في استقباله…

علي عبد  الهادي المعموري

هل هو ابن التطور الطبيعي أم هو سلاح مصطنع؟

لا يهمني، حقا لا يهمني، لا آبه مطلقا، وإن كنت في قرارة نفسي موقن أن الوجود في الطبيعة كله قائم على توازن دقيق، توازن مذهل بالنسبة لي، معزز لقناعاتي الايمانية الخاصة ـ لن اتحدث عنها ـ وأن الإنسان أحدث خلال آخر 100 عام في هذا التوازن ما لم يحدثه خلال عمر البشرية كلها، خرّب وشوّه وحطّم نظما بيئية عمرها ملايين السنين، دون تفكير، بغباء، بجشع لا نظير له، ولابد للنظام الطبيعي أن يحمي نفسه ـ مثل أي نظام ـ لا نعرف بالضبط كيف يتوازن هذا المزيج المعقد، ولا ندرك كيف يمكن أن يحمي نفسه.

لست مهتما بمصير البشرية، إلى سقر وبئس المقر، نحن لا ننال إلا ما جنت أيدينا، وما كان ربك بظلام للعبيد.

ماذا عن مصيري الشخصي؟

كنت أحلم بأن أكون كاتبا، أخلد بما تركته من نتاج معرفي، منذ طفولتي الحالمة بالكتاب، الذائبة فيه، أقلب بصري في الرفوف المصطفة في طوابق مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف، أحدق عاليا، حتى تعانق عيناي الضوء المنهمر من مركز قبة المكتبة المهيبة، وأحلم أن يكون لي رف بين رفوفها، يحمل اسمي، مؤلفا، لكم أحببت تلك المكتبة، فكانت أول نسخة أهديها من كتابي الأول حصة مكتبة الامام الحكيم.

أمسكت أول طريق حلمي بالكتابة، كتاب مفرد، و4 كتب أخرى مشتركة، وبحوث ومقالات بالعربية والانجليزية، واستيقنت روحي المضطربة طريقها ووجدت ذاتها في الكتابة، وحدها، لا شريك لها.

حلمت في طفولتي أن أزور لبنان، وإيران، وتركيا، وايطاليا بمعالمها الكثيرة، وألمانيا، ولندن، وأمستردام وبجليكا، وفعلت، وطبت نفسا، وقفت تحت سقف السيستين المهيب، تسمرت أمام لوحة رافائيل: (مدرسة أثينا) التي حلمت برؤيتها، ورؤية ابن رشد الرابض فيها منذ أن قرأت عنها في مجلة العربية قبل أكثر من عشرين عام، تجولت تحت سقف كاتدرائية القديس بيتر، وطأت دروب روما، وقنوات البندقية، ولمست برج بيزا المائل، وقفت قرب بيغ بن، وبرج لندن، وساحة الطرف الاغر، وسوهو التي ضاع فيها كولن ولسن، اخذتني رهبة آيا صوفيا، وجمال البسفور، ومهابة الروشة في بيروت، وغيرها وغيرها.

نعم، لا زالت في النفس أماني كثيرة لمدن كثيرة، ولكنها نالت الكثير مما اشتهت من المدن، وأهلها.

نفذتُ من الموت مرارا، موت اقتحمته بنفسي في بعض الاحيان، حلمت ـ وأنا ابن الوله العراقي بالموت ـ أن أموت مجلل بدمي، ميتة فخورة ـ تخيل أن نفخر بالموت ـ اصطلحت مع الموت مبكرا، ولا زلنا وإياه مصطلحان، حتى إذا  كان سخيفا مثل الموت بفايروس لا يعرف نسبه.

انا مستعد للموت، راضٍ بما نلته، ساخط لكل ما لم ينله الاخرون، لكل ما حرم الناس منه، وسرق منهم، ساخط ويغلي الدم في عروقي واتقلب على فراش من الجمر المستعر.

انا مستعد لاستقبال الموت، راغب فيه، ساعٍ إليه، أما إذا قدّر لي ان أعبره بسلام، وأعبر مع الناس أزمة هذا الفايروس، فلن أظل في هذا الوجع المستديم، واللعنة التي لا فكاك منها، سأغادر لأموت في بلادٍ يجمد صقيعها عظامي الكارهة للبرد، وعلى شفتي اسم كل شبر وطأته على هذا التراب، وبين جفوني صورة كل مكان قبلته عيناي، وفي قلبي ذاكرة مضطربة بالعراق.

أمنية واحدة ستظل عزيزة، أن أقرأ ما سيكتبه اصدقائي في رثائي، بموت قريب، أم بموت بعيد بارد.

الصورة: أنا تحت سقف كنيسة السيستين.