أرشيفات التصنيف: أدب

الفسنجون، أكلة بروح امرأة

قبل البدء

يجيد الرجال صنع الأشياء في أكثر الأحيان أفضل من النساء، لكنهم لا يستطيعون أن يحبوا تلك الأشياء الجيدة، أو أن يتركوا فيها شيئا من ذواتهم، كما تفعل النساء مع الأشياء اللاتي يُجدن صناعتها.

أيضا قبل البدء

تصنع أمةٌ ما شيئا، لنقل نوع من الطعام، فتأخذه أمة أخرى، وتجوّده، وتحسنه، وتمنحه روحا جديدة ومذاقا أكثر حبا ودفئا، مثل الفسنجون، الذي صنعه الإيرانيون، وجوّده النجفيون غاية التجويد.

ما عرفت أكلاً يتطلب وقتا طويلا ومهارات خاصة، وكلف باهضة، مثل الفسنجون في النجف، تعمد المرأة إلى إعداده فتطلب حب الرمان المجفف ـ وتستصغر قدر من تشتري ماء الحب الجاهز لطبختها ـ والراشي – عصير السمسم ـ من أجوده، والجوز، وتفضل لحم البط لما فيه من دهن، ومستلزمات أخرى غالية الثمن لا أكاد استحضرها اليوم.

ثم تنفق ساعات طوال في غلي حب الرمان، وعصره في كيس من الخام، وساعات أخرى في مزج المكونات بدقة وخبرة، بعين لا تخطئ، ولا تستخدم الميزان لإضافة المكونات.

وتراقب المرأة القدر لساعات أخرى، كأنها تراقب رضيعها، تشمه، تتذوقه، تحرص على تشكله في قوام معين ، بعض النساء النجفيات يخزنَّ بذور الرقي – البطيخ بلهجة غير العراقيين ـ فتقليه بدون دهن، وتطحنه ناعما، وتضيفه حتى يصل القوام لحد ترتضيه.

لا تكاد المرأة تبارح مطبخها حين تعده، ينتهي يوم كامل في طبخ هذا الطعام الذي لا يعرفه غير أهله، ولا يقدره غير بنو المدينة التي تجيد طبخه، وآخرون ممن يفدون على أهلها، أكلة الملوك، هكذا يسمونها.

أجد البعض يذكر أن فلانا من الرجال يجيد طبخه في المطعم الفلاني، فلا أصدق قولهم، ولا أرغب حتى بإقامة دليل عليه، لأن لي في هذا النوع من الأكل رأي أزعمه.

إني أرى أن هذه الأكلة مما تختص بصنعه النساء فحسب، لأنها تحتاج رعاية كتلك التي تمنحها الأم لطفلها، ولا يجيد الرجل تلك الرعاية مهما بالغ، يعرف الطفل أمه من رائحتها، وتعرفه منها، ولا يكاد الرجل يستطيع أن يتحمل بكاء الرضيع ساعة، في حين تسهر أمه معه ليالي طوال، حتى تبكي معه عاجزة عن فهم ما يريد، فيتبسم في وجهها، لتنسى ألم السهر، ووجع الليل كله، فتضحك ملئ روحها جذلا بالمبتسم الباكي بين ذراعيها.

للفسنجون روح امرأة، بذلت وقتا في إعداده لأسرتها بحب، راقبته يتشكل ويأخذ قوامه المتين ساعة تلو ساعة، حتى نضج، كما ينضج الطفل عقب سنوات تربيته، تقوم المرأة النجفية عليه كما الطفل، شدة حيث ينبغي، ولطف حيث يستحق، ورعاية دائمة وعين لا تغفل عن المراقبة، حتى تضع فيه من روحها شيئا، فيتجلى بلونه البني الغامق، ورائحته المميزة، تضعه على المائدة وتراقب قسمات وجوه المستحسنين، كأنهم يقولون لها أحسنت التربية، أو أحسنت الطبخ.

للفسنجون روح امرأة، ولا يجيد الرجل بث روحه فيه بحب، كما تفعل النساء، لهذا أقول للسائلين عنه من غير أهل المدينة الصلبة الغريبة المزاج، لا تتعبوا أنفسكم في طلبه عند أهل المطاعم، هذا أكل تطبخه النساء، في البيوت، لتكون له رائحة البيت، ومحبته الوالدة، وعاطفة المرأة، ورقة الفتاة الناهد، إنه طفل يحتاج لأسرة تحتضنه، لأم تناغيه وتسهر عليه، وليس لأب متجهم يقيس كل شيء بالمسطرة، للفسنجون روح امرأة، لا يصلح بدونها، ولا يستقيم.

هذه أكلة لا تتعلمها المرأة من اليوتيوب، إنها مهارة تكتسبها من أمها، كما تكتسب طباعها وسجيتها في الحياة، هذه أكلة حسيّة لا يحسن العقل صنعتها، إنها تعتمد العاطفة، الحب في موازنة مكوناتها وتشكيل كينونتها، إنها روح لا تنضج بدون حب خالص لا تشوبه خشونة الرجال وغلظتهم، للفسنجون روح امرأة، لا يصلح بدونها ولا يستقيم.

كراون الصغيرة تكبر

علي عبد الهادي المعموري

طلبت أن يفتحوا نافذة السيارة، انسلت نسائم نيسان بنعومة إلى المقعد الخلفي، حيث اتمدد.

أشعر بملمس الهواء يتبدل على وجهي رويدا، لم أعرف مثل هذه النعومة من قبل، هل احتضر؟ كنت أظن أن كل شيء يقسو على المحتضر، وأن روحه تتلوى في عروقه وهي تبارح بدنه، ولكن راحة رطبة تتمشى في عروقي الآن، هل السبب يعود لهذه الناعمة التي تنساب على الطريق؟

أتذكر ذلك اليوم، قبل ثلاث وثلاثين، أقود سيارتي الكراون 1975 بأسرع ما استطيع، على المقعد الخلفي تمدد أبي، لم يكن لديه أولاد وأحفاد مثلي، كنتُ مملكته الوحيدة وسنده الأوحد، استمع الآن إلى أصوات أولادي، وأحفادي يتلونهم خلفي، بينما لم يسمع أبي سوى عواء الكلاب المنذر بالرحيل تلك الليلة، والطريق يخضه خض القربة اللبن.

أتذكر أني استلمت تلك السيارة من المؤسسة، قبل يوم، ووعدته بأن آخذه في جولة تمتد إلى كربلاء والكاظمية وسامراء، ولكنني أخذته إلى المستشفى، واستلمته منهم في الصباح، وضعته هذه المرة في صندوق على سقف سيارتي، السيارة التي شاطرتني حزني، ورضيت بأن اطفئها، لأركنها في مزرعتي، وأشتري شقيقة لها بعد عام، في سنة صناعتها، كيف أبيع السيارة التي توفي أبي على مقعدها الخلفي؟

سيارتي الكراون الثانية موديل 1976 شهدت زفافي، وما أن أوشك العام على المضي في سبيله إلا وركنتها ـ شاهدة على تقدمي ـ جنب أختها.

السيارة الثالثة احتضنت بزوغ حياة بعد أن شهدت أختها الكبيرة أفول حياة أخرى، على المقعد الخلفي أيضا، وبين يدي والدتي، ولدت زوجتي أبني الأول، مفخرتي الكبيرة، وحين انتهت السنة ركنت السيارة جنب أختيها، يشهدن على موتي وولادتي المتجددة.

الأشياء التي تكسبها بيسر تخسرها بسهولة…

هكذا كانت زوجتي تقول، مدرسة اللغة الانجليزية، ترددها على مسمعي، تخبرني أن ما جمعته بالتعب الحلال قمين بأن أحرص عليه كما أفعل، أفكر في هذه اللحظات، كيف رضيت تلك الجميلة بي؟ أنا الذي كنت أفك الخط، كيف حولت البنت الجامعية تلك شبه الأمي الذي كنته إلى الرجل الذي تقوم له المجالس حين يدخل؟ ويقصد الباحثون مكتبته العامرة؟

– أسمعني أيها الوسيم، لا أريد أن أموت في إحدى سياراتك، هذه الأشياء الجميلة لا تصلح للموت، تذكرني وأنت تقود السيارة التي زفتني إلى بيتك، لا أعرف سرك مع هذه السيارات، لكنك تتمرأى فيها، تولد وتموت وتولد وتتجدد، كأننا كلنا عابرون في حياتك وهي من توثق يومك الوليد ويومك الغارب.

وما خالفت الجميلة الصواب، كل سيارة جديدة، اشتريتها مطلع كل عام من عراكي والحياة، شهدت يوما استثنائيا في حياتي، كنت أقف أمامهن وامنح كل واحدة اسماً، اسم يرتبط بما شهدته، سيارة “الزفة”، “أم الولد”، “أم البنت” التي ـ مرة أخرى ـ  ولدت فيها ابنتي الوحيدة بين 6 ذكور، قرة عيني، “الخريج” و”الخريجة” اللتان شهدت أولاهما تخرج ابني الكبير من كلية الطب، والثانية تخرج ابنتي من كلية اللغات، “الدكتورة” التي زففت بها ولدي يوم ناقش الدكتوراه، وتنهمر الأسماء في ذاكرتي، واحد تلو آخر.

كنت أقول لنفسي كلما ركنت واحدة واشتريت أختها، يا ولد: هذه البنت شهدت حدثا استثنائيا، شهدت واقعة لا تشارك، فاحفظ لها فرادتها، ما قيمة النقود يا فتى أمام تلك اللحظات التي خلبت لبك؟

طالما توقفت اسائل نفسي، كيف لي أن أحب جمادا بهذه الطريقة؟

أذكر أن واحدا من الذين طالما أسبغت عليهم الفضل قال ـ وهو لا يدري بجلوسي خلفه ـ أن سر اهتمامي بسياراتي وحدبي على كل واحدة منهن لأنهن يُعلنَّ ما أنا فيه من نعمة، لا البيت الكبير، ولا العمل المزدهر، ولا الأولاد المباركين، كلهم لا يعلنون ثروتي كما تفعل هذه السيارة، بنسخها التي ارصفها في ظل ظليل، يكبر كل عام، وتكبر “كراون” التي كانت صغيرة معه، تخبر الناس بما أرفل فيه.

لم يدركوا أنني لا أعدها بمثابة علامة الغنى، بل هي حلقات متصلة ببعضها، مثل سلسلة مترابطة، تؤرخ أولها محطة بدئي حياتي، قبلها كانت سرابا، كنت أطفو ولا أرض أنشب قدماي فيها، كانت إيذانا ببدئي العيش، والموت، ومدي لجذري في هذه الأرض.

ولكنها لم تكن على الدوام لغيري كما كانت لي، أبان الحرب في الثمانينات، كانت نذيرٌ يخشى دخوله أي حي، تحمل على سقفها نعشا ملفوف بالعلم، تتخطى الأبواب واحداً تلو آخر، حتى تقف أمام دار بعينها، لتخرج أم هذا المسجى على سقف الفارهة، تتلمس العلم، تتشبث بالسيارة وتهزها كأنها تهز مهد طفولته، وعيناها تحومان على مستقبل كان واسع المدى، ثم أفل.

لهذه الفسيحة من الطبيعة اثنتان، تطوي بالموت وتنشر بالحياة، تنقل في جوفها العرائس إلى غرف مفروشة ببياض ناصع، معلنة امتداد الحياة الازلي، يضم جوفها الحياة كأنها رحم مترع بالأمل، وتحمل على كتفها الاجساد الملفوفة بالبياض، في آخر رحلة للرفاهية ـ كما احسبها توشك أن تفعل معي الآن ـ وإن كانت تحملني حانية بين ضلوعها.

صحبة تلك النسائم، أنصت لصوت يتدفق نحو روحي، يشبه جريان النهر، صوت المياه وهي تداعب أقدام ابني البكر في طفولته، لينطلق ضاحكا من نعومتها، كانت دجلة تسير بصفاء في تلك المنطقة المعلقة على جبال السليمانية يوم قدت سيارتي نحوها، صحبة أهلي، شوينا السمك، واكلنا كباب السليمانية، قبل أن التقط تلك الصورة عند متن النهر، تجلس أمي على المقعد الأمامي، تدلي برجليها إلى الخارج عبر الباب المفتوح، يدها تقبض على ساق ابني الجالس على سقف السيارة، مدليا ساقيه نحو جدته، تقبض أمي على رجله كأنها تقبض باب رجاء مستقبلها، وكل آمال حاضرها وماضيها، وزوجتي تحمل ابني الثاني قربها، وأنها معهم، وبيني وبينهم الباب الأمامي المشرع.

هل كانت سيارتي الخامسة؟

نعم الخامسة هي التي اسميتها السندباد، كانت أول مرة اطوف بها البلاد وأهلي، سافرت بهم إلى الشمال والجنوب، عبرت بها الحدود، يا لتلك الليالي قبيل الحرب، الحرب التي سلمتني إلى السادسة، أم الشهداء، تلك التي حملت على ظهرها ـ تباعا ـ ثلاثة من ابناء عمي، ملتفين بالعلم والدم، وهي الوحيدة التي طليتها باللون الأسود، وتربض مكللة بغطاء مطرز بالورد، تقف شامخة بين الجميع.

كنت كلما أضفت لها طرازا جديدا، أقف لأعدها بانتشاء طفل يحسب عيديته من الدنانير، يسمع رنينها وهي ترتطم في جيبه، يتحسسها بجذل، كنت اتلمسهن واحدة تلو اخرى، كأنني اضع يدي على رأس طفلتي، اتطلع لتلك السيارة الأولى، ثم تمر عيناي على الصف، أراقب كيف كبرت صغيرتي تلك، واشتد عودها، وزادت متانتها وصفاتها، مثل كائن حي ينمو، صغيرتي كراون التي كبرت.

كانت السيارة تخب بسرعة وثبات كعهدي بها، التقطت أذناي النغمات التي يصنعها مرورنا بأعمدة الكهرباء تباعا، حفيف رقيق يصطنعه الهواء المار بينها وبين نافذتي، ينهمر منها ضوء خافت ـ أو لعلها عيناي التي تحسبه خافتا؟ ـ  بدأت أعدها، واحدا تلو آخر، واحد اثنين ثلاثة… ثم اختفت الأعمدة من ذهني، وقفز محلها  صف طويل من طرز سيارة تويوتا (كراون) يمتد لثلاثين عام من عمري، طويل حد التلاشي.

الصورة: تفصيلة من بيت نجفي، وجدتها في مجموعة حفظ التراث النجفي

جعيفران الموسوس

كان صوت الفرات – يخب مسرعا نحو الأفئدة التي تنتظره – النسيم الذي يحدثه جريانه؛ يدفعانه بإحكام صوب دجلة، بمائها المنساب رويدا
فكانت بغداد، التي تملئ فم الأديب بالذهب ـ أو هكذا قيل له ـ
كان يتطلع الى حياة تليق بشاعر
ينفق عن سعة
ويسكن في رحب
ويأكل كما يحب
تصب في اذنه الموسيقى وضحكات “الكرخيات”
وردها معدم لا ميراث بجيبه
ولا وجيه يحميه
عرف المدينة بقدميه
جالها طولا وعرضا
لمس كبريائها وجمالها وخيباتها ووجعها
المدينة التي حلم بأن يعيش حرا فيها
سلبته نفسه
ضربته حتى اثخنته
عصرته حتى يبس
واطفأت مصابيحه، كسرتها قنديلا فقنديلا حتى صارت العتمة فراشه وغطائه
وردها خالي الوفاض إلا من أمله
فاختضمته قصورها الفسيحة، وبيوتها الضيقة، حتى مات الغد في قلبه
وصار عقله رميما تدوسه الارجل وتدعكه دعكا
يغرق في وساوسه
يغيب في لحظات من الهلع بمفرده
ثم يثوب، ليهيم في الطرقات التي أوحشتها الحروب والحفر
فتتبعه همسات الكبار وضحكات الاطفال
تسخر من جعيفران الموسوس
وهو، المدقع
بأحلامه الخاسرة
وأماله الذاهبة مع أمواج دجلة واشرعة قواربها الغاربة، التي يتمناها الشعراء كفنا حين يأزف المغيب
يطفو على السخرية ولا يسمعها
جعفيران يتمتم، وهو يدور حول ذاته، وحيدا، منذ قرون وقرون:
طافَ بِهِ طَيفٌ مِنَ الوَسواسِ
نَفَّرَ عَنهُ لَذَّةَ النُعاسِ
فَما يُرى يَأنَسُ بِالأُناسِ
وَلا يَلَذُّ عِشرَةَ الجُلّاسِ
فَهوَ غَريبٌ بَينَ هذي الناسِ
الصورة: زقاق من بغداد التي شغفت جعفيران، وحطمته، كما هو شأنها، بعيني.
بغداد 8/ 2019

#جعيفران_الموسوس

الأسماك الطائرة

 

رأيت فيما يرى النائم ما يرد ذكره لك، أمور مما يخطر على روح المستغرق في السبات، هواجس تتشكل بهيئة بشر، حيث تنعدم الحدود، ولا يظل بين الزمان والمكان فاصل، ويتوحد الكل في جزء واحد.

حسنا، بدأ الحلم بوجداني نفسي في حديقة عامة، رتب فيها موضع كمنصة لبرنامج تلفزيوني، جلست مذيعة جميلة في الوسط، استضافت جميلة أخرى هي الممثلة صبا مبارك، وداعيك معهما كلا الفتاتين وضعتا الكثير من الكحل على رموشهما، والكثير من الظلال أيضا، وفي بعض مشاهد الحلم الملتبس هذا تشابه وجهيهما حتى صرتُ ، أنا، النائم الضيف، في هذا البرنامج الحلم، صرت لا استبين الفرق بينهما.

على أي حال، يبدو أن السيدة المذيعة استضافتني لأن لدي خبرة ما في الفن ـ أي والله ـ وأرادت أن تستعين بي لإدارة حوار مثمر مع ممثلة جميلة ومثقفة مثل صبا مبارك، ذات اللسان الحاد اللبق، ولكن السيدة المذيعة بدأت حلقتها بتقديم نفسها، لا بتقديم ضيفتها، تحدثت عن مسيرتها المهنية، وكيف تنقلت بنجاح حتى أصبحت مذيعة معروفة كما هي اليوم، لتربط ثرثرتها آخر الأمر بضيفتها الجميلة، لتقول ان ضيفتي الفنانة صبا مبارك تذكرني بمسيرتي هذه، رغم انها بذات عمرها الوارف!

خلال هذا التقديم غير اللبق، كانت صبا ترمق المذيعة بنصف ابتسامة، بنصف استدارة من وجهها، نظرة فيها رثاء وازدراء، وحين سمحت لها المذيعة بالكلام قالت اشكرك على تقديم نفسك، ومقارنة مسيرتي بمسيرتك، لن اناقش هذا معك لكن تنحي قليلا لأنك تحجبين الكاميرا عني.

ولكي اوضح سبب طلبها هذا، لابد أن اذكركم بأن هذا حلم، وأنني كنت مشارك وشاهد فيه، لهذا، بدا أن الكاميرا هي بذاتها عيني، إذ إننا كنا نجلس ثلاثتنا على مقعد هو نصف إطار دائرة، أنا على شمال المذيعة، وصبا على يمينها، أرفع نظري إلى الجميلتين جنبي، بدا وكأن مجلسي وصبا اوطأ من مجلس المذيعة على المنصة، لهذا، كان جسد المذيعة، وصدرها يعترض مسار رؤيتي، عيناي اللتان كانتا الكاميرا الموجهة نحو صبا في هذا الحلم اللقاء الغريب.

على أي حال، بدأ اللقاء، ويبدو أنني كنت محاور جيد، فاستفزت المذيعة مني وقاطعتني وقالت: من الجيد أنني دعوتك إلى البرنامج.

على أي حال، خلال الاستراحة، كانت صبا تتكئ على حاجز خشبي يفصلنا عن الحديقة المجاورة، ترتدي ثوبا أحمرا مطعم بالـﭙُـلك (الترتر) الفضي اللامع، وشعرها الأسود ينسدل على كتفيها وظهرها، وكانت الظلال قد اختفت عن جفونها واقتصرت على كحل بهي، الثوب كان حريريا ناعما، وهنا لك أن تسألني كيف عرفت أنه من الحرير الناعم؟

حسنا، لقد سرت نحوها وبدا لي أنها (زعلانة) من هذا اللقاء، اقتربت منها، قرصتها من بطنها، أي وداعتك بجرأة لم يخطر على بالي ان امتلكها ولا في الاحلام، قلت لها: هل تعلمين، لي صديق إذا عرف أن أصابعي لامست بطنك فسيقبل يدي نصف نهار، ضحكت بجذل من صنيعي وروايتي عن صديقي ذاك، واتكأت براحة الذي يعرف قدره على السياج منتشية تماما، وبدأتُ أغني لها (من تزعل)، وهي مستمتعة، ثم فجأة، استدارت وامسكت رجل اجتازنا من يده، وقالت تعال اسمع، الرجل كان قد مر بنا دون أن انتبه له، جاء من خلف ظهري بينما شاهدته هي، حين استدار فوجئت بأنه المرحوم رياض احمد! أي والله.

كان يرتدي ملابس بسيطة، قميص مخطط، وبنطلون لم استبن لونه لأنه كان مغطى بصدرية طويلة من التي تستخدم في المطابخ، ارتداها رياض، كأنه يعمل (ﭽـايـﭽـي) أو طباخ في هذا الحلم السوريالي، بالاضافة إلى كونه مطرب عظيم.

قالت له، بطريقة بدت وكأنها جزء من حوار سبق أن خاضته معه: تعال اسمع، هذا دليل على أنني استحق الاغنية، هنا، ورغم انني تضايقت من دخوله المفاجئ لكنني انخرطت معه بحديث عميق أنساني الجميلة الواقفة بجنبي، التي طربت لأن (من تزعل) جاءت على مقاسها الباذخ، ولأن صديقي سيقهر من قرصي بطنها.

سألتُه، أليست الأغنية من شعر داود الغنام ـ سؤالي خطأ لأن الأغنية من شعر جواد حسن ـ فقال لا، هي من شعر ابن مدينتك حسن الكافوري! وهنا كان أيضا رحمه الله مخطئا، أو أنني أنا المخطئ؟

على أي حال، تبين أنني اعرف الكافوري المزعوم هذا، في الحلم طبعا، قلت: نعم، هو من أسرة معروفة، قال لي رياض: كانت أمور الكافوري ممتازة، لكن (حظه طاح) بعد أن أهان طيار قتيل عقب ان غسله بالكافور في الثمانينات ـ تبين فيما بعد أنه دس اصبعه في مؤخرة الطيار المعني ـ وعند تلك اللحظة، تحول مشهد الحلم إلى داخل مطبخ كبير، فيه منضدة طويلة كدست عليها الأسماك.

كان رياض، أو الكافوري، لم أعد أعرف فعلا، يمسك بيده سكينا، يشق الأسماك الميتة ويرميها في الجو، لاحقت طيران السمكة ـ هل للأمر علاقة بالطيار المهان القتيل؟ سمكة ميتة تطير!؟ ـ وأنا ألاحق السمكة الميتة في تحليقها، اتبعها ببصري في السماء، تحول المشهد إلى مرآب النقل الداخلي القديم في النجف، المكتظ بباصات المرسيدس التي نسميها في العراق 18 راكب، وباصات (OM)، كانت هناك جزرات وسطية تفصل بين موقف وآخر تغطيها سقائف كونكريتية رفيعة لا تقي من الشمس ولا من المطر، لكل حي موقف.

على إحدى الجزرات، كانت الأسماك تتكوم قرب واحدة من السقائف، نازلة من السماء عقب رمية الكافوري ـ أو لعله رياض كما أسلفت ـ هناك، كان يقف شخص لم اتبين ملامحه، يحمل السمكة، يغسلها من سبيل ماء نصب هناك، السبيل هو مجمدة عاطلة تم تحويل وظيفتها إلى سبيل مياه بإضافة حنفيات مياه إليها، ثم يرصف الاسماك على صينية بشكل دائري يشبه تراصف الكرب في جذع النخلة، التفت إلي حين انتبه لتحديقي فيه، وقال، هذا سمك مجمد وليس ميت، أنا ضحكت بداخلي وقلت (خوش عليك).

عدت إلى المطبخ إياه، كنت أبحث عن اللقاء، وصبا، ورياض، ولكنني لم أجد شيء، محض يباب، لاستيقظ، وأجد نفسي غارق في عرقي، وفي الكثير من الأمنيات التي تطير، وتباع على أنها سمك مجمد.

 

 

خفارة

مررت عليه حوالي الساعة التاسعة، ولابد أن “خفارته” بدأت قبل هذا الوقت، أسند ظهره الى باب السائق من سيارته البيضاء الفخمة طراز كراون تيوتا من ذلك الموديل الذي يطلق عليه العراقيون اسم (راس الثور) ولا أعرف لماذا رأس الثور ولا أعرف سنة صناعتها، ولكنها سيارة فخمة كما ترون مثيلتها المحروسة في الصورة أدناه.
وكان قد صف السيارة على الشارع العام الفاصل بين المدينة القديمة والعمارة الجديدة، أمام مقبرة لآل الصائغ هناك، تسريحة شعره مثل أبطال السينما الهندية القدامى، غرة (ﮔـذلة) عالية متكاثفة على بعضها فاحمة السواد، وذيل من الشعر لا يقل عنها تكاثفا، ولكي تكتمل صورة البطل الهندي فإن شارباً مقوساً التف من أعلى الفم إلى أسفل جانبيه بدقة متناهية، دقة الشارب، وشدة حمرة وجه الرجل الذي قارب الأربعين يبينان لك أنه قضى وقتا طويلا جدا تحت يدي الحلاق.
ارتدى ملابس سوداء فاحمة، قميص بأزرار فضية لامعة أرخاه خارج بنطاله الأسود، ولم انتبه إذا كان يرتدي حذاءا أم نعلا ـ مكرم السامع ـ
ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة، مزيج من الهبل والمكر والرقة والعنف، ابتسامة لا معنى لها تقريبا، وقف هناك بدون تحرك، فقط رأسه كان يستدير مع ما تلاحقه عيناه من نساء خرجن بعد الافطار إلى الزيارة، يسكب عليهن طلاء كثيف من عينيه الصغيرتين ويلمع الطلاء بابتسامته تلك، يمينا ويساراً، والحقيقة ان ابتسامته تلك لا تشبه إلا ابتسامة شخص مخدر أو نصف مخمور، ولعله كان كذلك، حمرة وجهه الفاقعة تدل على هذا.
وحين عدت للمرور عليه حوالي الساعة الحادية عشرة والربع كان على موضعه لم يتزحزح، ولكنه رش طلائه الأبله هذه المرة على أربع من رجال الدين، سيدان بعمامتين سوداوين، وشيخان بعمامتين بيضاوين، يسيرون بالتتابع المعهود، السيدان في المقدمة، والشيخان خلفهما، يخبون جميعا بهمة، قذف المجموعة بذات الوجه، ولعل ابتسامته زادت قليلا وإن غطاها طرفي شاربه.
ما أن عبرت الجميع، اوقف احد الشيخين سيارة أجرة، ونادى السيدين ـ اعرفهما ـ أن وداعاً، ودلف مع رفيقه لها، وخلفهم مباشرة مر المبتسم بسيارته مغادرا خفارته الحمقاء تلك، كأنه كان ينتظر هذه المجموعة أن تمر، ليخرج من الولاية.

مما كتبته في 12/ 6/ 2016

بينما هي كذلك، لمرتضى ﮔزار

قرأت مجموعة مرتضى ﮔزار (بينما هي كذلك) التي صدرت العام الماضي، اشتريتها من شارع المتنبي الجمعة الفائت، قرأت نصفها تقريبا في الطريق من بغداد إلى النجف، وأكملت البقية في البيت، كانت سياحة مبهرة، وعودة إلى قراءة كتب الأدب بشغفي القديم، الكتب التي بارحتها منذ زمن، كتب الروايات والقصص تحديدا، وإلا فإنني لم اتوقف عن قراء الشعر.

السردُ الذي أراه سردا حقيقيا هو ذلك الذي يخلب لبي، الذي يسمرني في مكاني فلا استطيع تركه، اقرأ فاستغرق حتى أجد نفسي فجأة في منتصف الكتاب، كنتُ في يفاعتي قد طحنت عيون الأدب العالمي والعربي في الرواية والقص، ثم قطعني التخصص والكتابة الأكاديمية عن الروايات لسنوات، حتى قرأت رواية علي بدر (حارس التبغ) التي عثرت عليها صدفة، فتحت الصفحة الأولى، لأجد نفسي بعد ساعات في منتصفها، وهذا تحديدا ما حصل لي مع مجموعة مرتضى ﮔزار الأخيرة.

السرد بالنسبة لي ـ كقارئ ـ فعل لغوي، بقدر ما يتضمن من شخوص وحوادث وتداخل معرفي، لكنه يقدم لك أول الأمر بوصفه تميز في اللغة، السرد المكثف العميق هو دلالة الأدب الحقيقي، لهذا فشلتُ مثلا حين حاولت أن أقرأ بعض “الروايات” ـ وأؤكد هنا وضعها بين مزدوجين ـ التي اشتهرت في العراق لـ “كاتبات وكتاب” معينين، خواطر جمعت من الفيسبوك وأطلق عليها اسم روايات وشعر، وطبل لها المطبلون، وبينهم مثقفون كبار للأسف، أشهرها حاولتُ أن أكمل منها خمس صفحات فلم استطع، للغتها الساذجة وتعبيراتها الهشة.

على أي حال، ليس هذا موضوعي، لأنني أريد أن أكتب هنا عن هذه المجموعة المبهرة، (بينما هي كذلك)، وبينما أنا كذلك، أود أن أعرج على القصص التي لفتت نظري في المجموعة، هذه القصص تحديدا استوقفتني كثيرا، بالرغم مما تضمنته بقية القصص من بعد جمالي وعمق، لكن هذه القصص بالذات وجدتها مميزة عن غيرها، فأحببت أن أكتب عنها.

القصة الأولى في المجموعة (لا تسافر مع الفيل إلى شيكاغو) تحيلنا إلى رموز عديدة، الفيل الذي لا ينسى، والظل المتشبث بالأرض، الأرض التي تلاحقك حيث تفر منها، فتأخذ منك ظلك وتسمّرك عميقا، هناك، حيث جذرك، ثم تختلط الحقيقة بالخيال، وتتداخل الأمكنة حتى يفقد الإنسان معرفته بذاته، فيصير مغتربا بداخله، ويغدو ظله غريبا، وهو أشد غربة منه، هذه القصة أطول قصة في المجموعة، وأكثرها إرعابا لي على المستوى الشخصي، أن أصير ظلا مهاجرا.

قصته الثانية التي أبهرتني هي (قضية قبيلة أم عباس)، أنت هنا أمام مستويين من الرموز، يتشابكان، القنبلة التي تركت حفرة اتخذها العشاق مقرا للقاءاتهم، ثم صارت مزارا، الإحالة إلى الممارسة التي تبدأ مرفوضة من المجتمع، ثم تصير تابو مقدس، ومستوى آخر يتعلق بقبيلة ذاتها، التي اخترعت الكذبة وصدقتها، واستثمرت بها وجودها المالي، لتنتهي وقد يئست فأخذت تمارس الوِرْد الذي ابتكرته (للعلوية) المزعومة، كتبة ام البسامير ـ المسامير ـ، الحفرة التي امتلأت قبلا ولقاءات محمومة، ثم صارت مزارا بقدرة قبيلة، وهنا اشتبك لدي المعنى، هل يريد مرتضى أن يمزج بين (القيادة) ـ كما يقول الفقهاء ـ وبين التجارة الدينية؟ ولكني لا أظنه تعامل مع وقائع الحفرة قبل أن تغدو مزارا بوصفها تاريخ شائن، طيب في نقطة أخرى، يقول أن قبيلة تمارس طقس ضرب المسامير منذ عشرين عام، وهي خمسينية، ولكنه يتسائل في آخر القصة عن المعشوق الذي طرق باب قلب قبيلة آخر أيامها فملأت لأجله بيتها بالمسامير؟ مؤكدا أن قبيلة لم تفعل هذا في شبابها، أوليست الثلاثين ضمن الشباب، هذه القصة محيّرة جدا!

قبيلة نموذج للخاسر بمزاجه.

واحدة من أكثر القصص إيلاما لي هي قصته (فلان الفلاني)، عن الأرقام المهملة من البشر، الذين يمرون في الحياة جياع مدقعين فلا يعبأ بهم أحد، ولا يلقي لهم أحد بالا، ثم يحملون السلاح في قضية مقدسة لا يفهمون عنها شيئا، فيتحول فلان الفلاني، هذا المبني للمجهول إلى اسم على لافتة، ومعزين يتقاطرون، وبوليصة لتاجر دين آخر.

ولا تقل عنها ألما قصته (بيت الخوذة)، المحارب القتيل، الذي ترك بيته بلا باب ـ معنويا ـ، وأطفال يتخيلون وجوده، ويظنون الصفحات البيضاء في دفاترهم ممتلئة بالواجب البيتي، الواجب الذي يكتبونه مع أبيهم، أبيهم القتيل الذي تركهم وأمهم بلا باب يحميهم من بطش الناس، وغلظة الأيام.

(بيان اللقلق)، عن الانتظار العابث، عن ابتكار الوهم من أجل السعادة، الرسامة التي تزعم وجود لقلق على بيتها، لقلق يجلب الأطفال كما تذكر قصص الأطفال، ولكن لقلقها الوهمي هذا كان يجلب لدارها أطفال المحلة، الأطفال الذي حرمت منهم، فكانت ترسم وجوههم واحدا فواحد، حتى صارت رسومها علامات وجودهم.

قصته (ما ينبت في الكف) تدور حول ذات موضوع الفقدان، فقدان الأم لابنها، فتقبض بيدها على وهم تتخيله صار حقيقة، ابنها نابت في كفها.

قصته مسجد الداي باي تتحدث عن هذا الالتباس الوطني الكبير بعد 2003، عن الأحلام والطموحات واشتباك المصلحة بالدين، تستحق التأمل كثيرا.

هذه هي أكثر القصص التي لفتت نظري في المجموعة، وبالمجمل، المجموعة تتعلق بهذا القلق العظيم، بالفوضى الشائنة، بالضياع، بالفقدان الكبير الذي انفجر بوجوهنا عام 2003 نتيجة للتراكمات التي سبقته.

شكرا لك مرتضى، من لا يقرأ هذه المجموعة يخسر كثيرا، هذا أدب حقيقي وليس هراء فيسبوكي يسوقه البعض ويتلقفه المراهقون على أنه أدب عظيم.

مشاهدات ليلية (2)

 

أمام عيادة أحد الأطباء، كانت تقف سيارة تاكسي صفراء اللون لم انتبه إلى طرازها، من الخارج، وعلى باب الراكب الأمامي كان هناك رجل جاوز الثلاثين، ضخم الجثة، يرتدي [تيشيرت] أخضر اللون غامق، وبنطلون جينز رصاصي، شاب أسمر حاد الملامح، شعره خفيف، أسند ظهره إلى سيارته، وشبك ذراعيه على صدره بضجر، خلفه مباشرة، وعلى سقف السيارة، أجلس طفلته الجميلة، فتاة قمحية ربما تكون في الرابعة من العمر، ترتدي قميص زهري بلا أكمام وجينز قصير بدا وكأنه خيط لها من بقية قماش بنطلون والدها، كانت تجلس على سقف السيارة، وتدلي ساقاها على كتفي أبيها وصولا إلى صدره، وتعتنق رأسه بكلتا ذراعيها الغضتين، ومالت برأسها على أذنه اليمنى تحدثه.

كان الضيق يسيطر على الأب، لعل لديه مريض ينتظره، لعله قلق على مريضه، وجهه منكمش تماما بضيق بالغ، وفي ذات الوقت كان مضطرا أن يجيب على أسئلة ابنته، ويسايرها في حديثها المتدفق الرقراق دون أن ينتبه فعلا لما تصبه في أذنه من نغم، لا أعرف ما الذي سألته عنه، ولكني سمعتها تقول له منحنية عليه تمزج سؤالها بالقبل: هذا زين؟ فأجابها بنعم، فأطلقت ضحكة رنانة مرقت إلى الشارع المقابل ملعلعة بالبهجة، فأجبرته على أن يضحك بطريقة ملئت وجهه وروحه، بفرحة تساوي بهجتها الطفولية العارمة لإجابته البليدة على سؤالها الساذج، وأنا شاركته هذه الضحكة الساذجة بالتأكيد بكل بلاهة!

تذكرت عندها البهجة التي ارتسمت على وجه صديقي، الذي كان يراقبني أزيح شرائح الزيتون عن قطع البيتزا قبل أن آكلها، فملئت البهجة وجهه الجميل، وانطلق يحدثني عن حب طفلته الصغرى للزيتون، وكيف أن علب الزيتون التي يجلبها إلى البيت لا تصمد سويعات معها، وكيف أنها تبدأ أكل قطع البيتزا من الناحية التي توجد فيها شرائح الزيتون، كان يحدثني وفرحة عميقة ترتسم على كل وجهه، وبدنه، سعيد بعادات ابنته الغذائية.

سرت مبتعدا عن الأب وابنته، متذكر لصاحبي، وفكرت في نفسي، لولا بناتهم، لفقد ثلاثة أرباع العراقيين عقولهم بسبب الكرب الذي يواجهونه يومياً.

#مشاهدات_ليلية

 

مكابدات سعيد

هذه القطعة كتبت بنية أن تكون نصا بديلا عن النص الأدبي الذي اختير كمثال لدرس (اسم المفعول) في كتاب قواعد اللغة العربية للصف الرابع الاعدادي حين كنتُ في تلك المرحلة ـ عام 2003- كتبته بطلب من أستاذي، أستاذ مادة اللغة العربية، الأستاذ سعد عجيل الرجل الذي نشر لي أول نص في حياتي وكانت قصة عن فلسطين نشرت في مجلة الموقف التربوي التي كانت تصدر عن مديرية تربية النجف قبل العام 2003 ـ اذكر ان النص القديم كان عن مشعول الصفحة صدام، ولما حدث ما حدث وأُهملت النصوص القديمة طلب مني أن اكتب نصا بديلا ـ بعد ان أحسن الظن بي ووجد أن لدي ميولا أدبية ـ على أي حال، كتبت النص، ولم أقدمه له حياء، وها أنا بعد كل هذه السنوات أضعه بين يديه، محبة ووفاء، مع اعتذاري عن الأخطاء النحوية التي في النص.

مكابدات سعيد

ظل سعيد ضاحكاً طوال الأربعين سنة الأولى من عمره، مواجه متاعب الحياة ووعورة العيش بنفس هادئة وثغر منطلق، يعينه على ذلك ضحكات خمس أطفال وأمهم، وكان يعود متعباً منهك القوى إلى الدار، ولكنه وما أن يدخل يسمع تلك الضحكات البريئة، والاستقبال الحار، حتى ينسى كل ما مر به منذ أن ابتدأ عمله في الصباح الباكر.

ولكن معارفه فوجئوا به منقلب الحال وقد أصبح لا يُرى إلا ذاهلا، صامتاً مكفهر الوجه، والذين يعرفونه عن كثب يتعجبون أكثر، إذ أنهم يرونه منخلع الفؤاد محزون النفس، فيتساءلون: ما الذي دهى هذا الرجل؟ المفروض أن يفرح في هذه الفترة أكثر من الفترة السابقة أولاده كبروا وفتحوا بيوتاً ورفعوا رأسه، فماذا أصابه؟

بالتأكيد لم يعرف الناس ماذا أصاب الرجل، الخائض حياة كالتي خاضها سعيد وحده يعرف ماذا حصل، لقد تفرق أولاده عنه، وماتت أمهم، وأخذ كل واحد من الأولاد زوجته وخرج، وبقي سعيد وحده يقاسي آلام وحدته ذاكراً ضحكات زهوره الخمسة.

الناس تتسائل، ماذا أصاب سعيد؟ وسعيد المبعثر الفؤاد منشغل بمحاولة لملمة أجزائه.

2003

[كتبت النص بدون عنوان، والعنوان الذي وضعته هو ابن اليوم وليس من صلب النص القديم]

مشهد عرضي من شتات متخيل

كنت مذهولا، وكانت قامتها تتلاشى أمامي في الممر، تنسحب وئيدة بخطوها الرشيق، رغم ان هناك صراعا عميقا بداخلها بين التراجع أو المضي قدما قد بدا واضحا على ساقيها المرتحلتين، كان حضورها يبهت في عيني، ويتجذر في قلبي عميقا.

صوت وقع أقدامها كان يختلط بالضوء المنهمر من النوافذ؛ ببقية من ضوء أصفر علقت بمصابيح السقف، بينما تسرب حفيف شتلات زهر البنفسج تحتك ببعضها في الشرفة، مطلقة عطرا يتخلل المكان عبر فتحة صغيرة في الشباك، لتزيد في حراجة موقفي البائس ـ كنت أقول لها: لا أجيد العناية بالزهور، انا ابن العاقول والخُبّاز، فتضحك ساخرة ولا تزيد، كأنها تقول لي: وهل انت مؤهل للبنفسج، انهن لي، انا ابنة الربيع والزهر ـ شعرت أن للضوء رائحة، وأنه يحرص على أن يصلني عبيرها وهي تنسحب، بذات القوة وذات العنف، بل ان ذلك العبق المبهم كان يزداد حدة كلما ابتعدت صاحبته خطوة عني، حتى توقفتُ عن تلمس عطرها بحاسة الشم، وصرت أحسه بكل مسامي، يتسرب فيّ، رويدا مع الضوء، مختلط بأصوات السيارات المندفعة خارجا، تطلق أزيز محركاتها، كأنها تؤذنني بشكل حياتي القادم من دون هذه الراحلة، نفير لا يهدأ من الوحشة، ووجع جديد يصل المواجع القديمة ويزيدها حدة، كان المشهد يعتصر روحي، رغم كل البهاء الذي يلفه، رغم ما صنعته الأمواج الذهبية التي تتوج رأسها في روحي، وهي تتمايل منكسرة عني، يلفها الضوء ورائحة البنفسج.

ـ أنت تحب الخسارة، لا اعرف كيف أكون جزءا من خساراتك المحبوبة إلا بهذه الطريقة.

لا أدري كيف استطاعت الفتاة المرحة، الممتلئة بالحياة ان تجد تلك الجثة المدفونة عميقا بروحي، المتوارية تحت ركام آلاف السنوات من التجارب العراقية المعمّدة بالخسارة، المتوضئة بالفقدان، مطمورة عميقاً في ذاتي المنهكة حتى لم أعد أتبينها، رغم انها تظهر في كل سلوك أسلكه، تجاهلت وجودها المتحكم بوجودي، حتى اقتنصتها البنت الأوربية اقتناصا، مبددة الركام عنها، بعد أن كبحتُها عن تبديد العتمة التي تلف أيامي، رغم شراسة الضوء في روحها السعيدة، التي قال عنها النواب:

يلي ما جاسك فكر بالليل

ما جاسك سهر

غادرتْ، لم تترك الباب مفتوحا كما يجدر بأي راحل ساخط، حرصت على إيصاده برفق، لأنها تعرف أنني أخاف الابواب المفتوحة، تسلبني راحتي وطمأنينتي السريعة العطب، ومع آخر نغمة منبعثة من تلاشي خفق حذائها على الأرض، صحوت من ذهولي، لقد ذهبت، أما أنا، فبقيتُ كنخلة ذاوية، هربت من طينتها لأديم غريب، فشل في احتضانها رغم حنانه وينعه، غادرتها المياه، وجفاها الفلاح، أتلفتُ، أبحث عني وسط هذا الظلام العراقي المغترب، فلا أجد سوى العطب والسخام.

15/ 8/ 2015

اللوحة لـ (tzviatko kinchev)

 

وداع…وزيارة

– ها يمه، شو مغبش؟
– رايح لكربلاء.
– زيارة لو تسيارة؟
– لا والله تسيارة، صديقي راح يسافر لمدة طويلة واريد اودعه.
– متروح تزور؟
– ما اتصور، ما الحك.
– لا يمه ميخالف، روح زور، وسلمي على ابا عبد الله، كله أمي تسلم عليك، تكول اكو امهات عيونهن عالباب، منتظرات اولادهن، هن لا يعرفن داعش، ولا يعرفن الجيش، ولا يدرن بالحشد الشعبي، يعرفن عدهن ولد، عمت عيونهن الى أن صاروا زلم، وتالي شالو سلاح، وقسم راحو ويه داعش وقسم راحو ويه الجيش، الامهات شعليهن بالسالفة، الامهات يريدن ولد يلم كُبرتهن، هسا اتغوبرو وراحوا ويه داعش، ضحكوا عليهم، الكترين يصيحون ويدعون بالدين، وأولادهن كلشي ميعرفون، بس الامهات هم كلشي متعرف، بس يعرفن شكد تعبن، وشكد صبرن، جابن عمارهن أمل وحسرة، على كل صوت بالليل يفزن خاف الولد كعد، كله لابو السجاد لَتردهم ليهن مكطعين، ولا مجرمين، ولا خاشين بخطية العالم، خوش يمه، وكل لاخو زينب العباس هم نفس الشي، خوش يمه، كله هالله هالله بالامهات، والله العراقيات خطيه، خوش يمه؟
– الله كريم.
ووجدت متسعا اذهب به الى الشهيدين، وكلي كلام يتململ بين قلبي وشفتي، وما أن وصلت، ومع أول تابوت مكلل بالورود، تتقدمه صورة كل ما فيها يتلألأ، البسمة على الوجه، النجمة على الكتف الذي تجاوز العشرين بقليل، نسيت كل الكلام، صليت، انتظرت كثيرا ان افوه بكلمة، لا شيء، في الأخير، وأنا أهم بالمغادرة قلت لهما:
– أغاتي أنتما، مثل ما كالت أمي.