arablog.org

صور من النجف

1. تفصيل من منزل كاظم صبي في طرف البراق، وكان زعيم الطرف، والرجل الذي وقف خلف ما يطلق عليه اسم (دستور البراق) سنة 1915، اعدمه الانجليز عام 1918

تفصيل من منزل كاظم صبي في طرف البراق

2. إعدادية النجف المركزية للبنين، تأسست عام 1925 (ثاني أو ثالث اعدادية في العراق)

اعدادية النجف اعدادية النجف

3. منزل عبد المحسن شلاش (1882 – 1948) التاجر والوزير في العهد الملكي العراقي

 

 

 

منزل الحاج عبد المحسن شلاش

 

4. مقبرة السياسي الكبير في العهد الملكي صالح جبر (1896-1957) على الشارع الرئيس الرابط بين النجف والكوفة (شارع الكوفة)

مقبرة صالح جبر

5. آخر سوباط في النجف، في طرف الحويش، الصور قبل الهدم التقطتها عام 2005، وبعد الهدم هذا العام، هن سوباطين، الأول من جهة الطمة، والثاني من جهة دور السادة آل الخرسان.

أ. من جهة آل الخرسان قبل الهدم

سوباط الحويش 2

بعد الهدم

سوباط الحويش img_5303

 

ب. من جهة الطمة

قبل الهدم

سوباط الحويش scan30002

بعد الهدم

سوباط الحويش img_5306 img_5311 img_5312 img_5313 img_5314

 

 

عبد الحسين حمد

 

(1)

أول عهدي بقراءة الشعر، وتتبع الشعراء، كنتُ أظن أنهم من طينة أخرى تختلف عن طينة البشر، وكنت اسأل نفسي: هل يأكلون ويشربون مثلنا؟ هل يتحدثون كما نتحدث؟ هل ينامون ويعملون؟ هل أن حياتهم تشبه حياتنا؟ هل يعرف أصدقائهم ذلك الحد الفاصل بينهم؟ حد عظيم قوامه الإبداع، الخلق من العدم، وابتكار المعنى، هل لهم أصدقاء أصلا؟ أما إذا كان الشاعر ذا مبدأ لا يتزحزح، ولا يرتزق بوحيه، فتلك حكاية أخرى، وبعد آخر من أسطورة قوامها الشعر والشعراء.

(2)

سمعت به أول مرة وأنا صغير، بداية التسعينات، كان وقتها أستاذاً في معهد إعداد المعلمين في النجف، وكان خالي الأصغر أحد طلابه، مرة كان خالي عندنا، يترنم بقصيدة تصف حال الجندي العراقي المسحوق في معسكرات التدريب، المنهوب، المقهور، أتذكر منها بيتا واحدا يقول:

ما بين أور والأثل …… يسطو على الصيد الجعل

شرح لي خالي معنى البيت، قال أن أور والأثل هما معسكران تدريب شهيران، أحدهما في الجنوب، والآخر في الشمال، والصيد هو الجندي، أما الجعل فهم العرفاء ونواب الضباط وأضرابهم، يحلبون الجندي الجائع حلب الشاة، ثم لا يفكون له وثاقاً، سألت خالي من القائل؟ فأجاب بفخر وابتهاج: عبد الحسين حمد.

(3)

لاحقا، بدأت اشتري أعداد مجلة (الكوثر) النجفية، المجلة التي احتضنت كتاب النجف وشعرائها في التسعينات، مجلة كانت تصدر بجهود استثنائية من رئيس تحريرها الشاعر المرحوم محمد عباس الدراجي، وفي الكوثر بدأ اسم عبد الحسين حمد يتردد عليَّ كثيراً، محررا لباب المجلة الأدبي، شارحاً لنهج البلاغة، ناقداً أدبيا عرفني للمرة الأولى أن للشعر روح باطنية، وأن للرموز معانٍ ومعان، كتب نقداً جميلا لقصيدة أنشودة المطر للسياب، فصدمت بما كان يريد الرجل قوله، ثم هو كما هو: شاعر عمودي فحل، لا ينتمي لغير العمود، ولا يذهب بعيداً عنه.

(4)

حدثني خالي بما كان يحدثهم به عن نفسه، عن حياته مع استاذه السيد مصطفى جمال الدين، وكيف أن الشاعر الفحل دفعه أيام كان طالباً صغيراً في كلية الفقه ليقرأ قصيدة أمام ضيف مصري كبير حل في النجف، واحتفت به جمعية الرابطة الأدبية، وكيف أن عبد الحسين حمد خاف من الموقف، وكيف أن السيد جمال الدين كان يريد أن يقول للضيف أنظر لطلابنا اليافعين كيف يبدعون، فكيف بشيوخنا الذين مرستهم الحياة ومرسوها، وكيف أن ظن السيد كان في محله، فطار الشاب بالمجلس شعرا، وأطار الضيف في سماوات من الأدب النجفي.

(4)

ثم جاءت اللحظة التي كان لابد أن أقابل فيها الرجل، الذي أدرجه خيالي في خانة الأساطير الشعرية، وأن أستكشف عن قرب طينة الشعراء التي طالما حيّرتني.

كانت إعدادية النجف ثالث أو ثاني إعدادية تأسست في العراق في العام (1925)، وكانت وقت دخلتُها معقلا لآخر جيل ذهبي من المربين، الذين جاعوا، وتألموا، وما بدلوا تبديلا في حرصهم على طلابهم، تحيط بهم الهيبة، وتسبق أسمائهم رهبة توارثناها عن الأجيال الأقدم من أهل النجف، الذين درسّهم هؤلاء الأفذاذ قبلنا، جيل من الذين مارسوا التدريس طويلا، وسافروا، وحضروا، وتقلبت بهم الأزمان وما قلبتهم، كان الطلبة أبناؤهم، والمدرسة بيتهم، ومنهم كان صاحبنا هذا.

دخلتها، وأستاذ اللغة العربية فيها هو عبد الحسين حمد بشحمه ولحمه، وكان الشاعر الغامض أول من سألت عنه من رفاقي الذين سبقوني إلى الإعدادية بعد أن تأخرت عنهم في المتوسطة، كنت ملهوفاً اسأل، من هو عبد الحسين حمد من بين هؤلاء الشيوخ المهيبين؟ فأشار صاحب منهم إلى رجل يخب بثبات نحو أحد صفوف السادس العلمي، رجل قصير لكنه ممتلئ خشن الجثة، كان يرتدي بذلة نيلية اللون غامقة، وتحتها قميص أسود بلا أزرار (تيشيرت)، ذي رقبة عالية تدفئ عنقه القوي والعليل معاً في برد النجف القارص، بيده سيجارة تبينت لاحقاً أنها رفيقته القديمة التي لا يصبر عنها ساعة من ليل أو نهار، رأس ضخم احتوى وجها حليقا أسمرا مشرب بحمرة خفية، عينان حادتان، تبدوان للناظر وكأن الشزر يتطاير منهما، لونهما أقرب إلى الزرقة، مسافة وسطى بين الزرقة والسواد، ارتسمت على فمه حركة وكأنه قرف من الدنيا وما فيها، وبدا على وجهه بالمجمل ما يعتلج بروحه من قلق واضطراب، هما مادة الشعر، وعنفوانه، صوت عميق يشعر سامعه وكأنه يقف على رأس بئر لا يدرك قعرها البصر، ينبعث صوته مركزاً، قوياً، ثابتاً، كأنه السيل الجارف يجلجل بالشعر.

(5)

عرفت لاحقاً أنه لا يدرس سوى صفوف السادس العلمي، وكانت هذه أول الصدمات، إذ أني قررت منذ البداية أن أختار الفرع الأدبي، وظننت أن السبل ستتقطع بيني وبين معرفة الشاعر الأسطورة، حتى دخل علينا الصف أستاذ اللغة العربية للرابع الإعدادي الأستاذ سعد عجيل، وبعد أن قرأتُ قصيدة زهير بن أبي سُلمى المقررة في المنهج قراءة من عاقر الشعر طويلاً، توجه لي المدرس الأسمر المهيب قائلا: هل تستطيع أن تكتب قصة قصيرة؟

فبهتُ ساعتها، كنت قد بدأت منذ سنتين بمحاولات كتابة القصة، بعد أن سبقتها بمحاولات لكتابة الشعر الشعبي أسفرت عن دفاتر كثيرة، ساعتها قلتُ لأستاذي أن نعم، وفي الدرس الثاني ناولته قصة كنتُ كتبتها عن فلسطين اسمها (عرسين في ليلة واحدة) فأخذها الرجل وسعى بها إلى عبد الحسين حمد، وعادت لي وقد تم تصحيحها لغويا لتصبح (عرسان في ليلة واحدة)، وبعد أشهر أحضر لي أستاذي سعد عجيل مجلة (الموقف التربوي) الصادرة عن مديرية تربية النجف، وفيها قصتي.

(6)

لاحقا، أخذت لعبد الحسين حمد قصة أخرى، وعدني بأن يقرأها وأن أمر عليه غدا لأعرف رأيه، قال لي حين لحقته في الممر عقب أحد دروسه بأنه قرأ القصة، وأن لغتي جميلة لكنني لا أعرف عناصر القص بعد، سألت عما يعنيه فقال لا يوجد تكثيف، يعني أن تعبر عن أوسع المعاني بأقل الكلمات، ولا يوجد فيها تنامي للحدث وصولا إلى العقدة والحل، ومع ذلك وعدني بأن يضعها في خطة النشر في مجلة الكوثر ولكن سيأخذ هذا وقتا طويلا لكثرة المادة المرسلة للنشر في مجلة شهرية لا داعم حكومي لها، تطبع بتبرعات المحبين.

وهو وليس غيره من جعلني اتوقف عن محاولاتي البائسة في نظم الشعر العمودي وقتها، اتذكر أن صاحبي المرحوم علي الغريفي كان قد جلب إلى المدرسة معمما من الذين عادوا إلى النجف مع الأحزاب، شقيق حزبي كبير، دعاه ليلقي محاضرة في المدرسة، وطلب مني علي أن اكتب قصيدة ترحيب، فكتبتها مغترا بنفسي، وأخذتها صحبة صديقي حسين حبل المتين إلى عبد الحسين حمد، ومنذ أول بيت قال لي لا تليق باستقبال ضيف فدعها يا ولدي وأنا سأعطيك قصيدة لتقرأها، وبعد أن انتقد تصريحاً إيرانيا معيناً وقتها تركناه، ومزقت تلك الخربشات التي لم يكن لدي نسخة سواها ورميتها في الطين، وكم فرحت لاحقاً لأنه منعني من أن اقرأ شعراً أمام ذلك المعتوه الوضيع الذي بانت طينته الرديئة هو وأخوته لاحقاً.

كان لا يجامل أحداً في الشعر، مرة أخطأ واحد من أساطين النجف، فقها، وشعرا، وأدباً، وبحثا أكاديمياً، حتى أنه يلقب بالمجتهد الأفندي، كان في مجلس عام يلقي محاضرة، فنسي عجز بيت، وتدارك الموقف ورتب العجز من عنده، فانفجر عبد الحسين حمد بوجهه في نصف المجلس، وهو ما كان يفعله مع الكثيرين غيره، وهذا كان ديدنه، الشعر حده المقدس، لا يجامل فيه أحداً.

(7)

شاهدته مرة يقف عند ساحة ثورة العشرين، ظهره للبناية التي كانت مقراً لمركز دراسات جامعة الكوفة عند الركن الجنوب الغربي من الساحة، كانت تظاهرة لم أعد أذكر سببها، يقف على كرسي، والناس تحيط به، يقرأ قصيدة تندد بأول طلائع التفجيرات في العراق، اتذكر أنه كان يهاجم بشار الأسد ببيت يقول صدره: (ويا صاحب العنق الممتد سارية) ويهاجم الخونة، واللصوص، والقتلة، وبدا أن الرجل لا يزال حريصا على أن يكون رافضاً للسائد، مثل أقرانه الشعراء العظام، وأنه ذات الرجل الذي رفض أن يمدح صدام، وذهب إلى أبعد من ذلك فقام في احتفال أجبره محافظ النجف قائد العوادي على أن يقرأ فيه شعرا عن العراق أيام حكم صدام فحرص أن يكتب قصيدة يندد بها بالموجودين ووصفهم بالمغول والطواغيت بشعر ملغز، ولما شرّح أحد شعراء السلطة للمحافظ ما يقول الرجل كادت رقبته أن تطير ثمنا لتلك القصيدة.

لاحقاً صدر الجزء الأول من ديوانه (وقد الجوى) عن مركز دراسات جامعة الكوفة ذاته.

(8)

الكلام يطول عن الرجل الذي ولد في النجف عام (1949) في طرف الحويش، لأسرة آل حمودي الكعبيين، وتخرج من كلية الفقه في النجف، وقضى حياته مدرسا في إعداديات النجف، الخورنق، ومعهد إعداد المعلمين، ومضى نظيفا كما دخل إلى الدنيا خالي الوفاض بالأمس، في اليوم التاسع عشر من أيلول (2016).

(9)

قال في الموت

وإنْ عَلِمْتُ بأنَ الموتَ مَنْقَلَةٌ

مِما يَزولُ إلى خُلْدٍ بهِ نَعِمُوا

لكنما حُرَقُ التَشْتيتِ مُحْزِنَةٌ

وإن فُرقَـــةَ مَنْ أحْبَبْتَهُ ألَــمُ

في كلِ حينٍ لنا خِلٌ نُفارِقُهُ

وكلِ حينٍ بنا الأَرزاءُ تَحْتَدِمُ

ما إِنْ نُسَرُ بجَمْعٍ وَهْوَ مُؤْتَلِفٌ

حتى نُفيقَ وما قد سَرَنا لَمَـــــمُ

 

اعدادية النجف

اللغة والهوية (1)

الهوية من اعقد المفاهيم الشائكة ذات الابعاد المتعددة، وهي تتضمن عناصر متداخلة مع بعضها، أولها العناصر المادية التي تضمن بدورها عناصر القوة الاقتصادية والعقلية والتنظيمات المتعلقة بنظام السكن والتنظيم الاقليمي، فضلا عن الانتماءات الاجتماعية والاختلافات الأخرى المميزة.

وثاني هذه العناصر هي التاريخية التي تتضمن تاريخ الاسلاف والموروث الرمزي والرموز البشرية، آليات التنشئة الموروثة، والمعايير الاخلاقية الموروثة وتطورها وما تأثرت به خلال تطورها.

المجموعة الثالثة هي العناصر الثقافية النفسية، تضم النظام الثقافي، بما يحتويه من عقائد وايديولجيا وقيم ثقافية واشكال التعبير عنها، فضلا عن العناصر العقلية التي تنصرف إلى التقاطعات الثقافية والاتجاهات المغلقة والمعايير الجمعية والعادات الاجتماعية.
وأخيرا العناصر النفسية والاجتماعية، التي تضم أسسا اجتماعية تشمل الاسماء، المركز الاجتماعي، العمر، المهنة، الجنس، وغيرها، فضلا عن الاختلاف في مستوى الكفاءة والتقدير الناجم عن ذلك، نقلا عن: اليكس ميكشيللي، الهوية، ترجمة د. علي وطفة، (دمشق: دار الوسيم للخدمات الطباعية، 1993)، ص18ــ20.

لو قاربنا اللغة من منظور الهوية الذي ذكرناه باختصار عن اليكس ميكشيللي في البوست السابق – اضغط الهاشتاك أدناه للاطلاع – فسنجد أن اللغة تشكل خيطا رابطاً بين كل عناصر الهوية تقريبا بمستوياتها التي ذكرها ميشكيللي، سنجد اللغة حاضرة في العناصر التاريخية، وفي العناصر الثقافية القيمية فضلا عن العناصر النفسية الاجتماعية.

وإن لظهورها المتكرر هذا مستويين أيضا، الأول مستوى ذاتي فردي، والثاني مستوى جمعي.

على المستوى الفردي، يقول علماء النفس والاجتماع أن بقاء الإنسان خلال العشرة سنين أو 13 عام الأولى من عمره في مكان واحد وفي مجتمع واحد سوف تطبع لا وعيه بطريقة عميقة ستجعل عناصر ذلك المكان من تاريخ وقيم ومعايير للحياة وحتى مناخ المكان هي المشكّل الأكبر لردود فعله العاطفية، ولنضرب مثالا على ذلك، اسأل أي مغترب قديم تنطبق عليه هذه الملاحظة – ملاحظة العقد الأول من العمر – اسأله عن اللغة التي يشاهد بها أحلامه سيقول لك انها اللغة التي تعلمها من أمه لا غيرها، كذلك فإن كل من غادر بيت طفولته القديم الذي قضى فيه شطر حياته الاول والأكثر سعادة من ناحية كون الطفولة مرحلة عدم الالتزام ومرحلة انحسار الهموم الانسانية، ستجد أنه وبالرغم من بعد الزمن وطول المدة التي غادر فيها مسكنه الأول ستجده أنه لا يشاهد نفسه في أحلامه إلا في بيته القديم، وأكثر بروز للاوعي الانسان يكون في الأحلام.

وبهذه الكيفية تشغل اللغة الموقع المركزي في حياة الفرد بمعزل عن محيطه، وهي وسيلته الاولى للتعبير عن علاقته بالأشياء، عن الحب والكره، سبيله إلى الفهم وعدم الفهم، وهي لا تتشكل بمعزل عن ذات العواطف هذه، بل هي وليدتها، يتلقف الإنسان لغته من أول الكائنات التي تغمره بالحب مع اللغة وهي الأم، حتى تغدو أكثر من مجرد وسيلة للتعبير، بل تأخذ ركناً مهماً في ذاته وفي طريقة علاقته بالآخرين، تغدو اللغة انعكاسا للطريقة التي تمت تربيته بها، يقلد الطفل نبرة أبيه ولهجته وطريقة كلامه، تصير معيار التعبير عن شخصيته، عن ثقته بنفسه، عن انتصاراته وهزائمه الفردية، يعبر عن نفسه بها بطريقة ميكانيكة لا تحتاج إرهاقا في استحضار المعنى، لأن المعنى جزء من كيانه، من كينونته ومن شخصيته، وهي – اللغة – صلته بحضارته وبنظرائه في المجتمع وشركائه في الحياة، شرطه عليهم وشرطهم عليه، يفهمهم بها ويفهموه بها، وهو المستوى الثاني للغة، المستوى الجمعي للغة، الذي سأتطرق له في تدوينة أخرى.

هيثم حميِّد… ثلم في الذاكرة

 

علي المعموري

يبدو وكأن الموت يصر أن يذكرنا ـ وبطرق عدة ـ أنه يختطف حين يهجم واسطة العقد ـ أو عين القلادة بالتعبير العراقي الدارج ـ وها هو يضرب قريبٌ للروح فجأة، بعد أن عجز عنه قبل عشرين، عاد له مرة ثانية ليختطفه بمرض أشد من الأول، كأنه يريد أن يبين رغبته الشديدة في اختطافه بالمرض لا بسواه.

عرفته أول مرة منتصف التسعينات، رغم أن أسرته بيت حميد (تلفظ هكذا إحْمَيِّد، دون تفخيم للميم كما يتبادر للذهن) الخزاعيين قد جاورت أسرتي ـ بيت مظلوم المعامرة ـ في طرف البراق في النجف منذ القدم، لكن والده  المرحوم كاظم حميد ـ الذي امتهن الخياطة على عكس بقية أسرته ـ كان قد انتقل في وقت مبكر سبق ولادتي إلى حي الصحة قرب الأسواق المركزية على شارع الكوفة العام.

منتصف التسعينات، كان هيثم قد تجاوز الثلاثين قليلا، ورغم أنه قد أجرى في شبابه الباكر عملية غسيل كلوي خطرة كانت آثار الأنابيب التي امتدت من أجلها عبر جسده واضحة، ثلاثة ثقوب غائرة في خاصرته، كأنها طعنات رمح تخترق جلده الأسمر، تلفت النظر له قبل أي شيء لمن يدخل إلى مشغله، ليجده منكبا على التصميم، في حرارة لاهبة والكهرباء مقطوع تجبره على أن يخلع ملابسه.

في تلك السنين، انتقل هيثم بمعمله الصغير إلى منزل فارغ يملكه جارنا المرحوم أبو رشيد غانم حمد الجمالي في (عكدنا) في طرف البراق، عاد هيثم إلى مهنة أسرته مخالفا مهنة أبيه، بعد أن درس التصميم في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، وانفتل ليؤسس عملا ناجحا في سنوات الحصار التي أغلقت حدود العراق، وأجبرت العراقيين على أن يرتبوا معايشهم وحاجاتهم بأي طريقة، كان معملا لصناعة الأحذية والأخفاف النسائية من الجلد، يصمم هيثم بضاعته بنفسه ويشحنها إلى بغداد، كان معمل صغير، نموذج للمشاريع الأسرية، يقوم أخوه الأكبر أبو دعاء ـ المعلم المثابر ـ بخياطة ما يحتاج إلى الخياطة بالماكنة الكهربائية في مشروع أخوه في الغرفة العلوية للمنزل، بينما يكبس عباس أخوه الثاني ما يقوم هيثم بتصميمه وتفصيله من رولات الجلد الكبيرة المسندة جنبه، وفي الصيف يعاونه أبناء شقيقاته، ثم عمل أخي الأصغر معهم لفترة قصيرة.

شخصية هيثم مختلفة عن بقية ابناء جيله من أسرته الكريمة، لأنه أكمل تعليمه في بغداد، فتغير مزاجه، وتبدلت طباعه، وصار أكثر حركية من غيره، كان أصغر أخوته جميعا، ولكنه كان لولبهم، دراسته في كلية الفنون الجميلة جعلته مرهفا، يتتبع من الموسيقى أجملها رغم التزامه الديني الذي فاق بقية أسرته، يقرأ بشغف، وكنتُ أنا، الطفل الذي جاوز العاشرة، اقضي جزء من الوقت في معمله الصغير، اساجله فيما أقرأه بمجلة العربي، سألني مرة من هو الموسيقي المفضل لديك فقلت له بيتهوفن، كنت وقتها لم أسمع أي موسيقى لبيتهوفن، ولكني قرأت عنه في العربي كثيرا، قال لي أنه يفضل ياني، ولم أكن سمعت لهذا الأشعث أيضا، ولم أتصور أنني بعد عشرين عام على تلك الواقعة سيعود بيتهوفن ليغدو الموسيقي المفضل عندي، كأنني على موعد معه، ومع هيثم الشاب البهي، الضاحك أبدا، ذي الشعر الأشيب على عادة أسرته التي تشيب رؤوس رجالها مبكراً.

آخر مرة تكلمت فيها معه كانت قبل ثلاث سنوات، كنت لم أقبل في كليتي لدراسة الماجستير بعد أو أني كنت قبلت لتوي، التقيته في فاتحة ـ مجلس عزاء ـ لوالدة أحد الأصدقاء، سألني إذا ما كنت قد بدأت بممارسة التحليل السياسي وهو يعني في الصحف والتلفزيون، قلت له انني أبعد الناس عن الرغبة في التلفزيون ووسائل الإعلام، فقال لي لا، انا اعرف انك مؤهل نفسيا ومعرفيا لهذا، وانتظر على أحر من الجمر أن أراك تبدأ بهذا العمل، انت ممتاز وأريد أن أفرح برؤيتك في مثل هذا العمل، وافترقنا، رأيته مرة ثانية قبل سنة تقريبا في مسجد جامعة النجف الدينية، كان منهمك في الصلاة، ولم أكن وحدي، حاولت انتظاره لأكلمه قليلا ولكن أصدقائي كانوا يريدون المغادرة، وبدا أنه منهمك بخشوع في صلاته ولن ينتهي قريبا.

وقبل شهرين تقريبا، جائني طلب صداقة في الفيسبوك، دخلت وإذا به هيثم القريب للقلب، الذي أصغى لي كما لم يصغ لأحد سواي، وكما لم يكن أي أحد آخر دونه في الثقافة وحسن الخلق ليصغي لطفل مثلي، وفرحت لأنني تواصلت مع محاوري القديم، كما لم أفرح بلقاء بأي لقاء فيسبوكي بواحد ممن عرفتهم في طفولتي في طرف البراق، وحده هيثم كان استثنائيا.

يا لحسرتي عليك أيها المرتحل عليلا، يا لحزني عليك، وعلى أسرتك، على أخوتك الذين وقفوا في الفاتحة مذهولين وكأنهم فقدوا عماد خيمتهم لا أخاهم الأصغر.

فاتحتك مكتظة بأهل النجف، وجوههم مثل وجوه أهلك، بانت عليها الخسارة، وشباب أسرتك اعتصرتهم الحسرة واتشحوا بالسواد.

أي كلمات نقولها في رثاء من نحب؟ وأي عاطفة يمكن أن تسد الثلم الذي أحدثه فراقهم في الذاكرة؟

كل الكلام لا قيمة له أمام رهبة الموت.

 

المدينة التي تبتعد (5)

4ـ محلات لم تعد موجودة

أولا: نوري البصراوي

حتى وقت متأخر من طفولتي، لم يكن يُسمح لي بأن أذهب لشراء ما يحبه الاطفال من مأكل كالبسكويت وما شابه إلا من محل نوري البصراوي، مُنع علي أبو عمار، الذي كنت أسمع باسمه ولا أراه، ومُنع عليَّ ماجد الدباغ الذي يقع محله على امتداد محل نوري في الشارع نفسه، وغيرهم.

أما نوري فهو ليس من أهل البصرة، بل من أسرة آل البصراوي النجفية، كان محله في غرفة أفردت من منزل اسرته الكبير الفسيح في الشارع المقابل (لعكدنا) من الجديدة الأولى، أمام منزل السيد محمد حسين شبر، الذي قام ولده الدكتور سامي ببناء عمارة محله، وأوكل أمرها إلى صديقه الحميم، عمي صاحب رحمه الله.

احتلت واجهة المحل منصة مبنية من الطابوق، أو مشيدة من الحديد، لم أعد أذكر، ارتفاعها حوالي ثلاثة أرباع المتر، أضاف لها نوري حاجز مشبك، يتيح لزبائنه أن يشاهدوا البضاعة، يسألون عن أسعارها، ثم يومئون لما يريدون فيدفعون لنوري بيد، ويأخذون بضاعتهم بالأخرى، في عمق المحل استقرت مجمدة كبيرة، وبين بضاعة المحل (الحصارية) استقر نوري بوجهه ناصع البياض، وشعره الأشقر، وعيناه الزرقاوان، هادئ كظهرية حارة.

بقي نوري رابضا في مكانه حتى سنوات قليلة ثم انتقل إلى عمارة السيد سامي شبر، بعد أن باعت الأسرة منزلها الكبير ليتحول إلى فندق.

ثانيا: خان حجي زهير

حين اخرج من (عـﮕدنا) وبامتداد ذات اليمين، بعد حوالي مائتي أو ثلاثمائة متر، أول مدخل عـﮕد آل الطريحي، كان يربض خان الحاج زهير ناجي، صديق أبي القريب، كان معملا لتشريح وتصفية الخشب، خان كبير فسيح، له باب خشبية بيضاء ضخمة، تسرح فيه أنواع الدواجن على عادة النجارين، ووسط كل هذا، كان (حجي زهير) بعضلاته المفتولة، وشعره الأبيض، وشاربه الأسود المبروم، صوته يعلو على كل صوت، صوت شجي عذب يطلقه فجأة بأبوذية، أو بموال زهيري، أقول (شلونك حجي) فيرد (هلا حبيبي)، تحيته لي ولأخوتي التي لم تتغير حتى هذا اليوم، أتذكر مرة أن الخان كان مغلق لمناسبة ما، وكان الحجي وأبي وصحبهم داخله، يعدون وليمة ما في تلك المناسبة المجهولة، لا أعرف ماذا كانوا يطبخون، ولعلها (زردة) لأن (الحجي)، أو  ـ نائبه الأول الذي نسيته؟ ـ كان يناولني كل حين (لوزة) مقشرة، تلك الذكرى أعذب ما أذكره من ذلك الخان، ومن صاحبه القريب إلى الروح.

 

نوح وكمان

علي المعموري

لا يمكن لك أن تعرف طبيعة تلك الجلسة…

هل هي جلسة خاصة، أم هي في مكان عام؟

هنالك أصوات تعزز كونها جلسة خاصة، همهمات تتداخل مع صوت (أبو داود) ترد تحيته لهم، أو تثني عليه، موجوعة من الأعماق، وقد استفزها صوته الباكي، فتتأوه مع تموجات ترديده المفجوع، وابوذياته المتشربة بالألم السرمدي العراقي.

كما ان تحيته لهم، وحديثه لعازف الكمان لا يتفقان مع الانضباط المطلوب لشريط مسجل في الاستوديو، وابو داود منضبط، كل من يسمع لقاءاته يعرف ان الرجل ليس كبقية المغنين الريفيين، وانه قارئ جيد، ومتحدث لبق يسترسل بالكلام بطريقة الشيوخ، هناك لقاء له يتحدث فيه عن تاريخ ديرته العمارة، ويصر ان يسميها ميسان، ويسوق لك السنوات التي قامت بها مملكة كبيرة على تلك الأرض، ثم يحدثك لمَ سمي بالمنكوب، رغم ان لا نكبة أصابته ولا دهاه أمر، الصفة التي عززها نواحه الريفي المفجع على طول عمره.

ولكن الصوت الواضح، الصافي، يجعلك تظن ان التسجيل تم في استوديو، ولا مجال لأن تكون جلسة عامة، أو خاصة بذلك الصفاء، حتى وإن لم تسمع سوى كمنجة فالح حسن التي تنزف وجعا، يرافقها عزف خفيض على العود، يداعب الكمان، يهدل معه، كصديق يهون على صاحبه المصاب.

كيف هبطت السكينة على تلك المجموعة؟!

فلم تسمع سوى آهات خفيضة بين وهلة وأختها، بين آه مذبوحة يطلقها ابو داود بوجع عالي النبرة، كأنه يبكي، ينوح من اعماقه، يقول لك انه منكوب، وأن هناك جرحٌ غائر في أعماقه، يحترق تحت ركام سنواته، يؤلمه، مهما نفى عن نفسه التهمة….

ولكن مهلاً، هل يفترض بمغنٍ ريفي من أعماق وجع العراق ان يكون ذا تجربة شخصية ليكون صوته، وآهته بهذا الحزن، وإن تكون نبراته بهذه العتمة السوداء المتفجرة وجعاً؟

لا احسب ذلك، ان تلك الأصوات مشبعة بالحزن والوجع منذ أول لحظة قبل فيها الرافدان وجنة هذه الأرض.

ومنذ تلك الـ(آه) الأولى التي اطلقتها أول أم سال دم ولدها على هذه التربة النهمة للنجيع.

تبدأ المقطوعة بكمنجة فالح حسن، تبكي بين يديه، تحس انه ينزف روحه عبرها، وتبكي هي ألمه، يقول له ابو داود: (ها الله ها الله، اخذه سلس، سلس) فتنساب اوجاع الكمان بسلاسة، كأنها الفراتين يخبان، فيقول له ابو داود مرة أخرى، يستفز حسراته الدفينة: (شلون خويه فالح زودني؟…شلون؟)، الكمنجة تحادثه، تخبره بوجع أم تنظر إلى الباب، تنتظر حبيبها، يحمل بيده أنفس ما كان الابن يدخل به على امه ذلك الزمان، قطعة من قماش تتبختر بها بين الامهات، ثم تنكسر بحسرة، لأن الزمن الذي ناصبها العداء، لدغها كصل خبيث، وأوجعها بضيعة ولدها.

يقرأ أبو داود الابوذية، وهو يبكي، أي والله، يبكي وهو يردد (ابني ابني ابني…)، ان صوته يبكي رغما عنه، حتى وإن لم تسل دموعه، انه الحزن القديم، كالنجيع ينساب، تحدثك به كمنجة فالح حسن، وصوت سلمان المنكوب الغارق بالحسرة، وعود خفيف يتحدث بهدوء، يخفف عنهما كل هذا الوجع.

يقول ابو داود:

وصلي وصلي

يردف موضحا: أم تكول:

اصد للباب اكول ابني وصلي

حبيبي بيمنته جايب وصل لي

ما ادري الزمن ضدي وصلي

كرصني وضيع وليدي من ايديه

المطرب الريفي العراقي الراحل سلمان المنكوب

[الرسمة: لا أعرف الفنان]

المدينة التي تبتعد (4)

علي المعموري

تتمة صور غابت

3ـ حمام جاويد (حمام كله حسين)

كانت فجيعتي الليلة بالحمام أكبر من فجيعتي بتهديمه، كنت التقطت صورة عام 2003 من أعلى عمارة الحاج مسلم حميّد للجزء الجنوبي من طرف البراق المطل على شارع السور، وكنت أحسب أني قد التقطت ضمنها الحمام بقبته ذات القمة الزجاجية المدببة الملونة، لأكتشف ان الصورة لم تظهر الحمام، الذي هدمه أصحابه.

لا أعرف متى أنشئ بالضبط، لم أدون التاريخ المكتوب بالقاشاني أعلى بوابته الخشبية الواطئة، كانت هناك كتيبة من القاشاني كتبت فيها أبيات شعرية تؤرخ على الطريقة القديمة لسنة بناء الحمام، لا أذكر منها سوى الصدر الأول من البيت الأول حيث قال الشاعر (قد بنى جاويد حماماً) ولا اذكر الابيات ولا التاريخ، رغم انه هدم منذ سنتين فقط.

يقع الحمام بالضبط في أول ركن من العمارة الجديدة المحاذية لجنوب طرف البراق، في الركن المقابل لمنزل آل يعقوب غازي السلامي جيراننا الأعزاء في طرف البراق ويمتد حتى قُبيل آخر المربع السكني ويحتل ما يقرب من نصف المربع ذاك، وفي نهايته قبيل آخر الشارع هناك مسجد صغير ملحق بالحمام سُمي أيضا جامع جاويد، ولا أعرف جاويد هذا من يكون، فأرض الحمام ملك لآل الرفيعي، و(الحممجي) الأول له كان (كلة حسين كاشي) وورثه ولده موسى أبو رضا، الذي أدركته ولا يزال حيا اليوم وقد انهكه العمر والمرض.

للحمام قسمين، الأول هو الكبير للرجال، والثاني للنساء، وبجنب حمام النساء منزل ملحق بالحمام.

والناظر له من السور ستبدو له قبته الكبيرة التي تعلو القسم العمومي من حمام الرجال، كأنها خوذة مقاتل خرج توه من كتب التاريخ، كبيرة ذات نهاية مدببة من الزجاج الملون، زجاج نيلي وأحمر غامقين، وقربها قبة أصغر، بذات النهاية الزجاجية تعتلي حمام النساء.

في الركن الغربي للحمام محل شغله أموري ابن موسى (الحممجي) وكان  (يلف ماطورات) وبجنبه محل المرحوم السيد زين العابدين الأعرجي لبيع (الطرشي) بواجهته المميزة، إذ اعتلى (فنره) قوس زجاجي ملون زاهي، وحين وعيت على الدنيا كانت البراميل الزرقاء مرصوفة أمام المحل، يخلل فيها ولده الأصغر التربوي والرياضي المعروف السيد محمد حسن بقامته المديدة التي جعلته رأس فريق كرة السلة في النجف، ثم باب الحمام، وبجنبها محل لم أعد أذكر من شغله، ثم يليه محل كبير شغله (رسول) ابن موسى الحممجي يبيع فيه المواد الغذائية، ثم باب المنزل ذاك، وتنتهي حدود الحمام مع آخر محل أخرج من أرض الحمام، وهو فرن صمون المنتظر لأصحابه السادة البو العبرة سيد رضا واخوته.

أول اجتيازك الباب الخشبي المطلي بصبغ رصاصي نازلا درجة واحدة، ستقابلك باب خشبية نصف زجاجية تلج بعدها إلى قاعة الحمام، لتجد على يمينك (استعلامات) الحمام، يجلس أبو رضا مع مناشفه ووزراته (جمع وزرة)، ثم القاعة التي تعلوها قبة كبيرة، ويتوسطها حوض ماء، وعلى الجانبين دكتين للجلوس قبل وبعد الاستحمام، على يمينك أيضا ممر يمتد طويلا يضم الحمامات الخصوصية، وأمامك مباشرة القاعة الكبيرة، العمومية، التي دخلت لها مرة واحدة في طفولتي المبكرة مع أبي صحبة أخي الأصغر، ولا زلت أذكر البخار الذي يملأ القاعة والمزاح الثقيل الذي يتبادله أبي واصدقائه، وبينهم يجول (فاضل كنوشة) المدلك.

أتذكر أبي وهو يحمل كيسه، وقد لُفت فيه منشفته وملابسه، يخطو إلى الحمام بهمة حين يعود في إجازته من الجيش، وهو يخرج كأصحابه من الحمام وقد احمرت وجوههم من البخار والضحك والدارسين، يعبر الشارع وقد لف رأسه بمنشفته، وغطى أنفه عن البرد، يدلف إلى العكد، وقد تملك دفء الحمام عظامه حتى استغنى عن المدفأة، وأتذكر أصدقائه بذات الصورة، التي بدا وكأنهم أقاموا عهدا غير مكتوب على تكرارها فيما بينهم، طقوس العودة من الحرب أحياء، والاستعداد للإياب لنارها الضارية.

هدم الحمام التراثي الجميل، وضاعت أقواسه المتعانقة كأنها العشاق، بلونها الأصفر الذي يسر الناظرين، تحتضن في جوفها ضحكات الرجال الذي نفذوا من الحرب أحياء، وأصوات خافتة تتردد بوجل بين الصحب المتدثرين بالبخار، إنها أصوات الرجال الذين ابتلعتهم الحرب فعادوا لبيوت أمهاتهم بالتوابيت، ولامست مياه الفرات أجسادهم للمرة الأخيرة على دكة مغتسل الأموات، وليس في (حمام كلة حسين)، ضاعت رائحة الرطوبة الممتزجة بالتراب العراقي، صانعة ذلك النسيم الغريب، الذي تحبه وتألفه، رغم انه دلالة للتلف.

هدم الحمام وما بقيت في ذاكرتي عنه إلا اللمم.

[زودني الاستاذ المهندس الاستشاري تحسين عمارة بالأبيات التي أرخت للحمام وهي:

بنى جاويد حماما جديدا** غنيا شأنه عن كل مدح

يفوق على سواه بكل معنى** ويرفع قدره عن كل قبح

فلو نظرته بلقيس لأبدت** لساقيها وقالت ذاك صرحي

حديث طرزه للناس أرخ ** ( وأما ماؤه للغسل صحي )

[الصورة الرئيسة هي التي تحدثت عنها في التدوينة وتظهر امتداد شارع السور حتى جبل الحويش، بعدستي 2004]

حين كتبتُ هذه التدوينة تأسفت غاية الأسف لأني كنتُ أظن انه هدم دون أن التقط له صورة، ونشرت صورة تأسفت لأنني لم احرف زاوية الكاميرا قليلا ليظهر الحمام ضمنها، واليوم بالصدفة وأنا أبحث عن صورة قديمة اكتشفت أنني التقطت بالفعل صورة ظهر فيها الحمام، قباب الحمام وسطحه وواجهته كلها، وبقدر تألمي لهدم الحمام فإنني سعيد لأنني وجدت هذه الصورة.
تظهر القبة الجصية المخروطية ذات النهاية الزجاجية المدببة التي تعتلي القاعة العمومية في الحمام، وأمامها قبة قاعة المدخل ذات الشباكين الزجاجيين وباب الحمام محصورة بين يسار الصورة والسقيفة التي تظلل محل طرشي السيد زين العابدين الأعرجي، ثم أسواق النبأ ثم باب حمام النساء، ثم فرن صمون المنتظر (فرن السادة آل أبو العبرة) أما البيت الذي أخرج منه محل بواجهة زجاجية فقد هدم اليوم وبنيت مكانه عمارة شاهقة، في الفرع المجاور للحمام يبدو منزل الشيخ نصر الله الخلخالي، الذي سكنه ولده الدكتور المحسن الطيب محمد نصر الله، ثم منزل لآل شلاش وتظهر متوسطة النجف للبنات بشرفاتها الزرقاء وجنبها منزل عبد المحسن شلاش خلفها يبدو الطابق الأعلى من إعدادية النجف للبنات، أما المنزل الذي تتوسطه شجرة سدر خلف الحمام فقد هدم وبني محله فندق كبير عالي، كذلك يظهر منزل التاجر النجفي الكبير عيسى الخلف الذي تم هدمه أيضا، كما تظهر القبة الزرقاء التي تعتلي حسينية الحاج عبد الزهراء فخر الدين، الصورة التقطتها عام 2005 من عمارة الحاج مسلم حميد على السور في البراق، ولو وقفت اليوم ذات الموقف فلن تجد هذا المشهد مطلقا.

الصورة أدناه يظهر فيها الحمام

IMAG0001

المدينة التي تبتعد (3)

صور غابت

1ـ السبيل

لعله نُصب في موضعه مباشرة بعد هدم ما تبقى من الجهة الجنوبية لسور النجف، الممتدة في طرف البراق، بين الركن الشرقي الجنوبي، ومدخل شارع الرسول، بعد حوالي خمسين متر من مرقد (بنت الحسن) الذي هو على الأقوى مرقد (المحقق الكركي).

وعيت على الدنيا فكان منتصبا، أمام دكان المرحوم كاظم حميدي، صندوق خشبي أخضر اللون، تآكل صبغه رويدا، وتضعضعت جلسته، تدلت منه ثلاث أو أربع حنفيات، أول لعلهما اثنتين فقط، لا أذكر بالضبط، وتدلى منه قدح ماء سميك من (الستيل)، ربط بسلسلة اسوَّد لونها، ومن الخلف تسلل إلى جوفه انبوب مياه انبثق من الأرض.

كانت الألواح قد تباعدت فيما بينها، ولكن المياه كانت تجري من حنفياته دون كلل، وإن كانت أطرافه تنز قطرات مياه دائمة لكنها لم تكن تتناسب مع كونه خشبيا مضعضعا، لغز لم أفهمه إلا بعد وقت طويل، كيف يمكن لصندوق خشبي متآكل، تفلجت ألواحه كأسنان مهاة أوشكت أن (تحيل) كيف يمكن أن يكون سبيلا للمياه؟

نعم أراها جميلة كأنها أسنان مهاة أوشكت أن تحيل، انطباعي أنا!

كانت عمتي قد منعتني من الشرب منه، لأنه مشرب للغادي والرائح، ولأنه مورد (العربنجية) المرابطين هناك ونميرهم، منه يملئون (سطلات) المياه لحميرهم، ومنه يشربون، حتى جاء اليوم الذي قررت فيه أن أكون شجاعاً وأكسر المنع، فشربت من السبيل، ولم تكن المياه تختلف عن مياه المنزل، هي بذاتها.

كنت أمر قربه بوجل ، أهابه وأعجب به، واتسائل متحيرا، كيف تحتفظ هذه الألواح المفككة بالمياه السائلة داخلها، حيرة ما بعدها حيرة.

وأغرب ما علق بذاكرتي عن ذلك السبيل أنني طوال عمري لم أشاهد أحدا يضع الثلج فيه، إلا مرة واحدة، شاهدت من بعيد (خضير جلعوط) صديق أبي الحميم ومعه صديق آخر لا أتذكره اليوم، فتحا غطاء السبيل، وأخذا يكدسان قوالب الثلج في جوفه، ثم أحضرا بطانية ثقيلة، ولفا بها الثلج، لتزداد حيرتي، كيف يُلف الثلج بهذه القذارة ويفترض بنا أن نشربه، كنت متحيرا، فذهبت لأتساءل، لا إذكر أذا كان أبو حيدر (خضير جلعوط) هو من رفعني لأستكشف داخل السبيل أم رفيقه، بل أني لا أذكر إذا كنت قد رفعت غطائه مستكشفا بنفسي أم أن ابو حيدر هو من وضّح لي الأمور، لكن الحيرة تبددت ساعتها، واكتشفت أن نظام مياه السبيل الأسطوري ما هو إلا أنبوب حديدي طويل، التوى على نفسه مرارا وتكرارا، حتى غدا كجوف الإنسان، كأمعائه الملتفة على نفسها، تديم حياته ما بقيت نشطة الالتفاف، وأن الثلج المكدس فيها يعمل على تبريد الانابيب، والمياه تسري فيها، فتخرج مثلجة تبل عطش الشاربين.

بقي السبيل حتى نهاية التسعينات، ثم اقتلع من مكانه وابتنت البلدية مكان السور القديم محلات تجارية، وانثلم جزء حميم ودافئ من ذاكرة طفولتي.

2ـ أبو عماد المضمد.

لا أحسب أن أهل النجف وثقوا بطبيب ثقتهم بهذا المعاون الطبي القادم من نواحي النجف، لعله من أهل المشخاب.

كان محله حين وعيت على الدنيا يقع في شارع الصادق، قبيل (العـﮕد) المؤدي إلى (عـﮕد بيت المعمار)، كانت هناك شبه ساحة مربعة يشطرها شارع الصادق نصفين غير متساويين، يقع محل أبو عماد في الزاوية الغربية من النصف الجنوبي للساحة تلك، لم يكن يضع لافتة، بل كتب على زجاج محله أبو عماد المضمد فقط.

لا احسبني مبالغا إذا قلت أن ألوفا من الناس مرت من بين يديه، المجروح والمعلول، الطفل الصغير الذي يطهره ـ نافس بذلك غريمه (المطهرجي عباس كشكول) ــ كان أبو عماد أقرب إلى الأسطورة الطبية، يذهب إليه واحدهم بثقة تامة، ويصدر عنه أشد ثقة به، وقد زرقه إبرة، أو ناوله دواء، أو خاط له جرح غائر.

وبعد أن بنيت تلك الساحة وانتهى عهدها، انتقل إلى محل جديد خلف بناية (خان الشيلان) نهاية (عـﮕد السادة آل جريو)، وبقي فيه، متسلطنا على مشاعر الناس، اذكر ان مضمدا ماهرا جاوره، سمعته مرة يقول متذمرا من هذه الجيرة: (هذا الشايب قطع رزقنا) وبالفعل، فحتى بعد أن شاب ابو عماد، وترك العمل بيده، ووظف من يعمل عنه، بقيت الناس تذهب إلى أبو عماد ما غيره، حتى وفاته رحمه الله.

يتبع…

[الصورة، قمة ما تبقى من سور النجف في زاويته الشرقية الجنوبية]

 

تجارب واعتذارات ثلاثينية

كنت عازما أن أبدا يومي هذا بالسخرية من صفحة على الفيسبوك مرت أمامي صدفة اسمها (نقد العقل العراقي)، وأردت ان اسلق الصفحة بالقول أنها أبعد ما تكون عن الفهم، وعن النقد وعن العقل، لكن (تاريخ اليوم) ذكرني بأني لم أكن اختلف عن هذا الفتى الذي يديرها، من الواضح انه فتى صغير، صغير نضجا وتفكيرا ومعرفة على الأقل، من الواضح ان مصادر معلوماته محدودة وضيقة، وأنه قد انتقل بعنف من خندق إلى آخر، ولكني لم أكن أقل إيمانا منه بالمطلقات، وكانت الأمور بالنسبة لي ـ كشخص درس المنطق الأرسطي ـ إما ان تكون سوداء أو بيضاء، واحتجت الى وقت طويل، والكثير من التعلم والقراءة، والكثير من السفر والتعرف إلى الآخر قبل أن أبدا بفهم نسبية الأشياء، وارتباط تاريخ الأمم بسياقها، وتلون عقائدهم بتجاربهم الجمعية، احتجت الى الكثير من الكتب، والكثير من الكتب التي ترد على الكتب الأولى، انبهرت بمحمد عابد الجابري، ثم بعثر جورج طرابيشي ذلك الانبهار، وبصّرني بأن الإنسان ومهما بلغ من العلم، فإنه لا يتخلص تماما من ذاته، وإن حرصه على ذاته مدمر ما لم يحرص على ذات الآخرين بالطريقة نفسها، ورجعت لأحاسب نفسي، وأراجع أخطائي المعرفية، قبل أن اسلق من لم يتهيأ لهم من الظروف الطيبة ما تهيأ لي ومكنني من التعلم، ومعرفة أدوات العلم.

على مستوى بسيط، وجدتني قبل أيام قد سخرت بعنف من شخص متواضع المعرفة ولكنه يدعيها، رغم اني في الظروف الاعتيادية أكره ما أكره أن اسخر من الآخرين، وبررت لنفسي تلك السخرية بأن الرجل كان يسخر من مفكرين عظماء عجز بتفكيره المحدود عن فهمهم، لذلك فالسخرية حق فيه، ولكني كنت مخطئاً، لأن السخرية ليست أداة المعرفة المثلى، ولأن المتخندقين يزدادون ضرواة لو هاجمت خنادقهم وهم فيها، ولأن قليلي المعرفة انتحاريون فكريا بطبعهم، ولا يجدر بالباحث عن المعرفة إن يعترك معهم بهذه الطريقة، وإن الأفضل مع أمثاله هو تركهم، ومحاولة الحوار مع الشباب الدائرين في فلكهم، ثم وجدتني اسرد تجربة شخصية مع طبيب أراه جشعا، ورغم ما انفقته في مراجعتي له لم أشف، لكني شفيت على يد طبيب آخر كان غاية في النبل، فنبهني صديق عزيز الى أنني اسرد تجربة شخصية قد أجدها معكوسة عند شخص آخر مع ذات الطبيبين، ووجدتني مخطئ مرة أخرى، فأعتذرت له وأغلقت المنشور.
نحن في النهاية بشر، خطاءون، ولسنا آخر الأمر سوى مجموع أخطائنا، وقد تحولت الأخطاء الى تجارب، وصارت اعتذاراتنا عنها هي الأمر الوحيد الذي يمنحها السماح من الآخرين.

الصورة للمبدع العراقي مرتضى ﮔـزار

زهاء حديد…ومعضلة الانتماء العراقي

ما هو الانتماء؟

وما هي الهوية؟

ولم نضيق على الآخرين وما يرغبون في قوله؟

هناك الكثيرون ممن تضايقوا من كثرة ما نعى العراقيون الراحلة (زهاء حديد) على الفيسبوك، قال بعضهم انها لم تعد نفسها عراقية يوماً، وأنها لم تتكلم العربية في أي لقاء ظهرت فيه على الاطلاق، وكنت مثلهم في القول حتى شاهدت الرابط المرفق بهذه السطور، فتغيرت وجهة نظري لا في زها وحسب، بل أعدت النظر في أصل موقفي من انتماءات العراقيين المبدعين الذين لم ينسوا أصلهم ولم يتنكروا لجلدتهم.

وبعضهم لام الراحلة لأنها لم تنفق على العراق، وهي تقول أنها ليست ثرية، وبغض النظر عن ثرائها المزعوم فهو إذا كان حقيقيا ليس سوى كدها وتعبها، وليست ملزمة تجاهكم إلا معنويا، أكيد كان ليذكر لها تبرعها كمنقبة كما ذكر لمن بذل للعراق، ولكن إعراضها لا ينتقص من قدرها إطلاقا.

طيب، قلت مرة هنا أنني لا اتفاعل مع أعمال زهاء حديد المعمارية، لأني ابن البيئة العراقية والعمارة العباسية، ولا أتفاعل مع الحداثة في الأدب والفن، أحب أعمال محمد مكية ورفعت الجادرجي، ولا أرتاح للبنايات ذات الكلف العالية التي كانت زها حديد تأتي بها من الأساطير، ولكني سأكون أقبح الناس إذا غمطت ابنة محمد حديد حقها، وقللت من شأن منجزها المعماري، لقد غيرت تلك الراحلة وجه العمارة، وجملت وجه الدنيا بما انجزته، كانت ملكا للانسانية قبل ان تكون ملكا لوطن أو لقومية أو لعرق، فلماذا تتضايقون ممن نعاها؟

يبحث العراقيون عن أحد، أي احد ليتفقوا عليه، ينقبّون عمن يرمم ذاتهم المهشمة، ويلملم كرامتهم الجريحة، فتأتون بمعاول (الاختلاف لأجل الاختلاف) وتنهالون عليهم ضرباً

لماذا؟ ما هو الهدف؟

على الأقل أفضل من أن ينشغلوا بهرجات الفيسبوك والسباب الطائفي.

طيب، هل تظنون أن زها حديد كانت لتنجح في العراق، إن نجاحها ارتكز بدرجة كبيرة على وجود البيئة الحاضنة للإبداع، ولا أحسب انها كانت لتبلغ ما بلغت لو بقيت رهنا لآليات مجتمعنا الراكدة، لقد بلغت ما بلغت لأنها انطلقت في مكان آخر وليس في هذه البيئة الملغومة.

من نحن لنحاسب الناس على انتماءاتهم، ولم نضيّق علاقتنا بالآخرين على أساس الانتماء الضيق، كل مبدع إنساني هو موضع محبة وتقدير عندي، مهما اختلفت معه، مهما عجزت عن فهمه، وخسارة كل مبدع هي خسارة شخصية لي، فكيف إذا كانت المبدع هذه المرة امرأة عراقية تقول بكل ثقة، بكل كبرياء وأنفة:

(أنا عراقية عربية، لست بريطانية).

مهما رطنت زهاء بالانجليزية، إنها عراقية كما تريد وكما ترغب وكما تشاء، ولا أحد يمتلك القدرة على أن يسلبها عراقيتها.

لقاء مع زها حديد…انا عربية عراقية

[الصورة: مركز ثقافي من أعمال زها حديد، ألا تذكركم بمضيف القصب في الأهوار؟]

موقع آخر في Arablog