الأسماك الطائرة

 

رأيت فيما يرى النائم ما يرد ذكره لك، أمور مما يخطر على روح المستغرق في السبات، هواجس تتشكل بهيئة بشر، حيث تنعدم الحدود، ولا يظل بين الزمان والمكان فاصل، ويتوحد الكل في جزء واحد.

حسنا، بدأ الحلم بوجداني نفسي في حديقة عامة، رتب فيها موضع كمنصة لبرنامج تلفزيوني، جلست مذيعة جميلة في الوسط، استضافت جميلة أخرى هي الممثلة صبا مبارك، وداعيك معهما كلا الفتاتين وضعتا الكثير من الكحل على رموشهما، والكثير من الظلال أيضا، وفي بعض مشاهد الحلم الملتبس هذا تشابه وجهيهما حتى صرتُ ، أنا، النائم الضيف، في هذا البرنامج الحلم، صرت لا استبين الفرق بينهما.

على أي حال، يبدو أن السيدة المذيعة استضافتني لأن لدي خبرة ما في الفن ـ أي والله ـ وأرادت أن تستعين بي لإدارة حوار مثمر مع ممثلة جميلة ومثقفة مثل صبا مبارك، ذات اللسان الحاد اللبق، ولكن السيدة المذيعة بدأت حلقتها بتقديم نفسها، لا بتقديم ضيفتها، تحدثت عن مسيرتها المهنية، وكيف تنقلت بنجاح حتى أصبحت مذيعة معروفة كما هي اليوم، لتربط ثرثرتها آخر الأمر بضيفتها الجميلة، لتقول ان ضيفتي الفنانة صبا مبارك تذكرني بمسيرتي هذه، رغم انها بذات عمرها الوارف!

خلال هذا التقديم غير اللبق، كانت صبا ترمق المذيعة بنصف ابتسامة، بنصف استدارة من وجهها، نظرة فيها رثاء وازدراء، وحين سمحت لها المذيعة بالكلام قالت اشكرك على تقديم نفسك، ومقارنة مسيرتي بمسيرتك، لن اناقش هذا معك لكن تنحي قليلا لأنك تحجبين الكاميرا عني.

ولكي اوضح سبب طلبها هذا، لابد أن اذكركم بأن هذا حلم، وأنني كنت مشارك وشاهد فيه، لهذا، بدا أن الكاميرا هي بذاتها عيني، إذ إننا كنا نجلس ثلاثتنا على مقعد هو نصف إطار دائرة، أنا على شمال المذيعة، وصبا على يمينها، أرفع نظري إلى الجميلتين جنبي، بدا وكأن مجلسي وصبا اوطأ من مجلس المذيعة على المنصة، لهذا، كان جسد المذيعة، وصدرها يعترض مسار رؤيتي، عيناي اللتان كانتا الكاميرا الموجهة نحو صبا في هذا الحلم اللقاء الغريب.

على أي حال، بدأ اللقاء، ويبدو أنني كنت محاور جيد، فاستفزت المذيعة مني وقاطعتني وقالت: من الجيد أنني دعوتك إلى البرنامج.

على أي حال، خلال الاستراحة، كانت صبا تتكئ على حاجز خشبي يفصلنا عن الحديقة المجاورة، ترتدي ثوبا أحمرا مطعم بالـﭙُـلك (الترتر) الفضي اللامع، وشعرها الأسود ينسدل على كتفيها وظهرها، وكانت الظلال قد اختفت عن جفونها واقتصرت على كحل بهي، الثوب كان حريريا ناعما، وهنا لك أن تسألني كيف عرفت أنه من الحرير الناعم؟

حسنا، لقد سرت نحوها وبدا لي أنها (زعلانة) من هذا اللقاء، اقتربت منها، قرصتها من بطنها، أي وداعتك بجرأة لم يخطر على بالي ان امتلكها ولا في الاحلام، قلت لها: هل تعلمين، لي صديق إذا عرف أن أصابعي لامست بطنك فسيقبل يدي نصف نهار، ضحكت بجذل من صنيعي وروايتي عن صديقي ذاك، واتكأت براحة الذي يعرف قدره على السياج منتشية تماما، وبدأتُ أغني لها (من تزعل)، وهي مستمتعة، ثم فجأة، استدارت وامسكت رجل اجتازنا من يده، وقالت تعال اسمع، الرجل كان قد مر بنا دون أن انتبه له، جاء من خلف ظهري بينما شاهدته هي، حين استدار فوجئت بأنه المرحوم رياض احمد! أي والله.

كان يرتدي ملابس بسيطة، قميص مخطط، وبنطلون لم استبن لونه لأنه كان مغطى بصدرية طويلة من التي تستخدم في المطابخ، ارتداها رياض، كأنه يعمل (ﭽـايـﭽـي) أو طباخ في هذا الحلم السوريالي، بالاضافة إلى كونه مطرب عظيم.

قالت له، بطريقة بدت وكأنها جزء من حوار سبق أن خاضته معه: تعال اسمع، هذا دليل على أنني استحق الاغنية، هنا، ورغم انني تضايقت من دخوله المفاجئ لكنني انخرطت معه بحديث عميق أنساني الجميلة الواقفة بجنبي، التي طربت لأن (من تزعل) جاءت على مقاسها الباذخ، ولأن صديقي سيقهر من قرصي بطنها.

سألتُه، أليست الأغنية من شعر داود الغنام ـ سؤالي خطأ لأن الأغنية من شعر جواد حسن ـ فقال لا، هي من شعر ابن مدينتك حسن الكافوري! وهنا كان أيضا رحمه الله مخطئا، أو أنني أنا المخطئ؟

على أي حال، تبين أنني اعرف الكافوري المزعوم هذا، في الحلم طبعا، قلت: نعم، هو من أسرة معروفة، قال لي رياض: كانت أمور الكافوري ممتازة، لكن (حظه طاح) بعد أن أهان طيار قتيل عقب ان غسله بالكافور في الثمانينات ـ تبين فيما بعد أنه دس اصبعه في مؤخرة الطيار المعني ـ وعند تلك اللحظة، تحول مشهد الحلم إلى داخل مطبخ كبير، فيه منضدة طويلة كدست عليها الأسماك.

كان رياض، أو الكافوري، لم أعد أعرف فعلا، يمسك بيده سكينا، يشق الأسماك الميتة ويرميها في الجو، لاحقت طيران السمكة ـ هل للأمر علاقة بالطيار المهان القتيل؟ سمكة ميتة تطير!؟ ـ وأنا ألاحق السمكة الميتة في تحليقها، اتبعها ببصري في السماء، تحول المشهد إلى مرآب النقل الداخلي القديم في النجف، المكتظ بباصات المرسيدس التي نسميها في العراق 18 راكب، وباصات (OM)، كانت هناك جزرات وسطية تفصل بين موقف وآخر تغطيها سقائف كونكريتية رفيعة لا تقي من الشمس ولا من المطر، لكل حي موقف.

على إحدى الجزرات، كانت الأسماك تتكوم قرب واحدة من السقائف، نازلة من السماء عقب رمية الكافوري ـ أو لعله رياض كما أسلفت ـ هناك، كان يقف شخص لم اتبين ملامحه، يحمل السمكة، يغسلها من سبيل ماء نصب هناك، السبيل هو مجمدة عاطلة تم تحويل وظيفتها إلى سبيل مياه بإضافة حنفيات مياه إليها، ثم يرصف الاسماك على صينية بشكل دائري يشبه تراصف الكرب في جذع النخلة، التفت إلي حين انتبه لتحديقي فيه، وقال، هذا سمك مجمد وليس ميت، أنا ضحكت بداخلي وقلت (خوش عليك).

عدت إلى المطبخ إياه، كنت أبحث عن اللقاء، وصبا، ورياض، ولكنني لم أجد شيء، محض يباب، لاستيقظ، وأجد نفسي غارق في عرقي، وفي الكثير من الأمنيات التي تطير، وتباع على أنها سمك مجمد.

 

 

مباحث فراتية في الجغرافية والتاريخ والآثار (الجزء الأول)

مباحث فراتية في الجغرافية والتاريخ والآثار (الجزء الأول)

تأليف السيد فيصل غازي الميالي

طبع هذا الكتاب في النجف عام 2009، بنسخ قليلة، وتفضل نجل المرحوم المؤلف بإعارتي نسخته الشخصية لأقرأه، وأخبرني أنه يعتزم إعادة طباعته مع الجزء الثاني سوية.

الكتاب مبهر، فالمؤلف عارف بالفرات الأوسط بشكل استثنائي، وهو إذ يحاكي يعقوب سركيس في كتابه مباحث عراقية، فإنه يتميز بدوره بوفرة كبيرة من المعلومات، مع تحليل مركز على بعض القضايا التاريخية والعشائرية والآثارية التي يتميز المؤلف بسعة اطلاعه عليها.

فقد أتاح له عمله في مديرية الإصلاح الزراعي وفي لجان تنفيذ قانون الإصلاح فضلا عن سكرتارية المجلس الزراعي للواء الديوانية لمدة طويلة أن يكون على اطلاع تام بالنزاعات العشائرية حول الأراضي وحدودها ومن يسكن فيها، فضلا عن تضلعه في التنقيبات الآثارية في الفرات الأوسط ومعرفته بمعالمه الآثارية.

والكنز الحقيقي في هذا الكتاب لا يكمن في إحالاته الكثيرة إلى الكتب المختصة، وإن كان له فضل كبير في تعريف القارئ بهذه المصادر التي صار بعضها نادر ومفقود، خصوصا المخطوط منها، ولكن فضله الكبير يتعلق بشكل أبرز بما دونه من معلومات شفاهية عن ألسنة المعمرين، وشيوخ العشائر، ومن شهد العديد من الوقائع التاريخية في العراق من بين كبار السن، فضلا عن تحليلاته المهمة حول بعض الأماكن الأثرية في الفرات الأوسط.

الكتاب كنز من المعلومات عن الفرات الأوسط، وفيه توضيح للعديد من الالتباسات والمغالطات التاريخية بشأن الرجال والأمكنة، وإني لألتمس اسرته الكريمة بالتعجيل بطبعه مرة ثانية مع الجزء الثاني من الكتاب، فالكتاب جدير بأن يكون بين يدي الباحثين في تاريخ الفرات، خصوصا في الحقب المضطربة من تاريخه.

تضمن الكتاب مجموعة من المباحث، يربط فيما بينها الفرات الأوسط، تاريخا وتراثا، وجاءت مباحثه في 27 مبحث، منها مبحث ضم فصلا من رحلة ج. فلانتان كيري، أحد أعضاء الحملة البابلية التي وجهتها جامعة بنسلفانيا عام 1895، تكفل المؤلف بترجمته على نفقته من الرحلة التي لم يتم ترجمتها، ومبحث آخر ضم تحقيق تاريخي مهم عن تل الزجرية وتل ابن الزجرية الأثريين وعلاقة الموقعين بابن زكرويه، فضلا عن توثيق مهم لعدد من انتفاضات الفرات الأوسط، وطبيعة سلوك الشيوخ خلالها، ومبحث في غاية الأهمية عن تحولات مجاري نهر الفرات وما تبعها من مشاكل وتغيرات ديمغرافية.

أكرر هنا رجائي من أسرته الكريمة بالتعجيل بإعادة طباعة الكتاب.

بلا عنوان

لو بعث الكليم، فإن جولة واحدة في أي شارع تكثر فيه عيادات الاطباء في العراق كافية لأن تدفعه لتكرار فعلته القديمة، لقتل دون تردد، ولرفع صوته بالاحتجاج الصاخب كعادته، فصاحبه العبد الصالح يتجول هنا ملوحا بعصا حكمة غامضة، حتى هو لا يعرف معناها، يطيح بالفقراء ذات القتال وذات المرض، عصاه تقتل وتهدم وتبني وتخرق، دون أن يستطيع تقديم عذر دقيق، فلا  المساكين عادوا يمتلكون سفينتهم، ولا عاد الملك يهتم بالسفن، والأبناء الصالحين يقتلون أو يهاجرون أو يلتقمهم البحر خلال المحاولة، الجدران تتهدم ولا كنوز تحتها، بل تبدت عن قبور قديمة رطبة محملة بأعباء التاريخ، ولا يبقى بيد الامهات سوى أبناء سيئين وذكريات موجعة، يجلسن في عيادات الاطباء بمفردهن، يحسبن قبور الأبناء في وادي السلام، وما تبقى من نقود “الدفنة*” التي تتناقص كلما أخذهن الخبب إلى الطبيب، يحدقن في فراغ يمتد إلى مضاجع الأحبة، ويتمتمن بلغة خفيضة فقرات من “زيارة وارث” ويهمسن: خذ حتى ترضى.

بلا نحو بلا وجع راس

* لغير العراقيين، ” الدفنة” هي النقود التي تجمعها العراقية لتجهيزها للدفن حين تغادر هذه الأرض الموجعة لترقد جنب أحبتها.