أرشيفات الوسوم: كراون

كراون الصغيرة تكبر

علي عبد الهادي المعموري

طلبت أن يفتحوا نافذة السيارة، انسلت نسائم نيسان بنعومة إلى المقعد الخلفي، حيث اتمدد.

أشعر بملمس الهواء يتبدل على وجهي رويدا، لم أعرف مثل هذه النعومة من قبل، هل احتضر؟ كنت أظن أن كل شيء يقسو على المحتضر، وأن روحه تتلوى في عروقه وهي تبارح بدنه، ولكن راحة رطبة تتمشى في عروقي الآن، هل السبب يعود لهذه الناعمة التي تنساب على الطريق؟

أتذكر ذلك اليوم، قبل ثلاث وثلاثين، أقود سيارتي الكراون 1975 بأسرع ما استطيع، على المقعد الخلفي تمدد أبي، لم يكن لديه أولاد وأحفاد مثلي، كنتُ مملكته الوحيدة وسنده الأوحد، استمع الآن إلى أصوات أولادي، وأحفادي يتلونهم خلفي، بينما لم يسمع أبي سوى عواء الكلاب المنذر بالرحيل تلك الليلة، والطريق يخضه خض القربة اللبن.

أتذكر أني استلمت تلك السيارة من المؤسسة، قبل يوم، ووعدته بأن آخذه في جولة تمتد إلى كربلاء والكاظمية وسامراء، ولكنني أخذته إلى المستشفى، واستلمته منهم في الصباح، وضعته هذه المرة في صندوق على سقف سيارتي، السيارة التي شاطرتني حزني، ورضيت بأن اطفئها، لأركنها في مزرعتي، وأشتري شقيقة لها بعد عام، في سنة صناعتها، كيف أبيع السيارة التي توفي أبي على مقعدها الخلفي؟

سيارتي الكراون الثانية موديل 1976 شهدت زفافي، وما أن أوشك العام على المضي في سبيله إلا وركنتها ـ شاهدة على تقدمي ـ جنب أختها.

السيارة الثالثة احتضنت بزوغ حياة بعد أن شهدت أختها الكبيرة أفول حياة أخرى، على المقعد الخلفي أيضا، وبين يدي والدتي، ولدت زوجتي أبني الأول، مفخرتي الكبيرة، وحين انتهت السنة ركنت السيارة جنب أختيها، يشهدن على موتي وولادتي المتجددة.

الأشياء التي تكسبها بيسر تخسرها بسهولة…

هكذا كانت زوجتي تقول، مدرسة اللغة الانجليزية، ترددها على مسمعي، تخبرني أن ما جمعته بالتعب الحلال قمين بأن أحرص عليه كما أفعل، أفكر في هذه اللحظات، كيف رضيت تلك الجميلة بي؟ أنا الذي كنت أفك الخط، كيف حولت البنت الجامعية تلك شبه الأمي الذي كنته إلى الرجل الذي تقوم له المجالس حين يدخل؟ ويقصد الباحثون مكتبته العامرة؟

– أسمعني أيها الوسيم، لا أريد أن أموت في إحدى سياراتك، هذه الأشياء الجميلة لا تصلح للموت، تذكرني وأنت تقود السيارة التي زفتني إلى بيتك، لا أعرف سرك مع هذه السيارات، لكنك تتمرأى فيها، تولد وتموت وتولد وتتجدد، كأننا كلنا عابرون في حياتك وهي من توثق يومك الوليد ويومك الغارب.

وما خالفت الجميلة الصواب، كل سيارة جديدة، اشتريتها مطلع كل عام من عراكي والحياة، شهدت يوما استثنائيا في حياتي، كنت أقف أمامهن وامنح كل واحدة اسماً، اسم يرتبط بما شهدته، سيارة “الزفة”، “أم الولد”، “أم البنت” التي ـ مرة أخرى ـ  ولدت فيها ابنتي الوحيدة بين 6 ذكور، قرة عيني، “الخريج” و”الخريجة” اللتان شهدت أولاهما تخرج ابني الكبير من كلية الطب، والثانية تخرج ابنتي من كلية اللغات، “الدكتورة” التي زففت بها ولدي يوم ناقش الدكتوراه، وتنهمر الأسماء في ذاكرتي، واحد تلو آخر.

كنت أقول لنفسي كلما ركنت واحدة واشتريت أختها، يا ولد: هذه البنت شهدت حدثا استثنائيا، شهدت واقعة لا تشارك، فاحفظ لها فرادتها، ما قيمة النقود يا فتى أمام تلك اللحظات التي خلبت لبك؟

طالما توقفت اسائل نفسي، كيف لي أن أحب جمادا بهذه الطريقة؟

أذكر أن واحدا من الذين طالما أسبغت عليهم الفضل قال ـ وهو لا يدري بجلوسي خلفه ـ أن سر اهتمامي بسياراتي وحدبي على كل واحدة منهن لأنهن يُعلنَّ ما أنا فيه من نعمة، لا البيت الكبير، ولا العمل المزدهر، ولا الأولاد المباركين، كلهم لا يعلنون ثروتي كما تفعل هذه السيارة، بنسخها التي ارصفها في ظل ظليل، يكبر كل عام، وتكبر “كراون” التي كانت صغيرة معه، تخبر الناس بما أرفل فيه.

لم يدركوا أنني لا أعدها بمثابة علامة الغنى، بل هي حلقات متصلة ببعضها، مثل سلسلة مترابطة، تؤرخ أولها محطة بدئي حياتي، قبلها كانت سرابا، كنت أطفو ولا أرض أنشب قدماي فيها، كانت إيذانا ببدئي العيش، والموت، ومدي لجذري في هذه الأرض.

ولكنها لم تكن على الدوام لغيري كما كانت لي، أبان الحرب في الثمانينات، كانت نذيرٌ يخشى دخوله أي حي، تحمل على سقفها نعشا ملفوف بالعلم، تتخطى الأبواب واحداً تلو آخر، حتى تقف أمام دار بعينها، لتخرج أم هذا المسجى على سقف الفارهة، تتلمس العلم، تتشبث بالسيارة وتهزها كأنها تهز مهد طفولته، وعيناها تحومان على مستقبل كان واسع المدى، ثم أفل.

لهذه الفسيحة من الطبيعة اثنتان، تطوي بالموت وتنشر بالحياة، تنقل في جوفها العرائس إلى غرف مفروشة ببياض ناصع، معلنة امتداد الحياة الازلي، يضم جوفها الحياة كأنها رحم مترع بالأمل، وتحمل على كتفها الاجساد الملفوفة بالبياض، في آخر رحلة للرفاهية ـ كما احسبها توشك أن تفعل معي الآن ـ وإن كانت تحملني حانية بين ضلوعها.

صحبة تلك النسائم، أنصت لصوت يتدفق نحو روحي، يشبه جريان النهر، صوت المياه وهي تداعب أقدام ابني البكر في طفولته، لينطلق ضاحكا من نعومتها، كانت دجلة تسير بصفاء في تلك المنطقة المعلقة على جبال السليمانية يوم قدت سيارتي نحوها، صحبة أهلي، شوينا السمك، واكلنا كباب السليمانية، قبل أن التقط تلك الصورة عند متن النهر، تجلس أمي على المقعد الأمامي، تدلي برجليها إلى الخارج عبر الباب المفتوح، يدها تقبض على ساق ابني الجالس على سقف السيارة، مدليا ساقيه نحو جدته، تقبض أمي على رجله كأنها تقبض باب رجاء مستقبلها، وكل آمال حاضرها وماضيها، وزوجتي تحمل ابني الثاني قربها، وأنها معهم، وبيني وبينهم الباب الأمامي المشرع.

هل كانت سيارتي الخامسة؟

نعم الخامسة هي التي اسميتها السندباد، كانت أول مرة اطوف بها البلاد وأهلي، سافرت بهم إلى الشمال والجنوب، عبرت بها الحدود، يا لتلك الليالي قبيل الحرب، الحرب التي سلمتني إلى السادسة، أم الشهداء، تلك التي حملت على ظهرها ـ تباعا ـ ثلاثة من ابناء عمي، ملتفين بالعلم والدم، وهي الوحيدة التي طليتها باللون الأسود، وتربض مكللة بغطاء مطرز بالورد، تقف شامخة بين الجميع.

كنت كلما أضفت لها طرازا جديدا، أقف لأعدها بانتشاء طفل يحسب عيديته من الدنانير، يسمع رنينها وهي ترتطم في جيبه، يتحسسها بجذل، كنت اتلمسهن واحدة تلو اخرى، كأنني اضع يدي على رأس طفلتي، اتطلع لتلك السيارة الأولى، ثم تمر عيناي على الصف، أراقب كيف كبرت صغيرتي تلك، واشتد عودها، وزادت متانتها وصفاتها، مثل كائن حي ينمو، صغيرتي كراون التي كبرت.

كانت السيارة تخب بسرعة وثبات كعهدي بها، التقطت أذناي النغمات التي يصنعها مرورنا بأعمدة الكهرباء تباعا، حفيف رقيق يصطنعه الهواء المار بينها وبين نافذتي، ينهمر منها ضوء خافت ـ أو لعلها عيناي التي تحسبه خافتا؟ ـ  بدأت أعدها، واحدا تلو آخر، واحد اثنين ثلاثة… ثم اختفت الأعمدة من ذهني، وقفز محلها  صف طويل من طرز سيارة تويوتا (كراون) يمتد لثلاثين عام من عمري، طويل حد التلاشي.

الصورة: تفصيلة من بيت نجفي، وجدتها في مجموعة حفظ التراث النجفي