خلال هذا الاسبوع، توفي اثنين من ابرز وجوه تاريخ السياسة والدين في العراق، بكل الالتباسات العميقة التي تلف هذين الأمرين؛ الدين والسياسة، أولهما سعد صالح جبر، سليل صالح جبر، العصامي الذي بنى نفسه من الصفر حتى صار رئيسا لوزراء العراق، وسميّ سعد صالح جريو، صديق أبيه الأقرب، والثاني هو السيد محمد بحر العلوم، سليل الأسرة العلمية النجفية ذات الثقل الديني والاجتماعي العريق.
ولعلني لا اجد بدا من الاعتراف بقلة معلوماتي عن الأول، فهو لم يظهر في العراق بقوة بعد 2003، وكل عمله، وجهوده تركزت على عراق ما قبل 2003، انفق أمواله الكثيرة على المعارضة العراقية، حتى آخر جنيه استرليني امتلكه، ثم جلس في بيته، يشاهد كيف غنم الآخرون الخزينة، وخرج منها خالي الوفاض إلا من ضميره، لذلك سيكون من الطبيعي لعراقي من جيل الثمانينات، ممن لم يغادروا هذا الوطن الموجع من الطبيعي أن لا أعرف الكثير عن شخص الراحل سعد صالح جبر، إلا ما قرأته عنه، وعن تاريخه، وكل هذه الأمور التي قرأتها لن تكون كافية بالنسبة لي لأكتب عنه رأي واضح وصريح، ولا أمتلك سوى ان اترحم عليه، وقد وفد أخيرا إلى رحمة ربه الكريم.
أما الثاني، فالأمر معه مختلف، نجفي من أسرة نجفية قديمة، لعبت دورا في تاريخ النجف، وتاريخ الفقه الشيعي، الأمور التي نشأتُ ضمن جناحها، وترعرعتُ في كنفها.
كان أسم الأسرة قبل 2003 محاطا بكثير من المهابة، وكثير من الخوف، وكثير من المآسي، فأسرة صغيرة مثل آل بحر العلوم أعدم ثلثي رجالها تقريبا، الامر الذي انطبق على أصهار الأسرة في ذات الوقت، وحلت بالأسرة في نهاية التسعينات مأساة أخرى، حينما سطا أحد جيرانهم على احد منازل الأسرة في حي الأمير في النجف، وقتل الابنة الشابة، ليلحقها بأبيها وأخيها المعدومين.
واختتمت الأسرة أحزانها وكسراتها بوفاة كبير الأسرة، السيد محمد حسين بحر العلوم.
خلال ذلك كله، كنت أسمع بوجل شديد أسماء كبار الأسرة من العلماء ممن أعدموا، كالسيد عز الدين بحر العلوم، الذي قرأت شرحه لدعاء كميل صغيرا ولم أفهم شيئا منه، ولا أذكر اليوم سوى تلك الرهبة التي اعترتني وأنا أقرأ لعالم شهيد شرحا لأكثر الأدعية إثارة للألم بالنسبة لي.
وبعد 2003 أخذ اسم السيد محمد بحر العلوم يتردد في الجرائد، والفضائيات، ولا يزال العراقيون يذكرون غضبه في الجلسة الأولى لإعلان مجلس الحكم وكيف هجم على مذيع العربية، شعرا ونثرا، وجلال الطالباني يستزيده، حيث قال انهم ــ المعارضة العراقية ــ طرقوا أبواب العرب حتى كلّوا ولا مجيب، اتذكر انه قرأ بيت شعر صدره (قرعت باب الدار حتى تكلمت) ولا اذكر العجز، لكنه كان يقول انهم لم يجدوا آخر الأمر ما يخلصهم من صدام سوى أمريكا، وهذا الخراب الذي ستجيء به.
وتعرض الرجل لاحقا إلى عداء التيار الصدري الذي كان معارضا للعملية السياسية وقتها، وسُب الرجل المسن بشناعة، وكُتب اسمه وسط النجمة السداسية على التبليط أمام داره، وعلى جدران الدار، وزاد الطين بلة تصريحاته أبان وضعه حجر الأساس لمشروع المجمع السكني في حي السلام (عام 2005، ولم يكتمل المشروع إلا عام 2013)، دون ان يرد على أحد من مهاجميه أو ممن سبه.
على أي حال، مرّ الراحل بمنعطفات كبيرة في حياته، فهو سليل أسرة علمية ذات زعامة، مما دفعه مبكرا لخط المواجهة، كان وكيلا للسيد محسن الحكيم، وكان أحد أعضاء الوفد الذي ذهب للتفاوض مع عبد الكريم قاسم حول قانون الأحوال الشخصية الذي أصدره عام 1959، وقرأتُ له كتابا يناقش فيه هذا القانون من وجهة نظر اسلامية كتبه بتكليف من السيد الحكيم نفسه.
لاحقا غادر العراق أبان جمهورية البعث، ومن خارج العراق انتظم في سلك المعارضة، وأصدر في ذات الوقت العديد من الكتب، الادبية والدينية والسياسية، وأتاحت له تجربة التعايش مع الآخر المختلف الانتقال إلى أفق أرحب من القدرة على الحوار، وتقبل الآخر، والدعوة إلى التعايش، وأسس خلال غربته معهدا للدراسات انتقل إلى العراق باسم معهد العلمين للدراسات العليا ومقره اليوم في النجف في الشارع الرئيس الرابط بين النجف والكوفة، المعهد الذي رأسه العلامة الدكتور عصام العطية رحمه الله حتى وفاته.
حقيقة، هناك الكثير من الأمور الشخصية التي لا يصح ذكرها، وبعض من الأمور الأخرى التي أثارها الكثيرون على الفيس بوك تعقيبا على نعي بعض الأكارم للرجل المخضرم الراحل إلى رحمة ربه الكريم، ولست هنا بصدد كشف المستور منها، أو النقاش حول حيثيات المعروف من تلك الأمور، ولكني لا أجد في تاريخ الرجل تلك الهالة القبيحة التي يريد البعض أن يكسوه بها عقوبة له على دوره في بناء النظام الجديد، ولعل هذا الرجل بالذات تنطبق عليه مقولة أحد أبطال المشروطة في إيران ــ لا اذكر اسمه بالضبط ــ الذي قال لأحد محدثيه يوما بعد ان التف الشاه على الدستور الذي ناضلوا لإخراجه إلى النور وتجريده من محتواه بألم: ان العنب الذي أردناه زبيبا صار خمرا، كدلالة على حسن النية، وسوء النتيجة.
خلاصة ما أريد قوله، ان الراحل كان متفتحا، قابلا للحوار، مستعد للتعايش مع الآخر، يمد يداً مفتوحة للجميع، ويتعاون مع الجميع، وخصوصا في المجالات الفكرية التي حرص ان يكون معهده حاضنا لمختلف اتجاهاتها السياسية والدينية كما لمست بنفسي، وكما يمكن للجميع التأكد منه عبر قراءة أعداد مجلة (المعهد) وسبر هيئته التدريسية المتنوعة.
وقد كان واحدا من أعز اصدقاء والده أبان وكالته لمرجع النجف في البصرة هو رئيس الديانة الصابئية في العراق كما يقول رشيد الخيون، مما لابد أن ينعكس على الابن، والأمر الأكثر أهمية ان الأسرة لم تكن على وفاق في يوم مع إيران، إيران الثورة خصوصا، ولم يسكن أي من افرادها في ايران، منحازة أشد الانحياز إلى النجف، ومركزيتها الدينية التي يحاول الكثيرين سلبها منها، ولعل هذا أكثر ما يدفعني إلى كتابة هذه السطور الآن، وبقيت الأسرة بعيدة عن المعادلات الإيرانية، والأذرع السياسية الإيرانية، وإن لم ينف ذلك دورها في عراق ما بعد 2003، وما حازته من مكانة سياسية.
لست بمعرض الدفاع عنه، خصوصا انني لم أحتك بالراحل إلا على وجل، كان أبرز معالم ذلك الاحتكاك ما حدث قبل أشهر، قبل ان ينتكس وضعه الصحي، وهو أمر لا أريد الحديث عنه الآن وقد رحل، خصوصا انني لم اكن طرفه الوحيد، ولعل اطرافه الأخرى من اصدقائي راغبين عن ذكره هكذا على الملأ.
رحم الله الراحلين كلاهما، وأحسن نزلهما
علي المعموري
8/ 4/ 2015