدراسية، فندرس ثمانية مواد في الفصل الأول، وثمانية أخرى مختلفة عنها في الفصل الثاني، وفي الفصل الثاني، كانت محاضرة علم الاجتماع السياسي، وأستاذة المادة هي تلميذة أبو الاجتماع السياسي العربي، مؤسس قسم النظم السياسية في العراق، العلامة الدكتور صادق الأسود، وهي الأستاذة، الراحلة الكريمة.

ابتدأت اليوم الأول بفتح كتاب الدكتور الأسود (علم الاجتماع السياسي أسسه وأبعاده) ذهبت إلى الفهرس، وبدأت بتحديد المفردات التي سوف ندرسها من بين ما تضمنه هذا الكتاب الضخم، ثم انفتلت تدرس المواد محاضرة فمحاضرة، تقف بك على دقائق هذا العلم، تمنحك مفاتيحه، تفتح أبوابه المعقدة وتغوص بك وتغوص، تورد النظرية، ثم تنثني لشرح تطبيقاتها، وفي العراق خصوصا، ولا زال شرحها لتأثير الفراتين على مزاج العراق يدور في رأسي ليفتح لي الكثير من مغاليق هذا البلد وناسه، وفي غضون شرحها ذاك، تنفث دخان سيجارتها، واحدة تلو الأخرى، غاضبة من الخبل الذي يضرب بلدها، بلدها الذي تعشقه وتهيم به حبا، حتى يبلغ بها السخط أوجه، فتتوقف عن الكلام وتخرج، ثم تعود لتكمل المادة دون كلل أو وجل.

(7)

كانت حريصة، حريصة على كل شيء مثل استاذة مثالية تجد كل الطلبة أبنائها، وممتلكات الكلية ممتلكاتها، اذكر مرة أنني دخلت معها مكتبها بعد المحاضرة، أول ما دخلت، انتبهت أن المدفأة قد أحدثت حرقا في خزانة خشبية في المكتب، يبدو ان احدهم نسيها حين قطعت الكهرباء وخرج، فدخلت المنظفة دون أن تدري فأزاحتها وألصقتها بالخزانة، ليحدث ما حدث، بقيت تردد: لااااا مو خوش خبر مو خوش خبر، تأسفت كثيرا لتلف جزء سطحي من الخزانة، أشعلت سيجارة، ثم أضحكها أحد الطلبة بنكتة ما، وتهلل وجهها السمح لما قاله ابنها الطالب.

(9)

لم تكن تنادينا بغير: أبنائي.

(10)

في الماجستير، بدأت علاقة أخرى معها، مختلفة، وإن كانت بذات الانضباط، درستنا مادة المنهجية وشيء من التذكير بعلم الاجتماع السياسي، وكنتُ قد فهمت مزاجها وعرفت ما تريده، وصرت انصح طلبة المنافسة على الدراسات العليا بما يفترض أن يركزوا عليه حينما يقرأون كتاب الدكتور الأسود لأجل الامتحان التنافسي، على أي حال، كانت كما عهدتها، ممتلئة علما ومحبة بحزم، وكان السخط قد بارحها بدرجة كبيرة مع هدوء البلد، وعودة الحياة، يا الله لكم احببت أن اجلس أمامها كتلميذ استمع منها واتعلم.

(11)

دارت السنتين، وصارت عضوا في لجنة مناقشتي رسالتي، وفي تلك المناقشة، قالت لي من أول لحظة: هذه أطروحة دكتوراه وليست رسالة ماجستير، ولو بيدي لجعلتها منهجا دراسيا، وانصح كل الطلبة الجالسين في القاعة بقرائتها، وانفتلت تناقشني بمحبة وحزم، ومن بين أساتذتي الأجلاء الذين ناقشوني، كانت هي أكثر من ألححتُ بنقاشه، لسبب وحيد، كانت هي أكثر من أردت أن لا أبدو مخطئا أمامه، ألححتُ حتى قالت لي وهي تحضك بمحبة، وتنظر لي بفخر: كافي علي تعبتني، فصمتُّ.

(12)

كانت مهابة، لا يجرؤ أحد من طلبتها على الكلام بما يغضبها، بعضنا ـ طلبتها ـ نال الاستاذية، وبقي يخاف منها، يخاف بمحبة ومهابة.

(13)

حين عرفت أنني سأزور لندن، اتصلت بي وقالت إياك أن تأتي ولا أراك، واتفقنا، ولكن حظي السيئ، وقصر زيارتي منعتنا من اللقاء، فبقيت حسرة تعتصر قلبي لأنني لم أرَ وجهها السمح للمرة الأخيرة قبل أن تغادرنا إلى بارئها.

(14)

خلال سنوات عمرها، درست المئات، وأشرفت وناقشت المئات من أطاريح الدكتوراه، ورسائل الماجستير، فضلها في أعناق المئات من الطلبة الذين نهلوا العلم بين يديها، كانت أمينة على تراث أستاذها الدكتور صادق الأسود، مبدعة فيما تكتبه أو تدرسه، ولكن ما أتيه به فخرا هو آخر رسالة كتبتها لزميلي الدكتور حسن سعد، قالت له لا تنسى أن توصل سلامي لعلي المعموري والدكتور نصر العزيز، انت وعلي ونصر افتخر بكم رغم اعتزازي بالاخرين، انتم الأقرب لقلبي أبنائي الأحبة.

كانت هذه آخر كلماتها له، ولي، آخر ما كتبته: للأسف ما مكتوب نتشاوف.

اي والله دكتورة للأسف

 

 

 

الشيخ شاكر القريشي

يرتبط هذا الرجل بواحدة من أكثر زوايا ذاكرتي دفئا وأمانا، بتلك السنوات البعيدة من طفولتي، حين كان الأمل يملأني، والتطلع للمستقبل بطموح وشغف وأحلام واسعة، وثقة بإيماني، حين كان أمثال هذا الرجل يبثون الطمأنينة في روحي، جلست تحت منبره في مجلس آل بحر العلوم، قبيل منتصف تسعينات القرن الماضي، دخلَ المجلس المهيب وقائده يخطو به فوق رؤوس الجالسين، ازرار قميصه مفتوحة كعادته، حتى وصل لمنبره، صعد متعكزا على كتف قائده بيد وعلى عضادة المنبر باليد الأخرى، كان يتحدث بهدوء، يركز على البحث التاريخي، ينقل الوقائع بمصادرها، دون إثارة للفتنة، وتجنب للمختَلَف بشأنه من الوقائع.
مضت تلك السنين التي كنت أتلقف ما يقوله من احبهم مثله دون نقاش، فتهجع روحي وانظر للقادم بشغف، صار الشك والقلق ديدني، لا في مستوى تلقى المعرفة وحسب، بل على مستوى حياتي الشخصية وطريقة عيشي، قلق في قلق مداف بالقنوط، لم يعد الشيخ ولا أضرابه قادرين على منحي الطمأنينة ولا المعرفة، ولكن، وبين كل هذه الحرائق التي تلفني، يظل وجه الشيخ البصير، الباسم بالفطرة، متوهجا في ذاكرتي، صوته الهادئ بنبرته الباكية يقودني الى اجمل مرابع سنواتي الغابرة بذاكرتها المعقدة حد الاضطراب، يمسك بيده اللاقطة، عيناه تغرورقان بالدمع، فيبكي الصغير الذي كنته، الجالس تحت منبره صحبة الباكين، ويضرع معهم، ثم يخرج الى الشارع وقد هجعت ظنونه، وتجلى مستقبله عامر بالأمل، يخب الى الدار العتيقة في طرف البراق، وصوت الشيخ يطفو، يحمله بيديه فوق بحر من السواد، تلك الأيام التي لن تعود، مضت كما مضى الشيخ آمنا راضيا، لأظل هنا بمفردي صحبة الهواجس الموجعة، بكل قلقها الذي يغور في روحي حفرا، روحي التي ظلت طريقها نحو الشيخ الخفيض الصوت، بوجهه الباسم، وعيناه الدامعتان.
الشيخ شاكر القرشي، يغادر لرحمة ربه الكريم في الشهر والأيام الأقرب لروحه.

محمد رضا الكرماني

لا اذكر بالضبط متى انتبهت لوجوده، هو من طرف البراق، مثل اسرتي، لكن بيته يقع في “عگد” بعيد عن “عگد” اسرتي، وأكاد أجزم أنني شاهدته أول مرة في شارع الصادق حين كنت طفلا، لم يكن بإمكانك أن لا تنتبه للرجل الضئيل البنية، الأسمر، بعويناته السوداء السميكة، وبدلته الانيقة، وربطة العنق المتميزة، البدلة التي لا يبارحها صيفا ولا شتاء، صحبة أخيه الذي لا يختلف عنه بالسمت إلا بعينيه اللتان لم تغطيهما العوينات، بشعرهما الأشيب، الهيئة التي بقيا عليها منذ شاهدتهما أول مرة، الى اليوم.
كنت اسأل نفسي، لماذا يرتدي الرجلان هذه البدلة على الدوام؟ ماذا يعملان؟ كنت صغيرا، لا أعرف القواعد التي وضعها التربويون القدامى لانفسهم، سمت من الاناقة والرصانة الوقورة، يليق بحامل العلم ومعلمه، نسق تربوي يعود الطلبة على التحضر، والاحترام، والرصانة في العيش.
بقيت لسنوات طوال اتتبع الرجل وشقيقه من بعيد، وهما يخبان في دروب النجف، والاحترام يحيطهما حيث حلا، اتطلع نحوهما بإجلال يشوبه الفضول، بعد ٢٠٠٣ جمعتني بأبي ظافر خصوصا بعض المواقف التي كان بيننا فيها سلام عابر، تحية يعلوها ما يكون بين شيخ وقور وشاب صغير من احترام للكبير، وعطف على الصغير.
ثم دارت الأيام، وجمعتنا في نزهة الى أحد بساتين بحر النجف في “الشواطي” كما نسميها، صحبة المرحوم الشيخ محسن الأنصاري، والاخ العزيز ابو احمد؛ جاسم الجزائري، هناك، سألني الرجل المهيب، الأنيق أبدا عن أسرتي، ليفاجأ بأنني جاره، وسليل اصدقائه سواء من ناحية الأب، أو ناحية الأم، لقرب داره من دار أجدادي لأمي في شارع الصادق، فأمسك يدي بحب، وظل طوال النزهة يحادثني بحفاوة، ويرسل السؤال تلو السؤال عن كبار أسرتيَّ كلاهما، فردا فردا، رجالا ونساء، حتى أن الشيخ الانصاري رحمه الله تبرم آخر النزهة وقال له: “عمي ابو ظافر اليوم ما سولفت ويانا” فقد كان جميل المعشر، واسع الاطلاع، ممتع إذا حدّثك سلب لبك بنوادره، ومعرفته بالأدب، والناس، والتاريخ، وأهل النجف، حتى لا يكاد يفوته شيء عن شيء في هذه الأزقة العامرة بالتاريخ والشعر والفقه.
ازاء وقوفي على معرفته بالأسرة، سألت اهلي عنه، حتى جدتي لأمي كانت تعرفه بشكل جيد، فهو جار وأي جار، سليل أب وجيه ديِّن مهاب محترم، وهو تربوي خرَّج أجيالا من الطلبة الذين داروا في نواحي الحياة، يعمرونها بما تعلموه منه.
ثم صار كلما شاهدني استوقفني، يسلم عليّ بمحبة كبيرة، ويسأل بتلطف عني، أهلي، دراستي، عملي، حتى اخبرته بقبولي للدراسة في الماجستير ففرح كأنني ابنه الذي ما أنجبه، كلما التقينا صدفة امسك يدي وقادني معه لمسافة من الطريق، حفيّ بي، آنس لممشاي معه.
لعلي لم آنس لرجل كبير في السن بعد جدي الحاج صاحب إعبيد مثل أُنسي لأبي ظافر، محمد رضا الكرماني، الباسم أبدا، الرضي، الوحيد في داره، الكثير بين أهله في النجف، أحببته كثيرا، وأشعر اليوم أنني فقدت واحدا من أهلي إذ فقدته، بعيد عن بلدي، ومدينتي التي أحب، فلا استطيع حضور مجلس عزاءه، ويوجع فؤادي أنني لم أره منذ مدة بسبب ضيق وقتي حين أعود للنجف آخر الأسبوع.
وداعا عمي أبو ظافر، آلمني رحيلك أيها النبيل النقي العفيف.

21/ 9/ 2019

روما