الشيخ شاكر القريشي

يرتبط هذا الرجل بواحدة من أكثر زوايا ذاكرتي دفئا وأمانا، بتلك السنوات البعيدة من طفولتي، حين كان الأمل يملأني، والتطلع للمستقبل بطموح وشغف وأحلام واسعة، وثقة بإيماني، حين كان أمثال هذا الرجل يبثون الطمأنينة في روحي، جلست تحت منبره في مجلس آل بحر العلوم، قبيل منتصف تسعينات القرن الماضي، دخلَ المجلس المهيب وقائده يخطو به فوق رؤوس الجالسين، ازرار قميصه مفتوحة كعادته، حتى وصل لمنبره، صعد متعكزا على كتف قائده بيد وعلى عضادة المنبر باليد الأخرى، كان يتحدث بهدوء، يركز على البحث التاريخي، ينقل الوقائع بمصادرها، دون إثارة للفتنة، وتجنب للمختَلَف بشأنه من الوقائع.
مضت تلك السنين التي كنت أتلقف ما يقوله من احبهم مثله دون نقاش، فتهجع روحي وانظر للقادم بشغف، صار الشك والقلق ديدني، لا في مستوى تلقى المعرفة وحسب، بل على مستوى حياتي الشخصية وطريقة عيشي، قلق في قلق مداف بالقنوط، لم يعد الشيخ ولا أضرابه قادرين على منحي الطمأنينة ولا المعرفة، ولكن، وبين كل هذه الحرائق التي تلفني، يظل وجه الشيخ البصير، الباسم بالفطرة، متوهجا في ذاكرتي، صوته الهادئ بنبرته الباكية يقودني الى اجمل مرابع سنواتي الغابرة بذاكرتها المعقدة حد الاضطراب، يمسك بيده اللاقطة، عيناه تغرورقان بالدمع، فيبكي الصغير الذي كنته، الجالس تحت منبره صحبة الباكين، ويضرع معهم، ثم يخرج الى الشارع وقد هجعت ظنونه، وتجلى مستقبله عامر بالأمل، يخب الى الدار العتيقة في طرف البراق، وصوت الشيخ يطفو، يحمله بيديه فوق بحر من السواد، تلك الأيام التي لن تعود، مضت كما مضى الشيخ آمنا راضيا، لأظل هنا بمفردي صحبة الهواجس الموجعة، بكل قلقها الذي يغور في روحي حفرا، روحي التي ظلت طريقها نحو الشيخ الخفيض الصوت، بوجهه الباسم، وعيناه الدامعتان.
الشيخ شاكر القرشي، يغادر لرحمة ربه الكريم في الشهر والأيام الأقرب لروحه.

محمد رضا الكرماني

لا اذكر بالضبط متى انتبهت لوجوده، هو من طرف البراق، مثل اسرتي، لكن بيته يقع في “عگد” بعيد عن “عگد” اسرتي، وأكاد أجزم أنني شاهدته أول مرة في شارع الصادق حين كنت طفلا، لم يكن بإمكانك أن لا تنتبه للرجل الضئيل البنية، الأسمر، بعويناته السوداء السميكة، وبدلته الانيقة، وربطة العنق المتميزة، البدلة التي لا يبارحها صيفا ولا شتاء، صحبة أخيه الذي لا يختلف عنه بالسمت إلا بعينيه اللتان لم تغطيهما العوينات، بشعرهما الأشيب، الهيئة التي بقيا عليها منذ شاهدتهما أول مرة، الى اليوم.
كنت اسأل نفسي، لماذا يرتدي الرجلان هذه البدلة على الدوام؟ ماذا يعملان؟ كنت صغيرا، لا أعرف القواعد التي وضعها التربويون القدامى لانفسهم، سمت من الاناقة والرصانة الوقورة، يليق بحامل العلم ومعلمه، نسق تربوي يعود الطلبة على التحضر، والاحترام، والرصانة في العيش.
بقيت لسنوات طوال اتتبع الرجل وشقيقه من بعيد، وهما يخبان في دروب النجف، والاحترام يحيطهما حيث حلا، اتطلع نحوهما بإجلال يشوبه الفضول، بعد ٢٠٠٣ جمعتني بأبي ظافر خصوصا بعض المواقف التي كان بيننا فيها سلام عابر، تحية يعلوها ما يكون بين شيخ وقور وشاب صغير من احترام للكبير، وعطف على الصغير.
ثم دارت الأيام، وجمعتنا في نزهة الى أحد بساتين بحر النجف في “الشواطي” كما نسميها، صحبة المرحوم الشيخ محسن الأنصاري، والاخ العزيز ابو احمد؛ جاسم الجزائري، هناك، سألني الرجل المهيب، الأنيق أبدا عن أسرتي، ليفاجأ بأنني جاره، وسليل اصدقائه سواء من ناحية الأب، أو ناحية الأم، لقرب داره من دار أجدادي لأمي في شارع الصادق، فأمسك يدي بحب، وظل طوال النزهة يحادثني بحفاوة، ويرسل السؤال تلو السؤال عن كبار أسرتيَّ كلاهما، فردا فردا، رجالا ونساء، حتى أن الشيخ الانصاري رحمه الله تبرم آخر النزهة وقال له: “عمي ابو ظافر اليوم ما سولفت ويانا” فقد كان جميل المعشر، واسع الاطلاع، ممتع إذا حدّثك سلب لبك بنوادره، ومعرفته بالأدب، والناس، والتاريخ، وأهل النجف، حتى لا يكاد يفوته شيء عن شيء في هذه الأزقة العامرة بالتاريخ والشعر والفقه.
ازاء وقوفي على معرفته بالأسرة، سألت اهلي عنه، حتى جدتي لأمي كانت تعرفه بشكل جيد، فهو جار وأي جار، سليل أب وجيه ديِّن مهاب محترم، وهو تربوي خرَّج أجيالا من الطلبة الذين داروا في نواحي الحياة، يعمرونها بما تعلموه منه.
ثم صار كلما شاهدني استوقفني، يسلم عليّ بمحبة كبيرة، ويسأل بتلطف عني، أهلي، دراستي، عملي، حتى اخبرته بقبولي للدراسة في الماجستير ففرح كأنني ابنه الذي ما أنجبه، كلما التقينا صدفة امسك يدي وقادني معه لمسافة من الطريق، حفيّ بي، آنس لممشاي معه.
لعلي لم آنس لرجل كبير في السن بعد جدي الحاج صاحب إعبيد مثل أُنسي لأبي ظافر، محمد رضا الكرماني، الباسم أبدا، الرضي، الوحيد في داره، الكثير بين أهله في النجف، أحببته كثيرا، وأشعر اليوم أنني فقدت واحدا من أهلي إذ فقدته، بعيد عن بلدي، ومدينتي التي أحب، فلا استطيع حضور مجلس عزاءه، ويوجع فؤادي أنني لم أره منذ مدة بسبب ضيق وقتي حين أعود للنجف آخر الأسبوع.
وداعا عمي أبو ظافر، آلمني رحيلك أيها النبيل النقي العفيف.

21/ 9/ 2019

روما