اللغة والهوية (1)

الهوية من اعقد المفاهيم الشائكة ذات الابعاد المتعددة، وهي تتضمن عناصر متداخلة مع بعضها، أولها العناصر المادية التي تضمن بدورها عناصر القوة الاقتصادية والعقلية والتنظيمات المتعلقة بنظام السكن والتنظيم الاقليمي، فضلا عن الانتماءات الاجتماعية والاختلافات الأخرى المميزة.

وثاني هذه العناصر هي التاريخية التي تتضمن تاريخ الاسلاف والموروث الرمزي والرموز البشرية، آليات التنشئة الموروثة، والمعايير الاخلاقية الموروثة وتطورها وما تأثرت به خلال تطورها.

المجموعة الثالثة هي العناصر الثقافية النفسية، تضم النظام الثقافي، بما يحتويه من عقائد وايديولجيا وقيم ثقافية واشكال التعبير عنها، فضلا عن العناصر العقلية التي تنصرف إلى التقاطعات الثقافية والاتجاهات المغلقة والمعايير الجمعية والعادات الاجتماعية.
وأخيرا العناصر النفسية والاجتماعية، التي تضم أسسا اجتماعية تشمل الاسماء، المركز الاجتماعي، العمر، المهنة، الجنس، وغيرها، فضلا عن الاختلاف في مستوى الكفاءة والتقدير الناجم عن ذلك، نقلا عن: اليكس ميكشيللي، الهوية، ترجمة د. علي وطفة، (دمشق: دار الوسيم للخدمات الطباعية، 1993)، ص18ــ20.

لو قاربنا اللغة من منظور الهوية الذي ذكرناه باختصار عن اليكس ميكشيللي في البوست السابق – اضغط الهاشتاك أدناه للاطلاع – فسنجد أن اللغة تشكل خيطا رابطاً بين كل عناصر الهوية تقريبا بمستوياتها التي ذكرها ميشكيللي، سنجد اللغة حاضرة في العناصر التاريخية، وفي العناصر الثقافية القيمية فضلا عن العناصر النفسية الاجتماعية.

وإن لظهورها المتكرر هذا مستويين أيضا، الأول مستوى ذاتي فردي، والثاني مستوى جمعي.

على المستوى الفردي، يقول علماء النفس والاجتماع أن بقاء الإنسان خلال العشرة سنين أو 13 عام الأولى من عمره في مكان واحد وفي مجتمع واحد سوف تطبع لا وعيه بطريقة عميقة ستجعل عناصر ذلك المكان من تاريخ وقيم ومعايير للحياة وحتى مناخ المكان هي المشكّل الأكبر لردود فعله العاطفية، ولنضرب مثالا على ذلك، اسأل أي مغترب قديم تنطبق عليه هذه الملاحظة – ملاحظة العقد الأول من العمر – اسأله عن اللغة التي يشاهد بها أحلامه سيقول لك انها اللغة التي تعلمها من أمه لا غيرها، كذلك فإن كل من غادر بيت طفولته القديم الذي قضى فيه شطر حياته الاول والأكثر سعادة من ناحية كون الطفولة مرحلة عدم الالتزام ومرحلة انحسار الهموم الانسانية، ستجد أنه وبالرغم من بعد الزمن وطول المدة التي غادر فيها مسكنه الأول ستجده أنه لا يشاهد نفسه في أحلامه إلا في بيته القديم، وأكثر بروز للاوعي الانسان يكون في الأحلام.

وبهذه الكيفية تشغل اللغة الموقع المركزي في حياة الفرد بمعزل عن محيطه، وهي وسيلته الاولى للتعبير عن علاقته بالأشياء، عن الحب والكره، سبيله إلى الفهم وعدم الفهم، وهي لا تتشكل بمعزل عن ذات العواطف هذه، بل هي وليدتها، يتلقف الإنسان لغته من أول الكائنات التي تغمره بالحب مع اللغة وهي الأم، حتى تغدو أكثر من مجرد وسيلة للتعبير، بل تأخذ ركناً مهماً في ذاته وفي طريقة علاقته بالآخرين، تغدو اللغة انعكاسا للطريقة التي تمت تربيته بها، يقلد الطفل نبرة أبيه ولهجته وطريقة كلامه، تصير معيار التعبير عن شخصيته، عن ثقته بنفسه، عن انتصاراته وهزائمه الفردية، يعبر عن نفسه بها بطريقة ميكانيكة لا تحتاج إرهاقا في استحضار المعنى، لأن المعنى جزء من كيانه، من كينونته ومن شخصيته، وهي – اللغة – صلته بحضارته وبنظرائه في المجتمع وشركائه في الحياة، شرطه عليهم وشرطهم عليه، يفهمهم بها ويفهموه بها، وهو المستوى الثاني للغة، المستوى الجمعي للغة، الذي سأتطرق له في تدوينة أخرى.