من ألف باء البحث العلمي في الدراسات الانسانية

لست هنا في موضع التطرق لمناهج البحث العلمي وهي واسعة وتحتاج قراءة مستقلة، أنا هنا فقط أشير إلى جانب من طبيعة البحث العلمي، إلى صورة عن روحه مهما اختلفت المناهج.

لكي تقيم شخصية تاريخية لابد من أن تقيمها وفق معيارها الزمني، وفق متبنياتها الشخصية ذاتها، ومدى التزام تلك الشخصية بما تبنته من قيم، أن تقارن بين الفعل الحقيقي وبين القيم المعنوية، عند تلك اللحظة تطلق حكما تحرص على أن تكون نسبيا فيه، بلغة غير حدية، قابلة للنقاش والمراجعة والتراجع، وتحرص على أن تقول أن هذا رأيي الشخصي واستقرائي، وتحرص على أن تؤسس حكمك الأساس على المعيار الزمني الذي عاشت فيه تلك الشخصية، وتقرر هل التزمت بمعاييرها أم لا، وهنا تقرر ما إذا كانت تلك الشخصية قد التزمت بمعيار القيم التي تبنتها في سياقها الزمني لا بمعيار القيم الحالية التي تتبناها أنت، وأن تحاكمها بمعيارها لا بمعيارك المتخيل.

وفي كل هذا لابد أن تفهم أن اللغة البحثية في الدراسات الإنسانية بالمطلق لغة نسبية، لغة غير حدية، لا تستخدم ألفاظا قد تفقد المادة البحثية حياديتها ولابد أن تعرف أيضا أنه لكي تطلق حكما تاريخياً له قيمة فلابد أن تكون مدخلاتك البحثية واسعة ووافية، مصادر، وقائع تاريخية خضعت للتدقيق والبحث وفحص المصداقية عبر الشك ومنهج الجدل.

مثال: هل لاحظت جنابك بأنه حتى الدراسات الغربية تقسم تاريخ الحكومات الإسلامية إلى مراحل، تختلف كل مرحلة بمعاييرها؟ إذا كنت قد لاحظت ذلك فسأعطيك سببا واحداً لهذا التمييز بين المراحل، وهو تبدل مفهوم رأس الأمة، فبعد وفاة الرسول، وحتى مقتل الإمام علي، كانت الدولة مؤسسة على مبدأ (الإمام) وهو أفقه القوم وأعلمهم بالدين والدنيا، مما يعني أنك لتقيم حاكما في تلك الفترة فلابد أن تقيمه بالتزامه بالدين، وليس بمعيارك الحاضر لما تعنيه الدولة، هنا أنت تتفحص مدى التزام مسلمي الصدر الأول بالمثالية الإسلامية، وهو التزام يختلف بين الخلفاء الأربعة ذاتهم، كل بطبيعته الشخصية.

ثم بعد قيام الحكم الأموي يبدأ منهج جديد للحكم لا يتطابق بمقدار قيد أنملة مع فكرة مسلمي الصدر الأول عن القائد أو رأس الدولة لو شئت، لأنه لم يكن فقيها، ولم يكن أصلح الناس، وتحولت الرياسة إلى وراثة، بل أن اتباع الأمويين يعدون من مفاخر مؤسس الدولة الأموية أنه أول ملوك الإسلام، هنا جانبك لا يحق لك ان تقول فلان أنجح في حكمه من فلان، لسبب بسيط، الفلانين ذاتهما ينطلقان من موقف مختلف تماما، ومن نظام حكم مختلف تماما، وقيم مؤسسة مختلفة تماما، ولا يصح أن تقارن لتقيم من الأفضل، انت تقارن هنا لترى من الأكثر التزاما بمنهجه تحاكمه بالتزامه الشخصي ومدى تأثير التزامه الشخصي هذا على ما تفترضه أنت نجاحا، وما قد يفترضه غيرك فشلا، المقارنة هنا بين (النجاح والفشل) غير دقيقة، لأن (صورة النجاح) تختلف عند من وجدته “فاشلاً” وإنك إذا اطلقت حكما خاطئا، بمعيار خاطئ فإن النتيجة هي رد فعل عكسي قد يهدم ولا يبني.

مثال ثاني: حول الكلمات التي تُفقد تحليلك حياده وقيمته، انظر مصطلح (ميليشيا)، بالرغم من أن هذا المصطلح محايد في اللغة الانجليزية والذي لا يتضمن موقفا مسبقا من الموصوف به، إلا ان الاستهلاك الإعلامي العربي له بطريقة تنطوي على موقف سياسي مسبق قد أفقدته حياده وخلخلت قيمته الأكاديمية، لأن الخطاب الأيديولوجي الذي أسبغ صفة سلبية مسبقة على المصطلح جعله بهذه الكيفية غير صالح للاستخدام الأكاديمي الذي يفترض التجرد بالمصطلح، فكيف يمكن أن يتحقق التجرد عبر استخدام مصطلح دلالته لم تعد متجردة في اللسان العربي؟ على هذا أميل دوماً إلى استخدام مصطلح (فصائل غير نظامية) الذي يؤدي ذات المعنى بتجرد, ينظر:

International Encyclopedia of the Social Sciences, William A. Darity Jr. editor in chief (New york: Macmillan reference, 2008) vol5 ,P163

 

 

 

 

انزياح الدين لصالح الفلسفة

الملحدون الجدد ومثقفو الفيسبوك يتصورون ان الحضارة الأوربية متقدمة لتجردها عن الدين وحسب، ما لا يدركه الجماعة ان الغربيين لم يحلوا الفراغ مكان الدين، الفراغ الذي يعيشه (الجماعة) إياهم، فالدين، بما يسوقه من أسئلة، وإجابات، وما يقدمه من قاعدة فكرية يحوج معتنقه إذا ما انزاح إلى منظومة فكرية تحل بديلا له، الحضارة الغربية انغمست بالفلسفة، وانتقلت شعوبها من الدين إلى الفلسفة، التي أسست للمواطنة والدولة المدنية، وحينما اضمحلت الروادع الدينية كانت الدولة المدنية، والمواطنة، والقوانين القوية قد هيمنت على الفرد الأوربي، وصارت أسلوب حياة له، جنبا إلى جنب احترام العقائد الفردية للآخرين، وعدم السخرية من متبنياتهم المعرفية والدينية، لتقوم العلاقة بين أفراد المجتمع على أساس احترام الحريات الفردية، وصيانة الحقوق، والتساوي أمام القانون.
(ربعنا) يحسبون انك لكي تصبح متطور كالغرب فما عليك إلا أن تصير ملحدا، وان تبدأ يوميا بسب عقائد الناس حقا كان سبك أم باطلا، ليتماهوا مع المتطرفين الدينين بالإقصاء للآخر المختلف، فهم ــ كالعادة الأثيرة لدى الشعوب المتخلفة والمهزومة ــ فهموا الأمر بالمقلوب.
أكبر مشاكلنا الحاضرة اليوم هي مشاكل دينية، مشاكل خاضعة لتفسير النصوص، والتموضع في خنادقنا التاريخية، وفي النصوص الدينية نفسها تكمن الحلول، فنحن بحاجة إلى تسوية، إلى صيغة توفيقية للتعايش، وليس إلى زيادة الطين بلة بالهراء السطحي.