أرشيفات الوسوم: مرتضى كزار

بينما هي كذلك، لمرتضى ﮔزار

قرأت مجموعة مرتضى ﮔزار (بينما هي كذلك) التي صدرت العام الماضي، اشتريتها من شارع المتنبي الجمعة الفائت، قرأت نصفها تقريبا في الطريق من بغداد إلى النجف، وأكملت البقية في البيت، كانت سياحة مبهرة، وعودة إلى قراءة كتب الأدب بشغفي القديم، الكتب التي بارحتها منذ زمن، كتب الروايات والقصص تحديدا، وإلا فإنني لم اتوقف عن قراء الشعر.

السردُ الذي أراه سردا حقيقيا هو ذلك الذي يخلب لبي، الذي يسمرني في مكاني فلا استطيع تركه، اقرأ فاستغرق حتى أجد نفسي فجأة في منتصف الكتاب، كنتُ في يفاعتي قد طحنت عيون الأدب العالمي والعربي في الرواية والقص، ثم قطعني التخصص والكتابة الأكاديمية عن الروايات لسنوات، حتى قرأت رواية علي بدر (حارس التبغ) التي عثرت عليها صدفة، فتحت الصفحة الأولى، لأجد نفسي بعد ساعات في منتصفها، وهذا تحديدا ما حصل لي مع مجموعة مرتضى ﮔزار الأخيرة.

السرد بالنسبة لي ـ كقارئ ـ فعل لغوي، بقدر ما يتضمن من شخوص وحوادث وتداخل معرفي، لكنه يقدم لك أول الأمر بوصفه تميز في اللغة، السرد المكثف العميق هو دلالة الأدب الحقيقي، لهذا فشلتُ مثلا حين حاولت أن أقرأ بعض “الروايات” ـ وأؤكد هنا وضعها بين مزدوجين ـ التي اشتهرت في العراق لـ “كاتبات وكتاب” معينين، خواطر جمعت من الفيسبوك وأطلق عليها اسم روايات وشعر، وطبل لها المطبلون، وبينهم مثقفون كبار للأسف، أشهرها حاولتُ أن أكمل منها خمس صفحات فلم استطع، للغتها الساذجة وتعبيراتها الهشة.

على أي حال، ليس هذا موضوعي، لأنني أريد أن أكتب هنا عن هذه المجموعة المبهرة، (بينما هي كذلك)، وبينما أنا كذلك، أود أن أعرج على القصص التي لفتت نظري في المجموعة، هذه القصص تحديدا استوقفتني كثيرا، بالرغم مما تضمنته بقية القصص من بعد جمالي وعمق، لكن هذه القصص بالذات وجدتها مميزة عن غيرها، فأحببت أن أكتب عنها.

القصة الأولى في المجموعة (لا تسافر مع الفيل إلى شيكاغو) تحيلنا إلى رموز عديدة، الفيل الذي لا ينسى، والظل المتشبث بالأرض، الأرض التي تلاحقك حيث تفر منها، فتأخذ منك ظلك وتسمّرك عميقا، هناك، حيث جذرك، ثم تختلط الحقيقة بالخيال، وتتداخل الأمكنة حتى يفقد الإنسان معرفته بذاته، فيصير مغتربا بداخله، ويغدو ظله غريبا، وهو أشد غربة منه، هذه القصة أطول قصة في المجموعة، وأكثرها إرعابا لي على المستوى الشخصي، أن أصير ظلا مهاجرا.

قصته الثانية التي أبهرتني هي (قضية قبيلة أم عباس)، أنت هنا أمام مستويين من الرموز، يتشابكان، القنبلة التي تركت حفرة اتخذها العشاق مقرا للقاءاتهم، ثم صارت مزارا، الإحالة إلى الممارسة التي تبدأ مرفوضة من المجتمع، ثم تصير تابو مقدس، ومستوى آخر يتعلق بقبيلة ذاتها، التي اخترعت الكذبة وصدقتها، واستثمرت بها وجودها المالي، لتنتهي وقد يئست فأخذت تمارس الوِرْد الذي ابتكرته (للعلوية) المزعومة، كتبة ام البسامير ـ المسامير ـ، الحفرة التي امتلأت قبلا ولقاءات محمومة، ثم صارت مزارا بقدرة قبيلة، وهنا اشتبك لدي المعنى، هل يريد مرتضى أن يمزج بين (القيادة) ـ كما يقول الفقهاء ـ وبين التجارة الدينية؟ ولكني لا أظنه تعامل مع وقائع الحفرة قبل أن تغدو مزارا بوصفها تاريخ شائن، طيب في نقطة أخرى، يقول أن قبيلة تمارس طقس ضرب المسامير منذ عشرين عام، وهي خمسينية، ولكنه يتسائل في آخر القصة عن المعشوق الذي طرق باب قلب قبيلة آخر أيامها فملأت لأجله بيتها بالمسامير؟ مؤكدا أن قبيلة لم تفعل هذا في شبابها، أوليست الثلاثين ضمن الشباب، هذه القصة محيّرة جدا!

قبيلة نموذج للخاسر بمزاجه.

واحدة من أكثر القصص إيلاما لي هي قصته (فلان الفلاني)، عن الأرقام المهملة من البشر، الذين يمرون في الحياة جياع مدقعين فلا يعبأ بهم أحد، ولا يلقي لهم أحد بالا، ثم يحملون السلاح في قضية مقدسة لا يفهمون عنها شيئا، فيتحول فلان الفلاني، هذا المبني للمجهول إلى اسم على لافتة، ومعزين يتقاطرون، وبوليصة لتاجر دين آخر.

ولا تقل عنها ألما قصته (بيت الخوذة)، المحارب القتيل، الذي ترك بيته بلا باب ـ معنويا ـ، وأطفال يتخيلون وجوده، ويظنون الصفحات البيضاء في دفاترهم ممتلئة بالواجب البيتي، الواجب الذي يكتبونه مع أبيهم، أبيهم القتيل الذي تركهم وأمهم بلا باب يحميهم من بطش الناس، وغلظة الأيام.

(بيان اللقلق)، عن الانتظار العابث، عن ابتكار الوهم من أجل السعادة، الرسامة التي تزعم وجود لقلق على بيتها، لقلق يجلب الأطفال كما تذكر قصص الأطفال، ولكن لقلقها الوهمي هذا كان يجلب لدارها أطفال المحلة، الأطفال الذي حرمت منهم، فكانت ترسم وجوههم واحدا فواحد، حتى صارت رسومها علامات وجودهم.

قصته (ما ينبت في الكف) تدور حول ذات موضوع الفقدان، فقدان الأم لابنها، فتقبض بيدها على وهم تتخيله صار حقيقة، ابنها نابت في كفها.

قصته مسجد الداي باي تتحدث عن هذا الالتباس الوطني الكبير بعد 2003، عن الأحلام والطموحات واشتباك المصلحة بالدين، تستحق التأمل كثيرا.

هذه هي أكثر القصص التي لفتت نظري في المجموعة، وبالمجمل، المجموعة تتعلق بهذا القلق العظيم، بالفوضى الشائنة، بالضياع، بالفقدان الكبير الذي انفجر بوجوهنا عام 2003 نتيجة للتراكمات التي سبقته.

شكرا لك مرتضى، من لا يقرأ هذه المجموعة يخسر كثيرا، هذا أدب حقيقي وليس هراء فيسبوكي يسوقه البعض ويتلقفه المراهقون على أنه أدب عظيم.