arablog.org

رسالة من الموصل (2) الفئران

رسالة من داخل الموصل الأسيرة، كما وردتني (بتصرف):
حين سقطت آخر دولة للمسلمين في اسبانيا، وغادر آخر أمير من بنو الأحمر تلك الأراضي التي حكمها ذات يوم، وبدأت الملكة إيزابيلا وزوجها ـ كأي ملك منتصر يحمل الدين وزر سياسته ـ بفرض أوامر ترك الإسلام، ومنع الكلام بالعربية أو قراءة القرآن على المسلمين الذين تم إجبارهم على ترك دينهم بالقوة، في ذلك الحين الغابر؛ ابتكر المسلمون الذين صاروا يطلق عليهم (الموريسيكيون) أي المدجنون لغة خاصة بهم، كانوا يكتبون بها تعاليمهم، وينقلونها جيل عبر جيل، هذا هو حالنا في الموصل اليوم.
لعلكم تتفقون معي بأن أكثر الحيوانات قذارة من تلك التي تدخل منازلنا هو الفأر، حيوان طفيلي قذر، لا هو بالجميل فيدجن، ولا بالنظيف فيقتنى، ولا هو بالمسالم الذي لا ينشر أذانه حيث مر فيترك وشأنه كغيره من الضيوف التي تدب في نواحي البيت، وقد نترك لها الطعام في مساربها، رحمة ورأفة وأداء لواجب الضيافة، كلها تهون، إلا الفأر، القذر المؤذي القبيح.
بربكم، هل هناك مناسب وصف ينطبق على أولئك القذرين الذين أطبقوا بنتانتهم على مدينتي العطرة أكثر من كونهم فئراناً؟
وها نحن، مثل أي إنسان يقع تحت سيطرة السفاحين، صرنا نكنّي عنهم بالفئران، نسمهم بما هم عليه، وحين نجتمع، لكي يشد بعضنا أزر البعض على هذه الأيام العصيبة، نفكّر كيف سيطردون، كيف سيتم تطهير البيت العطر من هذه الوجوه القبيحة، نكني عنهم خشية أن يسمعونا.
بالأمس كنت في بيت أحد الأصدقاء، ولما طال الحديث عن تلك الفئران الغازية، هب ابن صديقي بوردات عمره الخمس وقال بصوته الذي لا يشبه إلا الموسيقى العراقية العذبة: أنا أعرف كيف أطرد الفئران، وإذ انتبهنا متعجبين للولد وسألناه كيف؟ ليفاجئنا بخطة هي أكثر عجبا من ثقته بنفسه، بما أخبرنا أننا نقف على هذه الأرض، وقد غرزت أقدامنا فيها عميقا، كجذور النخيل السامقة أبدا، قال الطفل: سأمسك المزمار وسأخرج أطوف في كل شوارع المدينة ويتبعوني حتى ارميهم في حفرة واحدة ونحرقهم للابد كي لا يعودوا لازعاجنا ابدا.

عن الفقدان وعبثية خيارات الموت

حسنا في أحيان كثيرة يبدو عريان السيد خلف محقا جدا وهو يقول

عمت عين الليالي وهجم بيت الموت

يتخطى الرعيع وياخذ الماجد

أنا اعرف ذلك بتجربة شخصية، وربما تعرفون بدوركم الكثير من النماذج والإثباتات لهذا البيت المرعب.

واحسب اننا نشعر بذلك الشعور في أحيان كثيرة عند فقدان من نحب، من يكون لهم موقع مؤثر في حياتنا، أصدقاء، وأساتذة، وأسرة، ولعل شعورنا الطاغي بالحزن، وألم الخسارة هو ما يجعلنا نتوجه بأبصارنا فورا الى الأشخاص الذين نشعر بالغضب تجاههم، ونراهم سلبيين، مؤذين، ليس لنا وحسب، ولكن لكل من يحيط بهم.

ولكننا نغفل في ذات الوقت أن لهؤلاء الأشخاص من يحبهم، ويراهم مثاليون، له معاييره ومعاذيره في ذلك، صديق أو فرد من أسرة.

ورغم أني اذهب إلى نسبية كل ما يتعلق بالانسان، سلوكا وعقيدة، وأنه ابن بيئته، ونتاج تنشئته، لكن رغم ذلك، ورغم أن الله اللطيف لا يزال يحيط بحفظه أغلب من أحبهم ويهمني أمرهم بشكل شخصي، رغم ذلك، لا زلت اتذكر قائمة من الأسماء التي عددتها حينما علمت بمرض صديقي الراحل علي الغريفي وودت لو يكون المرض قد اخترمهم دونه، وغضبت وشتمت تلك القائمة بعنف حينما أخبروني بوفاته بعد وقت قصير جداً.

لا أعرف إذا كنا نتألم لهؤلاء الراحلين ونتمنى أن تصيب المكاره آخرين – يستحقون الثرم في أحيان كثيرة – لا أعرف إذا كان شعورنا هذا نابع عن محبة أم عن أنانية، نابع من حزننا أم من أدراكنا لحاجتنا لوجود هؤلاء الأحبة في حياتنا، حياتنا التي ستبدو وكأنها مصابة بخلل عميق بدونهم، ولكن حتى هذه الانانية في هذه الحالة هي أنانية غير مستقبحة.

شقيقي الصغير، انت تعرف أن اخوك فاشل في مواساتك بصوته، وأنه يلجأ إلى الكتابة ليعبر عما يدور بداخله، ولأنها تجربتك الأولى بوشوك فقدان شخص قريب لروحك كصديق، كناصح، كأخ أكبر، ولأني رأيتك متأثر كما لم تكن من قبل، ولأنك لطالما أبديت مشاعر عميقة معقدة تجاه صاحبك الذي أصابه المرض الذي يقطع الرجاء، ويدور في هذه البلاد بجنون يخبط ذات اليمين وذات الشمال، متخيراً – كما نزعم ويزعم عريان السيد خلف – خير الرجال والنساء، لهذا كله اكتب لك خصيصا هذه الكلمات.

أن هذا الألم الشخصي، مرتبط بالتباس ذاتنا في إيجاد عذر منطقي يفسر لماذا يختار الموت أكثر الأشخاص نبلا في حياتنا ويعدو تاركا الآخرين الأكثر وضاعة وقبحا؟ لماذا يموت الذين هم الأكثر عطفا ورعاية لأسرهم وأحبتهم، ويظل الذين يشكل وجودهم سما لكل ما حولهم يمشون على طولهم، يتنفسون الهواء، ويشربون ويأكلون ويسرحون ويمرحون؟ لا أعرف حقا إجابة منطقية لهذا السؤال ولكني أعرف أن هناك أيضا آخرون نبلاء في حياتنا، وأن هناك الملايين من النبلاء الذين يحيون بصمت، ويسبغون الرحمة على من حولهم وإن لم نعرفهم، وإن لم يعرفهم عريان السيد خلف.

هناك ومضة قرأتها في التسعينات، لا تزال تطرق أذني منذ ذلك الوقت، تقول:

لا تـﮕلي الموت حاقد على الأنام

الموت صاحب ذوق أزيدنك علم

جرب بنفسك ومر آعله الورود

أحلى وردة تروح تـﮕطعها وتشم

أعرف ان الشاعر يحاول أن يعزي نفسه بهذه الكلام، وأن كلماته لا تضارع حقيقة عريان المرعبة، ولكننا في النهاية جميعا راحلون، وكل ما يبقى منا هو ذكرنا، وخير الميراث الذكرى العطرة، والسيرة النبيلة، وهو ما عليه صاحبك…

أخوك

[الرسمة للعراقي: ميثم راضي]

رسالة من داخل الموصل الأسيرة

وردني من داخل الموصل الأسيرة (بتصرف)
خرجت اليوم كخروجي كل صباح مثقل بعتمة القبيحين الذين استباحوا مدينتي العريقة، متوجس من النهار، ادعوا الله ان يجعله يتعدى على خير، وأن يدفع عني الاحتكاك بهؤلاء الخارجين من زوايا التاريخ الموحشة المتوحشة، على أمل بطلوع شمس العراق الحرة مرة أخرى ليجلو ضيائها وجه هذه المدينة التي غار بهاؤها في وجنتها الندية.
كنت اقترب إلى المحل وأنا أبث هواجسي لأعماق نفسي خشية من الهواء الملوث بآذانهم الكريهة، اسعى إلى دكاني لأقيم أود اسرتي، وإحساس غريب يدور في أعماقي لم أعرف كنهه.
وصلت قرب باب المحل وإذا به مفتوح وعهدي به البارحة مقفل على يدي، لاحظت وجود امرأة وأطفال تبع لها، تراجعت مبهوتا، وإذا بسحنة رجل منهم تقتحم بصري، بادرني بالسلام ـ ما أبعدهم عن السلام واهله ـ وقال (لقد هربنا ليلة امس من القصف في الجانب الايسر ولم اجد مكانا إلا هنا)، كانت لهجته مغاربية، سألته لأكسر التوتر الذي قد يبين شعوري أمام هذا القادم من مجاهل التاريخ وأقاصي الأرض قلت: من وين حضرتك؟
فرد، أنا تونسي، ثم استطرد كالمذنب الذي يهرب بنفسه عن تهمة قبيحة (جئت بنية وانا الان بنية اخرى) وعاد فجأة ليسألني (ماذا تتمنون لنا) بماذا اجيب هذا الذي لابد أن تكون يداه قد تلطخت بدماء أخوتي وهو يبحث عن جنة مزعومة، بمَ أجيبه وبداخلي غضب تجاهه يعلم الله مداه، سكتُ ولم انبس بكلمة، فأعاد عليَّ سؤاله المرعب، هنا وكلته لربه الكريم المنتقم من الظالمين وقلت ان يجزيكم الله على قدر نيتكم وفعلكم، فضحك بروح شريرة وقهقهة شيطانية مرددا (ليس اكثر من هذا ليس اكثر من هذا) كانت المرأة والاطفال قد ركبوا السيارة، فاستدار الشيطان وقال لي وهو يخطو نحو سيارته (لم يعد لنا مكان امن في هذه المدينة …حان وقت الرحيل) نعم أيها المعتدي، لقد آن وقت الرحيل، والله المنتقم لنا منكم، وهنا عرفت أصل ذلك الشعور الغريب في أعماقي، انه الأمل، المعزز بتاريخ هذه الأرض العصية على الغزاة منذ أن نزل فيها الانسان الأول، أنه أمل عراقي يحميه رب العراق.

وودي آلن

علي المعموري

كل مرة اتورط فيها واعتزم مشاهدة فيلم من آخراج وودي آلن افشل في أكماله حتى المنتصف، رغم انه يحرص دائما على ان تكون هناك ممثلة واحدة على الأقل تجرك جراً برقتها لمشاهدة الفيلم ــ من الأمور التي لاحظتها أيضا ان أيا من النجوم الكبار من عيار آل باتشينو وروبرت دينيرو لم يمثلوا في أي من افلام وودي آلن، بل انه يتجنب النجوم الذكور الكبار على الدوام، وقد أكون مخطئا لا أعرف ــ لكن كالعادة، فإن آلن الذي يكتب بنفسه أفلامه يقتلني بقصته رويدا، يحاصرني بحوارات طويلة عريضة يؤديها الممثلون بطريقة وودي آلن نفسه، وأسلوب تمثيله الفاقع المبالغ والبارد في ذات الوقت، لأفقد قدرتي على المتابعة، وأفرّ راكضا عن الفيلم، مضحيا بالجميلة التي تخطر فيه.

طيب، أفلام وودي آلن ليست افلاما استهلاكية، انها أفلام ذات مغزى، كما انه يستخدم حيلا فنية ورموز كثيرة تجبرك على الانتباه لكل تفصيلة لكي تربطها لاحقا بمشاهد أخرى، وهي أمور أحبها بشغف، فما هي مشكلتي مع الرجل وأفلامه إذن؟

حسنا، لعل اكثر ما يقتلني بها هو إيقاعها البطيء الجامد بدرجة تكاد تكون مفتعلة، لا أعرف لماذا اشعر بذلك، بالاضافة إلى أن هناك أمر غريب يتعلق بشخصياته، يتصرفون في أحيان كثيرة كأنهم آلات، أو روبوتات لا حول لها ولا قدرة تجاه حياتها، ولا يستطيعون ملاحظة التناقض الكبير في سلوكياتهم وقراراتهم المفاجئة غير المفسّرة، ثم جمود مشاعر شخصياته بدرجة كبيرة رغم تفاني الممثلين في بث الحياة بتلك الشخصيات، كيف يمكن ـ مثلا ـ ان تهيم الشخصية التي تؤديها البنفسجة الرقيقة إيما ستون في فلم (Irrational Man 2015) بصورة مفاجئة باستاذها العصابي، ثم تقنع نفسها بأن لا مشكلة في ذلك، بالرغم من وجود حبيب في حياتها تصرح أكثر من مرة بأنها تحبه، ثم وبعد ان يحاول الاستاذ قتلها فيقتل نفسه عرضيا تضحك وتتجاوز الموضوع بسرعة كبيرة، كل هذا بظل حوارات طويلة تبدو اقرب إلى الثرثرة مهما حرص على استدعاء كيركيغارد وهايدغر لنص الفيلم باعتبار الاستاذ القاتل والطالبة متخصصان بالفلسفة.

************

على أي حال، من حيل وودي آلن التي أشرت لها وتضمنها الفيلم هو الطريقة المسرحية التي مات بها البطل أستاذ الفلسفة، المرتبطة بمشهد سابق.

فقد اصطحبته تلميذته الجميلة إلى مدنية الألعاب، وهناك ربح من أجلها في لعبة التصويب هدية، وترك لها حرية الاختيار من بين الهدايا التي تعرضها صاحبة اللعبة، فاختارت مصباحا يدوياً! فقال لها ممتاز، هدية عملية، أليست مفارقة ان تختار تلميذة مصدراً للضوء كهدية من استاذها، ما هو واجب الاستاذ سوى أن يكون مصدرا للضياء؟

بمهارة عالية لا يترك وودي آلن الاستاذ ليختار الهدية، بل تختارها التلميذة نفسها، من بين أمور أخرى قدمها لها استاذها، انه واجب التلميذة بقدر ما هي مسؤولية الاستاذ، الذي يعريه آلن مسبقا بجعله يمنح خيارات عدة تكون التفاهة والقبح من بينها، ويذهب أبعد من ذلك حينما ينقل القبلة بين الأستاذ والتلميذة عبر مرآة مشوهة وهو يرمز للخطأ والتشوه الذي يشوب هذه العلاقة الخاطئة.

ويرتبط هذا المشهد بالمشهد الذي يموت فيه الاستاذ وهو يحاول قتل تلميذته، التي باح لها بقتله لأحد القضاة إحقاقا للعدالة، فانقلبت البنت عليه، ليقرر قتله برميها في بئر المصعد في البناية التي تدرس فيها العزف على البيانو وإثناء محاولته جرها ورميها، تسقط حقيبتها، وتتناثر أشيائها على الأرض ومنها مصباحها اليدوي الاصطواني ذاك، ليتدحرج الأستاذ عليه، ويسقط في بئر المصعد ميتا، تحمل البنت المصباح المضاء وهي تضحك، إنها إشارة إلى تطور الافكار عبر الأجيال، وإن فكرة منحها الاستاذ لطالبه، سوف تكبر عند الطالب، لتنهي القيم القديمة التي ارتكز عليها الاستاذ وجيله، لا بل تقتل تلك الفكرة، وأن الضوء يقتل العتمة، وأن الأفكار الجيدة والنبل ينتصران على الشر، وهي لعبة يلعبها وودي آلن على الدوام.

استطيع القول ان الفيلم يتضمن فلسفة جميلة تتناول كيف يمكن ان يتحول المثالي المفرط بمثاليته إلى مجرم يبرر لنفسه القتل، فضلا عن قدرة فتاة جميلة مثل التي تؤدي ايما ستون على لعب دور في تغيير حياة رجل غارق بالكآبة الفلسفية، لكن أسلوب وودي آلن ورتابته القاتلة كتم على أنفاسي حتى لم استطع إكمال الفيلم.

عن الفيلم

imdb

 

(Black or White (2014

علي المعموري

لن أكتب شيئا عن هذه التحفة، سأقول فقط استنتاجي الشخصي المرتبط بقصته وبتجارب أخرى.

خذ أي رجل ناجح، مستقر عائليا، أي رجل، واسلبه امرأته، سكنه التي يأوي إليها، وتفرج على الفوضى التي أحدثتها.

دعك من الناجح، ودعك من المستقر، المحب لأسرته، خذ اتفه نموذج تريد من الرجال، واسلبه المرأة التي تقوم على شأنه، وانظر لحجم الفوضى التي ستعم حياته، هو يركض ليتزوج غيرها، لأنه يعرف انه لا قيمة له بدون تلك الشريكة، مهما احتقرها، ومهما آذاها، بدونها هو محض يباب.

لهذا، فإن الرجل الذي لا يتزوج، لا يجلب شريكة لحياته، والذي تمنحه أمه التوازن اللازم ليحمي روحه من البعثرة، هذا الرجل؛ يكون أكثر مناعة من الإصابة بالفوضى في حالة وفاة أمه، لأن هناك حد بينه وبين أمه، تفصيل غامض، يمنحه الثقة والاستقلالية، يحميه من الانكسار والشعور بالحاجة إلى الغير، منحة الأم الثمينة، أما الشريكة، فمعها تكون الثقة متلازمة مع الحاجة إليها، لهذا يتحطم الرجل الصالح تماما إذا غابت شريكته، يفقد كل قدراته الاستثنائية، يفقد طريقته المعتادة بالأكل، بالنوم، بالشرب، حتى تنفسه للهواء يختل فلا يدري ماذا يصنع بنفسه، وكيف يتعامل مع المسؤوليات التي لم يكن يعرف بوجودها، وأدرك فجأة أنه لا قيمة له بدون وجود شخص يؤديها عنه، كما يؤدي هو مسؤوليات أخرى متممة لها، واتضحت له انجازات صنعها، يخالها الناس عظيمة  وكانت لتبدو تافهة، لولا تلك اليد الحانية التي دعمتها ومنحت صاحبها الثقة للعمل.

على هذا، الأم تمنحك الثقة لتستقل حتى لا تحتاج لها بعد رحيلها، رغم الثقب الذي يتركه رحيل الأم في كل قلب سوي، ثقب لا يلتئم مهما تطاول زمنه، أما الزوجة، الشريكة، فتمنحك الثقة لتعود للمزيد مرارا وتكرارا، حتى تصير مدمناً، تعم حياتك الفوضى بدون دفعات الحب والثقة المتكررة التي تمنحها لك الشريكة.

وعليه: لا زواج.

دعكم من هذا، كيفن كوستنر كان استثنائيا، على طوال الفيلم، أما المشهد الذي ارتقى فيه منصة الشهود في المحكمة، متنازعاً على وصاية حفيدته، في هذا المشهد كان أن يخرج علينا من الشاشة!

فيلم رائع، فيلم يشاهد، ولا يُحكى عنه…

Black or White 2014

Director: Mike Binder

للمزيد عن الفيلم على موقع: imdb

مرتضى كزار

انتبه! أنت أمام حزمة من المواهب، روائي، رسام، مخرج سينمائي، عدا كونه مهندس نفط، توحدت في شخص واحد!

كنتُ محظوظا أنه أضافني لصفحته على الفيسبوك، وحين دخلتها وجدت عوالم متوزعة على مستويات عدة، تمتد، وتتقاطع، تلتقي أبدا، وتفترق على وعد بلقاء.

حسنا، للأسف لم أقرأ أي من رواياته، رغم أن احدها يسرد تاريخ مدينتي، ويتلمس عوالمها وتأثيراتها في العراق، وهي رواية السيد أصغر أكبر، التي بحثت عنها في مكتبات النجف ولم أجدها، ولم أبحث عن نسخة الكترونية لأنني أعرف أنني سأتكاسل عن قراءتها، لارتباطي الأزلي بالورق، ولأنني لم أقرأ رواية منذ عشرة سنوات، ولكي أقرأ هذه الراوية فلابد أن أمسكها بيدي، وأن أشم رائحة الحبر من ثناياها، تنساب رويدا مع تاريخ المدينة التي ارتبطتُ بها بكل الطرق الممكنة، من عشق مسقط الرأس ومنبت الأسرة منذ قرون، وصولا إلى مداخل الفهم التي منحها لي التخصص، المرتبط كثيرا بتاريخ المدينة ذات الطابع المركزي بالنسبة للحدث العراقي، والملتبس في الكثير من الأحيان.

ولكن ما يكتبه مرتضى كزار باستمرار على صفحته كافٍ لكي يحفزني للكتابة عنه، لأن من يرد مائه سيجد نفسه هذه المرة أمام ظاهرة فكرية يندر ان تجدها في جيلنا الثمانيني، وهي أن لا تكون منتم لفصيل، وأن لا تعيب على أحد انتمائه مهما اختلفت معه في ذات الوقت، ومهما انتقدت سردياته التاريخية، مادامت تلك السرديات لا تُسلُ سيفا عليك، ولا تحاصرك بمطلقاتها كي تسلب وجودك المستقل.

كتب مرتضى كزار مرة:

(و هل مشكلتنا مع الحقائق أصلا؟، أم مع أهل الحقائق و ملوك الحقيقة و ابن أخت الحقيقة و ابن أم الحق و خالات الحقيقي و عماته!؟.
المشكلة مع المضاف لا مع المضاف إليه.
الذي يقتل الحقيقة هم قرابتها و جيرانها عادة. سوء خلقهم و فشلهم في الحوار و تعصبهم و عماهم عن رؤية الآخر.
لا أحد يهتم بالحقيقة قدر اهتمامه بقربه منها و انتسابه لها، فيصبح دفاعه عنها دفاعاً عن وجوده و عرضه!، و هكذا يتشابه جميع ابناء الحقائق و اعمامهم و عشائرهم مع عشائر الحقائق الأخرى. و تختلف الحقيقة عنهم).

وبهذه القاعدة المكثفة، يقول لك ذو المواهب المتعددة: انا مستعد لأن اتعايش معك، ما دمت لا تضيق علي حريتي، كما لا أضيّق عليك مساحتك، انا لن اشتم معتقداتك، ولن أسفه اختيارك لها، حتى لو كانت تلك المعتقدات ذاتها سفيهة، لا أجد مشكلة في اختياراتك، ما دمت لا تشهرها مدفعا بوجهي.

ولا يقف عند هذا الحد، فكل واحد من مقالاته، أو منشوراته القصيرة يشكل مساحة شاسعة للنقاش والأخذ والرد والتجاذب، حزم من الضوء تستوجب ان تقف عندها، وأن تسترعي انتباهك طويلا، زوايا حادة تستوجب حذرك من المرور سريعا، كلمات مكثفة تستحضر التاريخ والرواية والفن والفلسفة، تتيح لك أن تختلف مع الكاتب، ولكن لا تسمح لك أن تعاديه، لأنه يصدمك بتأويله العميق، بأدلته وحفرياته الاجتماعية والفكرية، انه يعلن موقفه بصراحة، وبصراحة صادمة في الكثير منها، ولكنها صراحة موقف قائم على الشك، على أمكانية التأويل، باب مفتوح لفهم جديد في زمن آخر، في مستقبل قادم، يختلف معك بشدة، لكنه ــ مرة أخرى ــ لا يتيح لهذا الاختلاف أن يستوجب عدائك، لأن الذين يفهمون لا يعادون، والذين يؤولون مواقفهم، وقناعاتهم باتجاه مرتكز واحد هو الانسان، حياته وكرامته، هؤلاء القوم لا يمكن أن يعادوا أسلوبا آخر للتأويل تجاه ذات الهدف مهما كانت أدواته، وسردياته مختلفة معه، وهو ــ مرتضى ــ سيتفهم موقفك بدوره، ستراه متابعا يقول لك بمصطلحات الفيسبوك انه يحترم رأيك، انه يحترم فكرتك، حتى وإن اختلف معك بشأنها.

ويرسم مرتضى كزار لوحات، وكاريكاتيرات تصيبك بالرهبة والخشوع، تحرضك على التأويل، انه يمارس صنعة الروائي بالألوان هذه المرة، رموزه اللونية مكثفة، تحتمل تأويلات كثيرة، وتنفتح على مساحة شاسعة من التفسيرات والفهم، انه يجبرك على أن تستحضر كل ما قرأته، وتحاول أن تربط بين تلك الرموز، وبين ما تعرفه، ولن تصل إلى قرارة فكرته التي طرزها بالألوان في أغلب الأحيان.

وليست الفكرة العميقة وحدها ما يبهرك، بل أسلوبها الفني، حتى أنه يمنحك كاريكاتيرات بصيغة فيديو، يبين لك أصل الفكرة، هناك واحد من تلك المبهرات التي يأتي بها، يقدم تفسيرا لسلوك القطيع في الفيسبوك ـ وما أكثره ـ تشاهد في أوله رجلا يعزف على ناي، ولكنه ليس نايا كما ألفته أنت وعرفته، انه حرف (f) وقد استلقى، واستطال حتى غدا كالناي، ثم يستحضر تلك القصة العالمية عن العازف الذي يقود الناس خلفه بعزفه على نايه، ولكن التابعين هذه المرة هم خرفان، قطيع يسير مخدرا لا يعرف ما يفعله قائده، يسير خلفه وحسب.

وكما لم أقرأ له رواية ـ للأسف ـ فلم أشاهد أيا من أفلامه، في ظل عتمة النشاط السينمائي لدينا، وبعدي عن بغداد، التي أحسب ان مشاهدة فيلمه فيها ممكنة، على هذا، لا أستطيع أن أقول كلمة فيها، ولكن الجوائز التي حازتها أعماله تخبرك أي مخرج قدير هو، يكتب ويخرج الفيلم، يراعيه من أول تشكله كفكرة، حتى تجليه عملاً مبهرا، كصانع محترف يعامل انتاجه كأنه ابنه.

تجربة مرتضى كزار لا يمكن حصرها بسطور، ولست مؤهلا للإحاطة بها، ولكني أقول: سعيد أنني عرفتك.

الجمعة 22/ 1/ 2016

[الصورة: مرتضى كزار]

تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (5) الأخيرة

تقييم عام:

لقد حققت تجربة عمان التنموية نتائج باهرة من خلال استخدامها استراتيجية طويلة الامد تؤمن بالتدرج في النمو وفي المزج الناجح بين القطاعات الاساسية في عملية التنمية.

فالتناسق الذي حققته مداخل التنمية اثمر بصورة رائعة من خلال تناسق عمل مدخل التعليم ومدخل المرأة والطفل والصحة ومدخل الحكم الصالح وتدرج التعليم اثمر بأن تبلغ نسبة التعمين في قطاع التربية والتعليم الاولي معدلات عالية جدا وذلك من خلال سياسة تعليم عالي ترفد القطاع التعليمي بالهيئات التدريسية بشكل متواصل مع توفير قطاع صحي ناشط وفعال يضمن للطلاب والمدرسين العمل بنشاط وفعالية في ظروف جيدة ومناخات صحية ترفد العملية التربوية وكل ذلك ضمن اطار حكم مركزي فاعل تسطر فيه وحدة القرار لاتخاذ اسرع اتدابير ضمن ماتحتاجه التنمية مع تقليل الحلقات الادارية الكثيرة وتهشيم البيروقراطية ومكافحة عالية للفساد الاداري.

بالاضفة الى ذلك استمرار صدور التشريعات التي تفرض نسبا من العاملين العمانيين في كل قطاع وحظر  عمل غير العمانيين في بعض القطاعات الاخرى وتقديم الدعم للمنتج الوطني بالرغم من سياسة السوق المفتوح التي تتبناها عمان وذلك من خلال تفضيل المنتجات الوطنية بالنسبة لما تحتاجه دوائر ا لدولة وحتى في القطاعات التي لا توجد فيها شركات عمانية برأسمال وطني مثل قطاع الاستثمار النفطي الذي لآلية منح الامتيازات للشركات الاجنبية فقد بلغت نسب التعيين فيه مستويات عالية ـ لا توجد ارقام رسمية محددة ـ نتيجة للتدريب والتعليم المتواصل في عمان وبالتعاون مع المؤسسات والهيئات الدولية ذات الخبرة وتتضح نسب النجاح المتحققة من خلال عرض الارقام التالية لبعض القطاعات التي تخضع لعملية التعمين.

1ـ بلغت نسبة العاملين العمانيين في قطاع الصحة عموما 66% وفي قطاع الاطباء تحديدا فإن عدد الاطباء في السلطنة بلغ سنة 2007 (2981) طبيبا وطبيبة من بينهم (813) طبيبا وطبية عمانية بنسبة (27%) وانضم اليهم خريجو الدورة الاخيرة من كلية طبجامعة السلطان قابوس فاصبح العدد (904) وبلغت نسبة التعمين في قطاع التمريض (59%).

2ـ بالنسبة الى قطاع التربية والتعليم فقد بلغت نسبة التعمين مديات عالية في قطاع التعليم الاولي ومديات اخرى ممتازة في قطاع التعليم العالي والتدريب المهني.

3ـ بلغت نسبة التعمين في القطاع المصرفي (92,1%) وفي شركات الصرافة (51،6%) بينما بلغت في شركات التحويل الخاصة المرخصة من قبل البنك العماني المركزي نسبة (61،1%).

4ـ اما القطاع الزراعي فيشكل العمانيون النسبة العظمى فيه وهو يسد كذلك نسبة (93%) من حاجة البلاد الى التمور والفاكهة و (64%) من الخضراوات.

والثروة السمكية اغلب العاملين فيها هم عمانيون مرخصون للعمل وقد تم تدريبهم في معاهد خاصة للصيد ويسد هذا القطاع الحاجة المحلية اضافة الى تصدير الآف الاطنان سنويا وكذلك الحال بالنسبة للثروة الحيوانية والموارد المائية.

5ـ تم تعمين قطاع الخياطة النسائية في جميع ولايات السلطنة بنسب تجاوزت (95%) من خلال تدريب النساء في معاهد وكليات خاصة وخارجها وفي كلية القدس بالاردن على الاخص.

6ـ تم تعمين قطاع بيع المواد الغذائية على الخصوص بنسبة (90%) من ولايات السلطنة.

بالاضافة الى كل هذه الارقام ـ جميعها ضمن احصائيات عام (2007) فقد بلغت النجاحات التي حققها برنامج سند لدعم المشاريع التي يتقدم بها الشباب مستويات عالية جداً وقد وصل الامر الى القطاع الصناعي الذي انصب اهتمام الخطط الخمسية الاولى فيه على الصناعات الصغيرة ولكن ابتداءا من الخطة الخمسية السادسة (2001/2005) شهدت تحولا متزايد نحو الصناعات التحويلية والكبيرة وتم انشاء مناطق ومجمعات صناعية ضخمة في عدد من ولايات ومدن السلطنة.

رافق ذلك كله سياسات اسكان متزنة تأخذ بعين الاهتمام مصلحة المواطن وراحته حيث ان (82%) من سكان عمان يسكنون في مساكن يملكونها وهو من الامور التي تشجع على الخدمة المتفانية للوطن.

لقد وفرت كل هذه الامور كفاءات وطنية قادرة على سد الفراغ الذي قد يتركه رحيل الكفاءات الاجنبية وكل هذا ضمن مبدأ الاعتماد على لاذاتن الذي ينتهج التعاون المتكافئ اساساً وليس لقطيعة مع الآخر وهو من اهم ماتميزت به عمان على المستوى الدولي والاقليمي منذ بداية انطلاقتها وتصفيتها للمشاكل والاضطرابات التي تهدد امنها الداخلي قبل ذلك.

واليوم تقف عمان على مفترق طرق تحدد فيه قرارها بالبدء بعملية التنمية السياسية الحقيقية والتحول الديمقراطي ومنح صلاحيات اكبر واهم لمجلس الشورى بوصفه السلطة التشريعية ورفع (الفيتو السلطاني) على اختيار اعضاءه ويمكنها النجاح في ذلك دون ان تمس بشخص السلطان او بامتيازاته وهو امر سبقتها الكويت في تحقيقه والنجاح فيه من خلال اعطائها ـ الكويت ـ دور مهم وقيادي لمجلس الامة.

ومن جانب آخر يأخذ امر تطوير النظام الاساسي وخصوصا فيما يتعلق بأمرن في غاية الاهمية الاول هو وضع السلطة التشريعية في صدارة قوى الحكم والثاني هو آلية تداول الحكم ومسألة اختيار السلطان في حالة فراغ المنصب بصورة مفاجئة وهو الامر الذي وضع القانون الاساسي خطوطا عامة له دون ان يتطرق الى تحديد آليات وتفاصيل تحدد هذا الامر. وفي الواقع فإن الاصلاح السياسي يبقى من اهم الغايات التي تسعى اليها التنمية؛ ان لم يكن اهمها على الاطلاق.

[الصورة: السلطان قابوس بن سعيد البوسعيدي، سلطان عمان منذ 1970، خريج أكاديمية سانت هيرست العسكرية البريطانية]

أن تكون مفكرا على الطريقة الامريكية!

علي المعموري

الفلاسفة الامريكان العظام لم يكونوا ممثلين للروح الامريكية والفكر السياسي الامريكي، والحقيقة انهم يبينون بأنهم امتداد لجذور الفكر الانساني الاوربي في الأرض الامريكية ولا ينتمون إلى الروح التي صار إليها النظام السياسي الامريكي اليوم، انهم يمثلون الفرادة الامريكية في الانفتاح والاندماج واستقطاب الجميع، ولا يمثلون العنجهية الأمريكية الحكومية.

سام هاريس وأضرابه يمثل جناحا يدعي الفكر والفلسفة من اجنحة السياسة الخارجية الامريكية، ذات الاسلوب الفظ والعنجهية المتعالية، واليقينية المطلقة وهو لا يختلف عن مفكرين آخرين خانوا العلم بوضعه في خدمة المصالح السياسية القذرة مثل برنارد لويس وصامويل هينتغتون وهنري كيسنجر وفرانسيس فوكوياما وعراب الشر المالي ميلتون فريدمان، وعصابة المجرمين من المحافظين الجدد، حتى صار الاجرام يرتكب باسم العلم بما وضعوه من فذلكات تشبه فتاوى المكفرين من اتباع الدينات، ولكن ربهم الذي تسفك باسمه الدماء وتستباح العدالة والانسانية هذه المرة هو الدولار والطغيان السياسي على الآخرين الذين تمارسه حكومة الولايات المتحدة، لا يختلف عنهم سوى بأنهم كانوا مفكرين متخصصين، وكان هو متطفل على فكرهم متجاوز لدوره الأساس، ووصفه بالفيلسوف على حد سواء مع ابن سينا وابن رشد والكندي وهيغل ونيتشه وهايدغر هو جريمة مقرفة.

هناك أمريكان عظام، تعلمت منهم ولا زلت اتعلم كل يوم.

كيف لا وديفيد استون، وغابرييل الموند وكارل دويتش وروبرت داهل هم امريكيون، كيف لا وحنا ارندت، وميرسيا انياد والعظيم جون مينارد كينز واينشتين وغيرهم مارسوا أعظم تأثير على حياتنا عبر أمريكا، ولعلهم لم يكونوا ليأتوا بذلك التأثير عبر بلدانهم.

كيف لا وكبيرهم وليم فوكنر، الكاهن الأكبر في عالم الرواية.

كيف ننكر فضل اديسون ويوناس سولك وأمثالهم من العظماء الذين كان همهم العلم والانسان؟

كيف للمرء ان يتجاوز الجمال الكبير الذي منحته لنا هوليود والكثير من ممثليها، في الكثير من الافلام العظيمة؟

ولكن هؤلاء العظماء كانوا ممثلين لروح الطيبة في المجتمع الأمريكي، ولم يكونوا جزءا من الفظاظة والاستعلاء الذي تخرب حكومة الولايات المتحدة به العالم كل لحظة، وبعدة طرق، مرة بالمارينز، ومرة بنجوم اليوتيوب المتطفلين على الفلسفة والفكر.

اعرف انني احتككت برب جديد، ولا يهمني سُباب عباده، بذات الطريقة التي لا يهمني أيضا سباب عباد ربي الذي اعبد حين اعبده كما لا يفعلون.

[أعلاه صورة لعظام لا زلنا عيال عليهم، لهم الخلود في العلى، لا زال سام هاريس وصاحبه البريطاني يخوضان في بحورهم، كم واحد من هؤلاء العلماء الأجلاء كان شتاما مسفها فحاشا متطفلا مثل الآخرين المعنيين؟ والصورة هذه تم التقاطها في مؤتمر سولفاي سنة 1927]

الاثنين 21/ 12/ 2015

الحديث في الشأن العام بين التخصص والإلمام

علي المعموري

قبل كل شيء، لا قيمة لما نتعلمه في الجامعات والمعاهد وما نقرأه؛ إذا لم يؤثر على طريقة فهمنا للحياة، وطريقة تفكيرنا بالمحل الأول، حسنا؛ انا اتفهم ان نظامنا التعليمي لا يمنح تلك القدرة على تكوين عقل نقدي، فهو نظام تلقين، يمنح حرفا أكثر مما يمنح معرفة، وقد أكون مخطئا بطبيعة الحال.

رغم ذلك، إلا انه وعلى الأقل يجدر بمن نال تعليما يتعلق بالعلوم الانسانية التي هي في محل حضور يومي، مثل القانون والسياسة والاقتصاد وغيرها يجدر به أن يجعل مما تعلمه معيارا للفهم، والقول بعد الفهم، كما يفترض بنظيره خريج الهندسة ان يفعله مع حقله، هذا على أقل التقادير، ومع الذهاب إلى أن نظامنا هو نظام تعليم، وليس نظام تفكير ومعرفة.

كما ان ذلك ينبغي أن يعرفنا بحدودنا، وأن لا نتطفل على ملاعب الآخرين، يعني مثلا داعيكم، خريج علوم سياسية، فضولي اقرأ تقريبا بكل ما يخصني وما لا يخصني، ناهيك عن كون تخصصي العتيد يتطلب الكثير من المداخل لفهم موضوعه، يعني ضروري ان يطلع المرء منا أهل هذا التخصص على الاقتصاد والتاريخ والفلسفة والاجتماع والانثروبولوجيا والقانون وغيرها، لأنك ستجدها حاضرة في كل شيء يتناوله علم السياسة.

ولكن هل أزج نفسي بالحديث بكل ما يتعلق بهذه العلوم، على الاطلاق، ولا أقول رأيا فيها إلا بمقترب سياسي، يعني مثلا هل يمكن لي ان اقول رأيا بالاقتصاد والسياسة النقدية؟ على الاطلاق، لي متبنياتي الشخصية هنا، التي كونتها على أساس علمي وليس شخصي وحسب، إذ انني اذهب مذهب كينز وجماعته الكينزيون، وانفر نفوراً لا حد له – بمنطلق سياسي أولا –  من الرأسماليين، من ادم سميث وصولا إلى ميلتون فريدمان دون ان ابخسهم حقهم أو ان انتقص من علمهم، واذهب – ولا أقول أنها الحقيقة القاطعة – إلى أن الرأسمالية المطلقة قد لحقت آدم سميث إلى قبره مهما صال وجال المحافظون الجدد واتباعهم من المرددين العرب، ذهبت لأسباب سياسية وليست اقتصادية، واتباعي لمدرسة كينز، وتقييمي لمخرجاتها يتناول الأثر السياسي لتلك المخرجات، ما يؤثر فيه الاقتصاد على سياسة الدولة وليس الآثار الاقتصادية التطبيقية البحتة، فهذا ليس تخصصي، ولا أجرؤ أن أقول بوجه أكاديمي متخصص بالاقتصاد انا اظنك مخطئ وأني اتبع كينز أو ميلتون فريدمان لأن هذا أو ذاك اقدر على فهم الاقتصاد، انا لا اتكلم حول الاقتصاد إلا بالقدر الذي تتعلق فيه العمليات الاقتصادية بالسياسة وحسب، أكثر من ذلك، انا متخرج من قسم النظم السياسية، وأملك فهما يمكن أن أقول انه لا بأس به حول بقية أقسام العلوم السياسية، لكني لا أبدي رأيا علميا في شؤون تلك الأقسام، ولا أكتب فيما تتناوله، لأنه ليس ملعبي.

هناك أمر مهم، وبالتأسيس على وصف الجاحظ للأديب بأنه (من يمسك من كل شيء بطرف) وهو ما وضعته اليونسكو لوصف المثقف بأنه من (يلم من كل شي بشيء)، ولكن هذا لا يعني ان ذلك الإلمام يتيح لصاحبه أن يدلي برأي علمي حول كل شيء، ولا يعني أنه امتلك رؤية تؤهله ليطلق أحكاما قطعية أمام آراء أهل الاختصاص، الذين قضى واحدهم نصف عمره في تفحص حقل علمي معين مرارا وتكرارا، ولديهم من الإلمام بالأشياء الأخرى قدرا قد يكون أكبر من صاحبنا الذي (يلم من كل شيء بشيء) ويتخصص بشيء واحد مختلف، مما يعني أنني لن أسأل مختصا بالقانون حول السياسة، ولا متخصصا بالسياسة حول الاقتصاد، ولا متخصصا بالاقتصاد حول الطب، ولا متخصصا بالطب حول أي من هذه الأمور، قد استمع لرأيه في هذا الجانب، وقد يكون صوابا في موضع معين حالفه الرأي فيه، ولكن ذلك لا يعني انه مصيب في بقية أحكامه في غير تخصصه، ولا أتكلم هنا عن تقييم لحالة معينة خصوصا، ولكن أغلب كلامي منصب على النقاش في قواعد تلك العلوم، وليس بما تناقشه.

وهذا لا يعني أن كل صاحب اختصاص لا يفهم إلا باختصاصه، فهناك استثناءات لامعة، تعلمنا ولا زلنا نتعلم منهم، ولكن نتاجهم المعرفي هو ما يدلل عليهم، وليس هذر مواقع التواصل الاجتماعي.

ولكي لا أطيل اختم بالقول أن البعض لا يفرق بين السياسة، وبين علم السياسة، وما يتطلبه الأخير من معرفة لكي تمتلك رأيا يمكن الركون له، والدليل الأساس على معرفة قليل المعرفة والذي يظهره لك دون مواربة هو: أنه يعد نفسه على صواب وأنك على خطأ، وصوته عال في النقاش، وكلماته بذيئة في الكتابة، هجومي لا يتيح لك نقاشه، ولا يمكن ان يقول انه مخطئ مهما دللت على خطأه، قليل المعرفة، الذي يعرف تطفله على اختصاص الآخرين سيقول لك انك جاهل، وانك لا تعرف شيئا حتى لو كنتتحمل دكتوراه في التخصص الذي تطفل عليه، فدعه، لأن المحترم سيحترم حدوده، ووحده الفيسبوك من أتاح له ولأمثاله تسفيه آراء أهل الاختصاص وأن ينشر تطرفه في زمان التطرف هذا، دعه واشتر راحة البال بالسكوت.

[بالمناسبة، وما دام الجاحظ قد جحظ في سياق الحديث، فالرجل طبق قاعدته على نفسه، وكتب حول كل شيء تقريبا، من الأدب إلى الحيوان إلى التاريخ وغيرها، لكنه تلقى نقدا لاذعا من مؤرخ مقتدر هو المسعودي، الذي سلقه بلسان حاد وهاجم تنقله بين التأليف والتطفل على كل العلوم، وسفه مدوناته التاريخية تسفيها تاما بمعيار نقدي من متخصص، والأمر بينكم وبين المسعودي ولا دخل لي فيه]

(الرسم للفنان والروائي والمخرج العراقي المبدع مرتضى كزار)

 

تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (4)

القسم الرابع… علي المعموري

ثالثا: المرأة والطفل والخدمات الصحية.

تشكل هذه الثلاثية متلازمة ضرورية واكيدة في عملية التنمية فبدون المرأة التي هي نصف المجتمع لا يمكن ان تسير التنمية بصورة ايجابية وذلك لأن المرأة هي الحاضنة الاولى لبناة المستقبل كما ان هناك امورا ومهام لايمكن لغير  النساء ادائها ضمن مجتمعات اسلامية محافظة وضربت عمان مثلا يستحق التقدير في هذا المجال ولو من حيث الشكل العام لجهودها في تطوير قدرات المرأة وتعليمها تعليما يوازي مايناله الرجل وفي جميع التخصصات وكذلك على المستوى الاداري والسياسي حيث ان عمان من اوائل الدول العربية التي اعطت المرأة حق التصويت والترشيح للسلطات التشريعية وسبقت دولا خليجية تلعب الحياة البرلمانية فيها دورا كبيرا وفاعلا ـ مثل الكويت ـ حيث بدأت التجربة العمانية بالسماح للنساء بالمشاركة تمثيلا وتصويتا في انتخابات مجلس الشورى الاولى (1994) ولكن في ولايات العاصمة الست فقط. اما في انتخابات (1997) فقد سُمح بالمشاركة التامة لكل النساء وبلغت نسبة تمثيلهن حوالي (10%) على مستوى البلاد وإن ظلت مساهمتهن محدودة حيث اقتصرت على (27) امرأة من بين (736) اي بنسبة (3,66%).

الى جانب ذلك تشغل النساء اربعة مناصب وزارية (سنة 2007) هي وزارات التعليم العالي والسياحة والتنمية الاجتماعية ورئيسة الهيئة العامة للصناعات الحرفية إضافة الى مكان المرأة التقليدي ضمن مجلس الشورى وعضويتها ضمن مجلس الدولة ومجلس ادارة غرفة تجارة وصناعة عمان ومجلس رجال الاعمال الى جانب مناصب رفيعة في الجهاز الاداري للدولة والادعاء العام ومجالس ادارة بعض مؤسسات القطاع الخاص.

من جانب آخر تشكل برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية جزءا هاما من منظومة رعاية المرأة فقد تم تخصيص معاشات شهرية ضمن قانون الضمان الاجتماعي تصرف للارامل والايتام والعاجزين عن العمل والمطلقات واسر السجناء وغيرهم ممن لايوجد لديهم معيل ملزم وقادر على الانفاق عليهم وقد تم تخصيص (16) قطعة ارض عام (2005) لأسر الضمان الاجتماعي إضافة الى منح اخرى مثل منحة العيدين ومنحة تأدية فريضة الحج والمساعدات المالية الطارئة والاعفاء من رسوم الخدمات الجامعية للابناء على نفقة الدولة وغيرها من الامور بالاضافة الى ذلك بدأت برامج تطوير مهارات النساء ضمن بعض القطاعات البسيطة والواسعة الانتشار في نفس الوقت على سبيل المثال برامج تعليم الخياطة التي ادت الى ان تسيطر النساء العمانيات سيطرة شبه تامة على هذا القطاع.

وما يتعلق بالطفولة، وفي نفس السياق، فقد خطت عمان خطوات كبيرة في هذا الموضوع فأولا نظرت بعين الاهتمام مشاكل المعاقين حيث تأسست دار رعاية الاطفال التي تخدم الاطفال في سن (3ــ14) سنة اضافة الى مراكز الوفاء الاجتماعي وهي مراكز تطوعية اهلية ترتكز على تأهيل المجتمع المحلي لرعاية المعوقين ويستفيد منها اكثر من (1870) طفلا وطفلة معاقة وحققت عمان ميداليات ذهبية وبرونزية عديدة في مباريات المعاقين الدولية في عدد من دول العالم.

وايضا فقد اعيد تشكيل وتحديد اختصاصات اللجنة الوطنية لرعاية الطفولة والتي انبثقت منها لجنة متابعة تنفيذ بنود اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عمان عليها ووصلت بيوت رعاية الطفل والحضانات حتى الى المناطق الريفية.

وهناك ايضا دار رعاية الطفولة التي تخدم الايتام وايضا نظام الاسر البديلة التي تحتضن الاطفال الايتام ضمن نطاقها وتلعب دورا هاما في رعاية الطفولة.

اما قطاع الخدمات الصحية فهو  من اهم القطاعات التي حققت تطورا واسعا وملموسا في كل ميادين الرعاية الصحية. واعتمدت عمان نظام توفير الرعاية الصحية الاولية كمدخل اساس للرعاية الصحية بكافة مستوياتها وبدرجة عالية من الجودة في مختلف مناطق السلطنة  حيث توفر (49) مستشفى ـ منها (13) مستشفى مرجعي ـ تشكل نسبة (90%) من اجمالي المستشفيات في السلطنة وفق احصائيات عام (2007) وتقدم المراكز والمجمعات الصحية والعيادات الخارجية بالمستشفيات الرعاية الصحية الاولية والفاعلة والجيدة وتنتشر في كل مناطق عمان.

والمستوى الثاني تقدمه المستشفيات المرجعية في عشر مناطق صحية وهي توفر رعاية اكثر مهارة وتخصصا وفي المستوى الثالث للرعاية الصحية توجد المستشفيات التخصصية وهي مستشفيات تتخصص بتقديم رعاية صحية ذات تقنية عالية في احد المجالات الصحية خاصة. وهي تنقسم الى ثلاث مستشفيات: مستشفى خولة يتخصص بجراحة الحالات الدقيقة المتعلقة بالعظام والمخ والاعصاب والتجميل والحروق وغيرها ومستشفى النهضة لجراحات الانف والاذن والحنجرة والعيون والاسنان والامراض الجلدية ومستشفى ابن سينا للحالات العصبية والنفسية.

وفي غضون ذلك كله تحرص عمان على توفير مناخات مناسبة للانشطة الرياضية والنشطة الثقافية والعلمية والمهرجانات وتطوير الهيئلت الكشفية مما ينصب جميعه في النهاية بعملية تطوير قابليات الانسان العماني ورفع قدرته على المساهمة الفاعلة في عملية التنمية.

يتبع

[الصورة المرفقة وردت من دون ذكر اسم صاحبها في الموقع الذي استعرتها منه، وهي لمشهد من عمان]

موقع آخر في Arablog