كل المقالات بواسطة علي المعموري

متخصص بعلم السياسة، وما يتطلبه من اطلاع على الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم القريبة الاخرى، مهتم كذلك بالادب والفن، وكل ما يتصل بالحياة والابداع الانساني

شارعين

 

علي عبد الهادي المعموري

تخبرك الاحياء، شوارعها، عمارتها، بالكثير عنها، وساكنيها.

هناك شارعين في الكرادة أمر بهما بشكل يومي تقريبا ـ على التناوب في أحيان كثيرة، بحسب مزاجي ـ أنا أعني الشارعين المحصورين بين شارع السبع قصور، السبع الغاربات، وشارع سيد إدريس، من الكرادة داخل إلى الخارج، أو العكس فالأمر سيان، ولا يندرج شارع السبع قصور، أو شارع السيد إدريس بذاته ضمنهن.

إذا كنت قادما من الكرادة داخل ـ الجوة ـ باتجاه مرقد السيد إدريس الحسني، وما أن تجتاز تقاطع السبع قصور ـ عند مرطبات جوز وموز، أم جوز ولوز؟ تاه الأمر علي ـ الفرع الأول على يسارك في جهة السيد إدريس وليس جهة أبي نؤاس، بداية الفرع مميزة، افتتاحية قوية، مدرسة على يمينك وأنت داخل الفرع، ومحل لبيع الدجاج والأسماك على يسارك، العقل والبطن معاً!

هذا الشارع، على طوله، يندر أن تجد فيه منازل من تلك القديمة المشادة حين بدأت الحياة هنا، لم يتبق سوى بعض البيوت، قد تشكل 10% من الشارع، أما البقية، وعلى امتداده وصولا إلى عمارة الحريري، أغلبها تحولت إلى ما اسميه عمارات إيراد التقاعد، العمارات المرتجلة، بلا تخطيط، ولا هندسة، قد يبنيها متقاعد بقرض حكومي في حديقة بيته، أو ببيته كله، دون مصاعد، دون إضاءة جيدة، دون واجهات معمارية، ولا مخارج طوارئ، ولا أي شيء موافق لمعايير البناء حتى لدى أمانة بغداد المتخلفة، كتلة مكعبة من الكونكريت يصممها محترف صب كونكريت، لا معمار ولا هم يحزنون، تحشر فيها العائلات حشرا، وبإيجارات تتصاعد حسب المنطقة، يتعيش منها المالك، وقد يوكل بها احد ويذهب ليسكن في تركيا أو في أي بقعة آدمية أخرى، وينتظر كل رأس شهر إيجاراته بوصفه ملاك، كأنه عبد الهادي الجلبي في زمانه!

على هذا، ساكني الشارع في اغلبهم من متوسطي الدخل، موظفين يسكنون في شقق مستأجرة، أو في مشتمل مرتجل في حدائق آبائهم، باستثناء مسئول لا اعرفه تتكدس سيارات الحكومة أمام بابه ـ الغريب أنه لم يختر الشارع الآخر، الهادئ، وحشر نفسه هنا ـ الشارع مظلم في الليل، احد ساكنيه يمتلك سيارة فولكا روسية من الطراز الحديث ـ الذي دخل العراق قبيل 2003 وقام العراقيون بتبديل محرك السيارة لاحقا بمحرك كراون/ تويوتا ـ حول الرجل باب بيته، وصندوق سيارته إلى محل خضروات يتسوق منه جيرانه.

وأنت تسير فيه، تكاد تختنق، الشارع فيه بعض النخيل وبعض الاشجار الخجولة، ضيق الشارع لا يسمح بالكثير، وتبدو في منتصفه، ما تبقى من نخلات آخر القصور السبعة الغاربة في حديقته الخلفية التي بنى احدهم فيها بيتا رثا، تضايقك السيارات المرصوفة على جانبيه، والسيارات القادمة والذاهبة بسرعة ـ لدي ذكرى سيئة بسيارتي في هذا الشارع، كنت لا أزال سائقا حديث العهد حين استدرت دون أن انتبه لفتحة التصريف في الأرض التي كانت قيد الإنشاء فتمزق الإطار شر ممزق، وأخبرني احد ساكني الشارع أنني لست أول من تورط فيها ـ ولن تعدم وأنت تمشي أن تتعثر بطفل سرحه أهله إلى الشارع خارج علبة الباطون الضيقة التي يسكنونا، ويعدونها بيتا، ومشهد الأطفال في الشوارع مألوف في أي منطقة شعبية، أو شبه شعبية، أو فقيرة بالمختصر.

كما أنك ستجد أيضا على طول الشارع شباب فرادى ومجاميع، بعضهم يدخن النارجيلة أو الفيب الالكتروني، وقد انزوى أحدهم بعيدا في جانب مظلم، يتصل بصوت خفيض وابتسامة سعادة بلهاء تغمر وجهه الساذج الذي لا يدري ما ينتظره عقب مراهقته هذه، ولن تعدم مجموعة من العجائز، ذكورا، أو إناثا كل في مجموعته الجندرية، يتحدثون في كل شيء، من كيفية طبخ الدولمة التي يبالغ العراقيون في تقديرها، وصولا إلى أزمة البلقان وتهديد بوتين للاتحاد الاوربي وآخر تحركات الناتو والازمة الايرانية الامريكية التي تلقي بجحيمها علينا.

كل ما في الشارع ينبيك بمستوى أهله الاقتصادي، البنايات القبيحة، السلالم بالغة الخطورة التي ارتجلت لتحويل البيوت إلى شقق، حتى الأثرياء من بينهم الذي هدموا بيتا تراثيا هناك وشيدوا محله بيتا جديد، تخبرك واجهة البيت الرثة، بألوانها الصارخة، من أي بيئة انحدروا، أو بأي مزاج تأثروا.

وأنت تسير، هناك فرعين، بينهما مسافة ليست قصيرة، يصلان بين شارع الطبقة شبه المتوسطة، شبه الرثة هذا، وبين الشارع الثاني محل الحديث، يبدأ الشارع من مستشفى جنين، وينتهي بشارع عرضي يقودك إلى نهاية الشارع الأول، صاحبنا، ثم خروجاً لعمارة الحريري وتقاطع السبع قصور الذي يضم مطعم فرايد جكن ومرطبات البلوط، وغيرها.

الفرع الأول قريب للشارع، شارع المدرسة آنف الذكر، ما أن تدلف وتسير مسافة قليلة يلاقيك على يمينك، تدريجيا تتبين الاختلاف بين الشارع الذي كنت فيه، والذي صرت إليه مسيرا للذي ستصله، تبدأ البيوت تكبر تدريجيا، وإن كنت لا تعدم تكدس السيارات فيه، وتحول بعض البيوت إلى عمارات إيراد التقاعد المعروفة، ولكنه شارع فسيح، تقريبا ضعف مسافة الشارع الذي تركته خلفك، شارعنا سالف الذكر، وبشكل غريب، فإن فرع الوصل الثاني لا يختلف عن فرع الوصل الاول، كلاهما برزخ ينقلك من بيئة لأخرى، من طبقة لأخرى، بالتدرج، الفرع الثاني يبدأ ببيت فخم، رث الواجهة، حجر أبيض سخيف من الذي أصيب صدام بالهوس بشأنه في التسعينات فحول المجمع الرئاسي إلى كتل بيضاء قبيحة.

وأنت تمشي وئيدا، تصل لشارعنا الثاني، لتجد كل شيء آخذ بالاختلاف، رويدا.

هنا، لن تجد سوى بنايتين من عمارات إيراد التقاعد، والبقية بيوت فخمة، بين قديم لم يمس، أو تم تحويله إلى مدرسة أهلية ـ مدرسة مرج العيون، ولا أدري ما يعني اسمها ـ وبين بيوت حديثة، مغلفة بواجهات أنيقة، احدها نسخة من البيوت الحلبية، حدائق فسيحة ونخيل واشجار جميلة ـ زرع البعض منهم الكينو كاربس القبيح ـ وبالتأكيد لن تعدم بيتا أنفقت عليه ملايين مملينة ليغلف بالمرمر الأبيض الصارخ، يقول لك أنا بيت ثري.

هنا، يندر أن تجد طفلا في الشارع إلا ليركب مع أهله في السيارة، وخلال سنتين من مروري اليومي هنا شاهدت مرة أو مرتين اطفال يقودون دراجة تحت رقابة الخادمة الصومالية، وفي الغالب لن تشاهد في الشارع سوى الخدم يغسلون الأرصفة، وسيارات القاطنين.

كان هناك بيت جميل، مما ابتني في الستينات، بواجهة متمايلة الاسقف، وانت تمر امامه، تدرك انه خالٍ إلا من الحراس، وسيارات قديمة الطراز مما صار تحف تجنى، ومؤخرا هدم، احتاجوا إلى سيارة تهديم ناضلت فيه لأيام قبل ان تتغلب عليه.

بعض البيوت تقول لك أنها بيوت لأخوين، بيوت توأم، يبدو أنها أقيمت على أنقاض بيت الأب، حافظ الأبناء على الموقع، والقرب، وذكرى الأب وإن هدموا الدار التي شادها بيده.

أجمل بيت في الشارع برأيي هورذاك الذي يقابل مستشفى جنين، ويحتل ركنين من الشارع، ليقع من الجانب الثاني على حاجز مرقد السيد ادريس، بيت مغلف بطابوق قديم فقط، يبدو لك مكعبا من الخارج بدون تفاصيل، لكن لو دققت النظر خلف الزخارف الخزفية التي تلعب دور كواسر الشمس فستجد مساحات داخلية رحبة، شرفات فسيحة، وحديقة تحتضن النخيل فحسب، بيت بخصوصية كبيرة لأصحابه، وهيمنة على الشارع المحيط به.

بالعودة إلى الوراء قليلا، ولو عبرنا الحاجز إلى الأفرع المحيطة بمرقد السيد إدريس، فتقريبا اغلب البيوت تحولت إلى عمارات ايراد التقاعد، مرتجلة، بلا إضاءة، تهوية سيئة، تغليف رث او بدون تغليف، تطل على مرقد الحسني، تبدو لي منظرا تقليديا تجده في كل البنى المحيطة بالمراقد الدينية، ولكن هنا، قرب السيد إدريس، في واحدة من أغلى مناطق الكرادة، كيف لك ان تفسره؟ لا ادري، اقرب ما استطيع قوله أن البيوت حول المرقد هي الأقدم ولا شك، وبقدر قدم البيت، وتباعد مبتنيه عن أيامنا، يتعدد الورثة، فيصير الحل الأقل خسارة هو بناء عمارة مرتجلة، تبقيهم في أماكنهم، وتسد عجز همتهم في الانتقال إلى بيت فسيح في منطقة جيدة، كما استطاع آبائهم أن يفعلوا من قبل.

كيف يمكن لشارعين متجاورين أن يختلفا بهذه الطريقة؟

هل نحتاج إلى مسح لكل الساكنين؟ لتاريخهم؟ لتبدلات الازمنة مع أسرهم؟ كيف يفكرون؟ كيف يتخذون خيارات حياتهم؟

هذه التناقضات العاصفة التي لا يفصل بينها شيء، متجاورة حائط لحائط، ماذا يفعل الناس بأنفسهم في سبيل خيارات غير محسوبة بشكل جيد؟

 

 

خضير جلعوط

(1)

في الظروف الطبيعية، حينما لا تكون الحروب قد سلبت النظام الاجتماعي ـ وحدات النظام ـ اتساقها، ولا يكون هناك حاكم دموي يصادر آمال الناس ويستنزف ألفتهم، أو معتوه يؤمن بضرورة سفك الدماء قربانا لفكرة يراها مقدسة، وحين تنفذ العائلة من كل هذه المصائد ـ وهي مصائد صميمة في حياة كل أسرة عراقية ـ في مثل تلك الظروف، فإن وجه أول رجل يألفه الطفل يكون وجه أبيه، ربما اخوته من بعده، ثم وجوه اصدقاء والده، وفي الحروب والمعتقلات والمعارك العقائدية التي نفذ أبي منها سالما بجلده، وقد حرثت في روحه حقولا من الأسى لمّا تنمحي، فإني تعرفت على وجوه أصدقائه صغيرا، أنا ابنه البكر، وهو وحيد أمه، أبي من أعنيه، فكنت انتقل بين أذرعهم، تداعبني ابتسامات المحبة المنثالة من وجوههم التي أرهقتها الحروب، وأضناها العمل الشاق، وأنهكها الحزن، والوجل.

(2)

خضير جلعوط، قلها بملئ فمك، وأطلقها كقذيفة مدفع، في العراق، لا نلفظ الاسم كما هو في الفصحى، أعني (خُضَيْر)، بل نقول (إخْضَّيِّر) نكسر الألف، ونسكن الخاء، ثم نفخم الضاد والياء إلى آخر المدى، ونطلقه، رصاصة مسرعة ثابتة، وبالنسبة لأبي الياس ـ كل خضير عندنا مرتبط باسم خضر الياس، فنقول لمن اسمه ياس: ابو خضير، ومن اسمه خضير: ابو الياس ـ بالنسبة له، فإن قوة اسمه مرتبطة بقوة اسم جده الذي اتخذته العائلة لقبا ـ اسم ابيه: تركي ـ نقول: خضير جلعوط، فتشعر أن للاسم وقعا، وجرسا، ومهابة، وحين تتفرس في وجه صاحبه، الأسمر، حاد الملامح، بشاربه الرفيع، وعينه الخازرة ـ يخفض حاجبه بطبيعته لا تكلفا ـ بذقنه البارز نحوك، وعيناه المقتحمتان، ينزل من مقعد السائق في سيارته طراز (OM)، ثم من سيارته (التريلة) طراز (مرسيدس اكتروس) التي نسميها في العراق: (ألبي)، حين تشاهده، بدشداشته الزبدة، وكفه الغليظ، مقرونا باسمه العاصف، تقول في نفسك: إن هذا لرجل صعب، شديد، قوي الشكيمة، مهاب الجانب، وهكذا كان.

(3)

يرتبط وجهه في ذاكرتي بصورتين أساسيتين، طفل، يحدق هو في وجهي مركزا، يستمع لي، ربما كنت أسأله، ربما كان يحدق بوجه ابن صاحبه، الذي يرتبط معه بصلة نسب ـ جده، خال جدي، لهذا كان أبي يضايقه مازحا بمناداته: خالي ـ لا اذكر لماذا كان ينظر لي، وقد خفض حاجبه الأيسر، مركزا في وجهي، بملامح ساكنة، لا تعبير في وجهه سوى التماعة في العين، لعلها فيض من المحبة الخبيئة خلف هذا الوجه ذل الملامح الصلدة.

أما الصورة الثانية فقد كتبتها قبل سنوات وأنا استعيد ملامح مدينتي التي ابتعدت عني، استذكر صور من أحبهم واحدا فواحد، والأماكن التي شغفتني وقد صارت طللا، أثر يتلو أثر، كنت اتحدث عن (سبيل عمران) المنصوب على السور، قرب بيتنا في طرف البراق، كتبت:

(وأغرب ما علق بذاكرتي عن ذلك السبيل أنني طوال عمري لم أشاهد أحدا يضع الثلج فيه، إلا مرة واحدة، شاهدت من بعيد (خضير جلعوط) صديق أبي الحميم ومعه صديق آخر لا أتذكره اليوم، فتحا غطاء السبيل، وأخذا يكدسان قوالب الثلج في جوفه، ثم أحضرا بطانية ثقيلة، ولفا بها الثلج، لتزداد حيرتي، كيف يُلف الثلج بهذه القذارة ويفترض بنا أن نشربه، كنت متحيرا، فذهبت لأتساءل، لا أذكر أذا كان أبو حيدر (خضير جلعوط) هو من رفعني لأستكشف داخل السبيل أم رفيقه، بل أني لا أذكر إذا كنت قد رفعت غطائه مستكشفا بنفسي أم أن ابو حيدر هو من وضّح لي الأمور، لكن الحيرة تبددت ساعتها، واكتشفت أن نظام مياه السبيل الأسطوري ما هو إلا أنبوب حديدي طويل، التوى على نفسه مرارا وتكرارا، حتى غدا كجوف الإنسان، كأمعائه الملتفة على نفسها، تديم حياته ما بقيت نشطة الالتفاف، وأن الثلج المكدس فيها يعمل على تبريد الانابيب، والمياه تسري فيها، فتخرج مثلجة تبل عطش الشاربين).

بهذه الكيفية، ارتبطت صورته في ذاكرتي، يقوم بالمهمة الأقدس في محيطه الاجتماعي: سقاية المياه للظامئين، تقربا للقتيل الظامئ قبل ألف ونصف الألف من السنين، النابض في صدور هؤلاء العراقيين ما بقوا.

(3)

كان واحدا من أبطال طفولتي، بصوته المجلجل، بالنكتة الحاضرة التي تجتاح وجهه بضحكة تطفو فوق قسوة السنين على محياه، حتى تضيق لها عيناه، وتشعر معها أنه يضحك من جوفه، كأنه لم يضحك من قبل، كأنه بحاجة ماسة للضحك كغريق يلاحق الهواء النزر من حوله، يرفع كتفيه العريضين حتى يقاربا رأسه، ثم يسكت، ويستعيد وجهه تلك الصرامة الحزينة، قبل ان يطلق نكتة اخرى، وحديث آخر.

(4)

كان يخب بمشية (الأشقيائية) القدامى، يرقص شعره الرمادي مذ وعيت عليه، وقد باعد رسغيه عن بدنه، ولوح بهما يمينا وشمالا مع خطوه الوئيد، وجسمه الرشيق، لا ادري لماذا علق بمخيلتي أنه كان يمشي خفيض الرأس، على الرغم من مشيته الفخورة المقتحمة المنذرة بجرأته وشجاعته، لا أدري لماذا.

(5)

كل من عرفه يدري أن هذا الشجاع لم يؤذ أحد يوما، ولم يغدر بأحد، ولم يقصر في نجدة قريب أو بعيد، ولم يخن أمانة، أو يعتدي على ضعيف، كان أريحيا، أبو نخوة كما نقول هنا، جرّب أن تطلب منه شيئا، وستجده يهب كصقر لعونك، كان وفيا، أمينا، طيب القلب، صافي السريرة، بدأ شبابه كما بدأه مجايلوه، وأنهاه كما قلت عنه، بأوبة إلى ربه، بيقين وتسليم، ورضا صرت أحسد كل من نزل في قلبه مثل ذلك الرضا والتسليم.

(6)

لم يتزوج، بقي مع أمه وأخته يرعاهما، ثم أخذ ابن أخيه عبد، حيدر الجميل الأشقر، وقام بتربيته كأنه ابنه، فكنا لا نناديه إلا (أبو حيدر)، وكان حيدر إذا تحدث وقال أبي دون إضافة فهو يعني عمه خضير، وإذا أراد التخصيص قال: أبويه عبد، وآخر أمره، كتب بيته وسيارته باسم حيدر، ولده الذي ربّاه وعلمه وصار رفيقه وصديقه في حله وترحاله، يصحبه حيث ذهب، يشتري له الجديد من الملبس قبل أن يشتري لنفسه، ويعده ليتكأ عليه في شيخوخته.

(7)

هذه الوجوه، هؤلاء الاشخاص، صورة طفولتي، النجوم التي غمرتني بالضوء صغيرا، كنت أشعر بالأمن لرؤيتهم قربي، كانوا طمأنينة لي، ظل نشأت في برده، الندى الذي بلل هجير هذه الأرض، وهوّن أيامي فيها، وجنّب الطفل الذي كنته التعرف المبكر على قسوتها، كلما غاب وجه منهم، شعرت بثلم في الروح، ووجع يغرز جذره عميقا في ذاكرتي، ليستمر في النمو كنبت شيطاني، تسقيه هذه الارض وتتعهده بالغذاء كل ساعة.

(8)

عمي ابو حيدر، سمعت برحلتك الأخيرة أيها السائق المترحل، إلى مستقرك الأبدي، وأنا في بغداد، بعيد عن الدار والديار، لا أذكر متى رأيتك آخر، مرة، لكنني أعرف أنني سأفتقدك ما حييت، متذكرا صوتك الجهوري المجلجل مرحبا بابن صاحبك: هله عمي علاوي.

وداعة الله ابو حيدر.

لذكرى العم أبو حيدر، خضير تركي جلعوط، جار العمر في طرف البراق، صديق أبي، وقريبي الذي توفي يوم السبت، 27/ 6/ 2020، في النجف، فضلت وضع صورة له وهو في أوج عافيته، صورته آخر ايامه، بالعقال، بعينين غائرتين، ووجه غائم بالقلق والحزن، وبعصا في يده يتوكأ عليها تؤلمني رؤيتها..

29/ 6/ 2020

من أيام روما

شعرت بألفة مع روما، ألفة لم أعهدها مع مدن أخرى زرتها، ألفت بعضها، ولكن ليس كألفتي لهذه المدينة.

لماذا يألف النجفي روما العتيقة؟ أهو ذاك الرابط الديني الذي يجمع المدينتين؟ تموضعهما كمركز ديني روحي تهفو له ملايين النفوس وتنتظر من كبيره القول والفصل في شأن خلاصهم؟ تمحورها حول قبر أمام وقديس، يحرسان الدار وأهلها؟

لعل ذاك ما جعلني آلف المدينة بطريقة مختلفة عما فعلت مع غيرها من المدن التي زرتها شرقا وغربا، وجعلني أضرب فيها ماشيا خلال شهرين ونصف الشهر ـ زمن مكثي في المدينة العريقة ـ فجلتها زقاقا تلو زقاق، وأثرا فأثر، عيني معلقة تلمس جمال البنايات، وحسن الطرقات ومن يسير فيها.

بعض من وقتي في المدينة، البحث عن الدخان..

خلال اقامتي في روما، اعتدت الذهاب كل نهاية اسبوع ـ عقب تجوالي الطويل ـ إلى مطعم لبناني، آكل ما تيسر، واشرب نارجيلتي، سيمون، النادل الحمصي، وشاب قبطي آخر من مصر نسيت نسمه، يتناوبان على تلبية تقلبات مزاجي، وولعي بهذا الدخان، ويجاذباني أطراف الحديث بود، ومحبة، اسم المطعم كان (ماندلون) يقع قرب حدائق فيلا بورغيزي المبهرة الجمال ـ لي عودة معها ـ وإذا كنت قد نزلت في المحطة الرئيسة في (تيرمني) وقررت المشي نحوه، فهناك طرق عديدة تصل عبرها، وكلها جميلة تستدعي منك الوقوف مطولا، لتخب بعدها بسعادة في قلبك، وألم في عنقك لشدة ما رفعت رأسك وحدقت، وما أجمل الجلوس على مناضد المطعم على الرصيف، تنفث الدخان، والمطر ينهمر على المدينة، والسائحين يركضون تحت مطر لطيف الوقع.

أحيانا، كنت أذهب لماندلون منتصف الاسبوع، عقب عودتي من الدرس، وإذا استثقلت البعد وأردت العود باكرا ـ خصوصا أن إصلاحات قد بدأت في خط المترو الرابط بين منطقة سكني ـ أيور فيرمي ـ ومحطة التيرمني بما اوجب اغلاق الخط مبكرا أيام الاسبوع، واغلاقه تماما خلال العطل ـ فإنني كنت اسدر إلى مقهى قريب من المحطة الرئيسة، لاتناول شيشة يعدها شاب ايطالي، وأحيانا مصري، قبل أن الحق بالمترو، أو اطلق لنفسي الحرية، فأعود مستقلا الباص، فيقطع رحلة المترو ذات ال25 دقيقة في ساعة وربع الساعة تقريبا.

ومرة خرجت ملبيا هوسي بالمشي تحت المطر، اخذت الباص للتيرمني، والى مقهاي لاجلس ودخاني والمطر، قبل ان اظل ماشيا لحوالي الساعة تحت الرذاذ المتوسطي المنهمر من السماء، سعيدا.

عدا ذلك، كنتُ ارغب احيانا بتبديل مكان التدخين، فاستعين بخرائط الغوغل، بحثا عن الشيشة كما يسميها الاحبة في مصر، فكان مما وجدته مطعما سوريا اسمه (زنوبيا)، يا اهلا بالاحبة، قلت في نفسي، لابد أن لدى قاهرة الرومان، ثم مقهورتهم ما يطيب له الخاطر، فهلم للبحث هناك.

نزلتُ من الباص عند كاتدرائية القديس يوحنا اللاتراني، ثم انطلقت ماشيا في الشارع المؤدي إلى كنيسة سانتا ماريا دي ماجيوري (اسمه فيا ميرلونا على ما اذكر)، في منتصف الشارع الطويل، تستدير يمينا لتنزل نحو المطعم، تصله بعد عدة التفافات وطريق طوله تقطعه في عشرين دقيقة على التقريب.

حين وصلت، كان المطعم مغلقا، ويفتح بعد نصف ساعة، فبقيت اتجول في المنطقة، كان هناك مبنى حكومي كبير، لا ادري ما هو، والشارع الذي يقع عليه مقطوع بعوارض اسطوانية من ذلك النوع الذي ينبثق من الارض ويغور فيها حين تتطلب الحاجة مرور سيارة، جلست على احدها فجائني الشرطي وطلب مني التحرك بلطف، لأن الجلوس ممنوع هنا.

دخلتُ محل قرطاسية يجاور المطعم، تجولت، اشتريت بعض الأشياء، حتى جاء مالك المطعم، سوري صحبة ابنه وزوجته، فكنتُ أول الداخلين.

مالك المطعم رجل قارب الخمسين، شعره رمادي، يرتدي عوينات مستطيلة الشكل ذات اطار فضي لامع، بشارب مشذب ولحية حليقة، وعلى وجهه بدا وجع النازح، وضيق صدر  المهاجر.

طراز المقهى شرقي تماما، احاط الرجل جدرانه بمجالس عربية مرتفعة، منجدة بالصوف البدوي بألوانه الزاهية، كراسٍ شامية مشغولة بالقشرة والصدف، طاولات صغيرة قوائمها من النحاس المشغول وسطوحها مثمنة الشكل، على الجدران لوحات سورية وتحفيات من البلد الموجوع بالحرب.

طلبت شايا ونارجيلة، وشغلت في هاتفي النقال أغنية لناظم الغزالي، بعد قليل، شغّل المالك التلفاز، كانت هناك قناة عربية تبث اغان حديثة، رفعَ الصوت قليلا، ثم انتبه لي، وقال، ماذا افعل؟ اشغل هذه الاغاني الرديئة وأنت تسمع الأصل؟ آسف، ثم كتم الصوت، وجلب لي طلبي بعد وقت قصير.

ما علينا، وأنا انتظر افتتاح المطعم، انتبهت إلى بناية قيد التشييد، بعبارة أدق، جدار خشبي عال مما تحاط به مواقع البناء في الدول التي تحترم نفسها، ويسكنها اناس محترمون، لا يكومون مواد البناء على الطرقات، فيمر أمثالي فيتضايقون من الانقاض والرمل والحصى، فيشتمون أهل البناء، وأهل أهلهم، الصالح منهم قبل الطالح.

على الجدار المغطى بالفليكس، انتبهت أن هناك كتابة عربية مع لغات أخرى، التقطتُ صورة، لم أدرِ ما المشروع الذي يقبع خلف هذه الكتابة، لكنني عدت وبحثت عن الاسم الرئيس الذي تقدمها، توركاتو تاسو (torquato tasso) شاعر ايطالي من القرن السادس عشر، وكانت الكتابة كما ترون في الصورة، بعض من شعره مترجم لعدة لغات، بينها العربية، يقول:

(لكن في الساعة التي تطلق فيها الشمس الخيل من العربة المزينة

وتعشش في حضن البحر

لقد وصلت إلى المياه الصافية للأردن الجميل

ونزلت إلى ضفة النهر، واضطجعت)

………………………..

لم أعد لذلك المطعم مرة أخرى

يا لروما وأيامها العاطرة التي ذهبت أي ذهاب..

 

ارنستو تشي جيفارا

من قديم ما كتبت، لا اذكر تماما لماذا كتبت هذا المقال عن جيفارا، اظن ان احدهم طلب مني كتابة شيء عنه، تعريف به وبفلسفته، فكتبت هذه السطور البسيطة:

ولد ارنستو تشي جيفارا دي لا سيرانا، أو (تشي) كما يعرف مجردا في روزاريو/الارجنتين يوم 14 حزيران 1928، وتخرج من كلية الطب ليبدا سنة 1952 رحلته الشهيرة على الدراجة النارية ويشاهد مآسي أمريكا اللاتينية، المآسي التي حمّل الولايات المتحدة مسؤولية وقوعها.

وبالرغم من انخراطه المبكر في النشاط السياسي، واندماجه شيئا فشيئا بالحركات الراديكالية خصوصاً بعد أن اطاحت المخابرات المركزية الامريكية بحكومة خاكومو اربينيز المنتخبة في غواتيمالا وهروبه إلى المكسيك على أثرها، بالرغم من هذا النشاط، إلا أن نقطة التحول الحقيقية في حياة (تشي) السياسية كانت لقاؤه في تموز 1955 بجماعة كوبية يتزعمها معارض كوبي اسمه فيدل كاسترو.

انخرط جيفارا بعدها في حرب ثورية أطاحت بالنهاية بالدكتاتور الكوبي ورجل الولايات المتحدة بانيستا، وبعد توليه منصبا وزاريا في الحكومة الجديدة لمدة ترك السلطة وعاد لحمل السلاح في بوليفيا، وأسرته القوات الحكومية الموالية لواشنطن، وقتل سنة 1967 ولم يظهر جثمانه حتى العام 1997، حيث أعيد إلى كوبا.

وفي حقيقة الأمر، فإن جيفارا لم يكن منظراً ماركسيا كبيرا، ولم يكن مفكرا من الطراز الآيديولوجي البحت، ولم يترك وراءه كتابات ذات مستوى عال من التنظير السياسي، كان الرجل ببساطة ثائراً ينتمي إلى الانسانية برمتها دون تفاصيل أو حدود، وكان همه الأساس هو افتداء الانسانية من الشر المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية، على هذا عاش، وعليه مات.

ومقولته الشهيرة ((إني احس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في العالم فأينما وجد الظلم فذلك موطني)) تلخص فلسفته السياسية وآراءه الثورية، وكان يؤمن بمبدأ البؤرة الثورية ودور الفرد في التغيير التاريخي، كان يرى أن الفرد عندما يقوم بواجبه تجاه الانسانية فسوف يجد من يسانده، وتتوسع البؤرة الثورية وتكبر شيئا فشيئاً.

وبالرغم من كونه شيوعيا، إلا انه اصطدم بالنهاية بالفرق بين النظرية والتطبيق، يقول أ. محمد حسنين هيكل في كتابه (عبد الناصر والعالم/ ص458 ط الأولى) وهو يتحدث عن زيارة جيفارا إلى مصر ان الاسئلة الناتجة عن خيبة الأمل كانت تصطخب في صدر الرجل، وكان يسأل: ((من هو الشيوعي؟ ما هو دور الحزب؟ هل الشيوعي مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعي ان يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم ان على الشيوعي أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ، لكني تبينت ان ما قلته هو وصف لعامل جيد وليس لشيوعي جيد)).

((من يسن القوانين؟ ما هي العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة والناس؟ حتى يومنا هذا ظلت العلاقة تدار بانتقال الافكار واستقراءها تلقائياً لكن هذه الطريقة لم تعد كافية)).

((لقد كُلفّت بمهمة الاشراف على التحول الاجتماعي وكان المشكل الأول الذي واجهته هو إيجاد الاشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة، ثم وجدناهم وظننا انهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا انهم لا ينتمون إلى الحزب الثوري إنما إلى الحزب الإداري… وأخذوا يغلقون مكاتبهم في وجوه الناس للحفاظ على الهواء المكيف بدلاً من أن يفتحوها لاستقبال العمال… إني شيوعي، وقد قرأت القدر الكثير من الكتب الشيوعية، واصبحت معذبا مشتتا بين الثورة والدولة)).

ان فلسفة جيفارا الثورية تتلخص فيما قاله ذات يوم: ((إن نقطة التحول في حياة كل انسان تحل في اللحظة التي يقرر ان يواجه الموت، فإذا قرر ان يجابه الموت يكون بطلاً سواء نجح أم أخفق، إن في وسع الانسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا، ولكن إذا كان لا يستطيع ان يواجه الموت فإنه لن يكون أكثر من مجرد رجل سياسي)).

تلك العقيدة التي عاشها جيفارا، ومات من أجلها كما قال أ. هيكل.

في وداع استاذ نبيل… فالح فخر الدين

(1)

كانت الشدة، والضرب، والصرامة والتدقيق خلف كل صغيرة وكبيرة، ومتابعة كل شاردة وواردة بقسوة، هي سمة مدرسي ذلك العصر، حرصا على الطلاب، وصيانة لهم، واتساقا مع منظومة قاسية تبدأ من رأس الدولة، نزولا إلى قاع المجتمع، بينما كان هو يرفق بالطلاب رفقه بطير كسير الجناح، يتابع بمحبة، ويدرِّس بود، ويدقق بشفقة ما فوقها شفقة.

(2)

سمعتُ باسمه في الصف الرابع الاعدادي، كان يدرس طلاب الأدبي اللغة الانجليزية، في الخامس والسادس، كان يخب في ممرات إعدادية النجف العريقة صامتا نحو الدرس، وقد صوّن عيناه مركزا على سبيله، لا يلتفت يمينا ولا شمالا، لا يعبأ بالطلبة العابثين في طريقه، ولا يتكلم إلا ليطلب بلطف من المتواثبين كالقردة أن ينتحوا عن دربه نحو الصف، وضيء الوجه، بشرة بيضاء محمرة، عينان ملونتان ـ هل كان لونهما أخضر؟ لم أعد أذكر اللون المهيب ـ يصبغ شعره بانتظام كعادة أهل زمنه من النخبة، بدلات أنيقة، وألوان تناسب بشرته الساطعة، ومزاجه المدني غير العابئ بقسوة أذواق مجتمعه، هدوء يحيط به، وهمة وانضباط في أحلك  الظروف والتزام بالدوام رغم قسوة الزمن، والطلاب.

ثم انضويت تحت القسم الأدبي لألتقي به، مدرسا متضلعا بلغة الانجليز، صبور على تدريسها لأجيال وأجيال في إعدادية النجف.

(3)

عائلته كانت مميزة، استثنائية، فعدا انتمائه لأسرة آل فخر الدين، وهم بين تاجر ورجل دين وأستاذ جامعي أو طبيب أو مدرس، فإن بيته كان مميزا، بين طبيب، ومدرسين، ومدرسات، الاشقاء كلهم كانوا ممن نال تعليما عاليا، وتميزوا بأخلاقهم الرفيعة، درست اختاه مع أمي في دار المعلمات، ودرَّس هو أجيال من عائلتي.

كان من أسمح الناس خلقا، وألينهم عريكة، وأرحبهم صدرا، لا يغضب من تقافز الطلبة، وعدم فهمهم لشخصيته التي تحبهم وتحترم وجودهم الانساني فلا تضربهم، ولا تتعسف في معاملتهم، ينساب صوته هادئا رقيقا كأنه حلم فجر ترطبه نسائم البساتين على شط الكوفة، وبينما يصرخون، يستمر في أداء واجبه المقدس، دون كلل، مرة واحدة غضب، بعد أن بلغ استهتار الطلاب مبلغه، وصرخ بالطلاب، ثم أمرهم بإخراج اوراق بيضاء لاجراء امتحان يومي، نلنا جميعا في ذلك الامتحان الغاضب أصفارا لها بريق ورنة، حل صمت رهيب من الحليم الذي غضب، ثم خرج والحمقى الذين اغضبوه صامتون كالموتى.

ولكنه لم ينزل تلك الاصفار في سجل الدرجات، ولا اعتمدها، ونجحنا كلنا.

(4)

بعض من أثمن نصائح اللغة الانجليزية تعلمتها منه، كان يحثنا على متابعة الأفلام، ويقول: لو خرجتم من كل فيلم أجنبي بـ5% من الكلمات فأنتم رابحين.

وبينما كان الاساتذة من أصحاب الدروس الخصوصية يرشحون كل عام احتمالات لما يمكن أن يأتي من أسئلة في الامتحان الوزاري المركزي المرعب لطلبة السادس الاعدادي، الامتحان المفصلي الذي يمكن أن يدمر حياتك لو صدف وأصبت بالزكام، او توفي عزيز عليك، وكان الاساتذة يخطأون ويصيبون في ترشيحاتهم، وفي السنة التي امتحنتُ بها أنا قد جائت الاسئلة المرعبة مطابقة لما اقترحه المدرس المواضب، الاستاذ فالح فخر الدين، قال: اتوقع هذا العام أن يأتي انشاء من مسرحية تاجر البندقية ليس كما اعتدتم، ليس انشاءً يخص العربي الخاطب، ولا الاربعة الذين رفضتهم بورشيا بالجملة ـ هل كانوا أربعة؟ نسيت والله ـ بل سيأتي انشاءً يشمل الخاطبين كلهم، ستتهم ـ ستة؟ ـ احفظوا انشاءً يشمل الجميع.

وصدق الرجل، ونجحتُ.

(5)

بعد تخرجي من الاعدادية، زرت المدرسة، ومعي كاميرتي الفوتوغراف الروسية طراز فيلا، طلبتُ منه أن نلتقط صورة معا، انا وهو وحسب، ففرح، وقال هيا، لكن لا تأكل الصورة عليَّ، اريد نسخة منها، قلت له تأمر استاذي، وتصورنا قرب حديقة الإدارة.

بعدها بسنوات، بقيت افكر بأن اكتب له لوحة خطية أيام كنت امارس كتاب الخط العربي، وأن أهديها له مع نسخة الصورة، لكي يتذكرني دائما كما سأذكره ما حييت، ولكن الحياة عصرتني، وأخذتني بعيدا، فلم اشاهد الرجل الأنيق بعدها إلا من بعيد لبعيد، دون أن أفي بوعدي له، وحين سمعت صباح اليوم (24/ 5/ 2020) بخبر رحيله إلى رحمة ربه الكريم، قلبت مئات الصور لأجد صورتي معه، ولم افلح.

عاقبتني يا استاذي لعدم الوفاء بوعدي لك، فرحلت، وفقدت صورتي معك…

رحمة الله عليك أيها النقي النبيل.

الصورة: في الصف السادس الأدبي، اعدادية النجف، للسنة الدراسية 2004 – 2005، يظهر في الصورة الاستاذ فالح فخر الدين، جنبه حسين كشكول، وأنا جالسا، في الرحلة الأمامية إيهاب ابو شبع، وحسنين الحارس

 

في البحث والباحثين، حديث من زميل محب

يحسن بي الظن الكثير من الأخوة فيطلبون رأيا في تخصصي العام، أعني العلوم السياسية، ولكن الأسئلة كثيرا ما تكون خارج تخصصي الدقيق ـ النظم السياسية، اجتماع سياسي وسياسات عامة، وكلها في الشأن العراقي ـ وهنا اعتذر بأدب عن الاجابة، ليس لأنني لا اعرفها او لأنني لا املك رأيا فيها، ولكن لاحترامي لحدود التخصص، أنا اعرف بشكل جيد تخصصي الدقيق، أعرف العراق بشكل جيد، مجتمعه، أديانه، طوائفه، المؤسسة الدينية فيه، اعرفها نظريا وميدانيا بحكم دراستي الدينية فيها، واهتماماتي البحثية، تاريخ العراق، أما اقتصاديات العراق وتاريخها، الاستراتيجيات، السياسات الدولية، والعلاقات الدولية، هذه الفروع اعرف عنها جيدا ولكنني لا أفتي فيها أبدا، ولا اكتب عنها، اعتذر عن الاستكتابات التي تردني ضمنها وإن كان فيها مكسب مالي أو سفر، ليست حقلي، وكوني قرأت فيها بعض الكتب لا يؤهلني لأن ادعي فيها وأكتب بما يرضيني، حسنا بما يرضي غروري وطموحي العلمي.

اقرأ في الفيسبوك الكثير وأتابع الكثيرين، بالنسبة لي يشكل الفيسبوك كنزا من البيانات يغنيني عن استمارات الاستطلاع او الحديث غير الضروري للناس في الشارع، لهذا اخصص له وقت طويل، هو ملعبي ومضماري وساحة صيدي، ومما لاحظته أن الكثيرين من الدارسين ـ لن اتحدث عن الجهلة الذين يدسون انوفهم في كل شيء ويكتبون عن كل شيء ـ والمتخصصين في حقول علمية معينة، وبعض من طلبة الدراسات العليا، يكتبون في كل شيء أيضا، ويقرأون بدون تنظيم، ومنشوراتهم تتطاير من التاريخ للنظم السياسية للعلاقات الدولية لتاريخ العلوم لوباء كورونا للاستراتيجيات والقوى الكبرى وصولا إلى الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون وهلم جرا!

نعم، بعضهم يقرأ في كل هذه الحقول، ودارسي علم السياسة بحاجة فعلية لهذا القدر من التنوع في القراءة، ولكن لابد من التركيز على حقل معين، حقلكم التخصصي الذي تدرسونه وستكتبون رسائلكم وأطاريحكم ضمنه، لا يُمْكِن للباحث أن يكتب في كل شيء، هذا الامر، بقدر ما فيه من تشتيت للباحث، وتضييع لقدرته البحثية التي يمكن أن تتبلور وتنمو وتبدع في فرع من حقل علمي معين فإنه وبذات الوقت فيه استهانة بالعلم والتخصص، وكلا الامرين لا يليقان بالباحث الجاد ولا يساعدانه في مسيرته العلمية ولا يمنحانه التميز المنشود.

تجدون بعض حملة الشهادة العليا يتقلبون في الشاشات يفتون في كل شيء، ولكن أيها الاحبة لو تتبعتم بعضهم لما وجدتم انهم كتبوا شيئا ذا قيمة منذ شغلهم التلفاز، باستثناء بعض اساتذتنا المحترمين من ذوي النتاج الثر.

لا تحذوا حذوهم، واقتراح ـ اكره استخدام كلمة نصيحة التي تبدوا وكأنها من عالم لغير عالم ولا احبذ استخدامها مع زملائي ـ من أخ لكم يمارس البحث العلمي والنشر والكتابة بانتظام منذ العام 2012، لا تكتبوا في كل شيء، ولا تكتبوا بكثرة، في تخصصكم العبرة بالعمق والجدة لا بالعدد، قد تجدون زميلا لكم نشر 10 كتب ولكنها غير ذات قيمة، وكان الأجدى له لو أنجز كتابا واحدا، بل بحثا واحدا مهما، ونشره في دورية مهمة، او مركز دراسات مهم، ولكان خير له وأبقى، ولكان أفادنا بالكثير بدلا من هذا السيل المهدور يمينا وشمالا، كما ان الكتابة في كل فروع التخصص هدر، وتشتت، وخطأ علمي، حددوا أنفسكم بعنصر معين وأبدعوا فيه.

أمر آخر، كما أن الجرأة واقتحام المحظور والتفكير خارج الصندوق مطلوبة للباحث، وهي معيار جودته وإتيانه بالجديد من الأفكار، إلا أن احترام القواعد مطلوب، والتأسيس على من سبقكم جزء أصيل من البحث، وبقدر ما يكون حدس الباحث مفيدا لكنه لا قيمة له بلا أدلة، ولا يجدر بالباحث الحديث عن كل ما يهجس بباله من الغث والسمين، او يستنتجه اثناء بحثه وقراءته، الافكار تنمو بالتأمل والتدبر والتثبت والتعزيز بالأدلة، حتى تولد، لا مبكرة غير ناضجة، ولا متأخرة فات ميعادها، فإذا تم لها النضج، وتوفرت لها الأدلة، والمصادر، فاعزم عليها، ولا تُضِعْها في منشور على الفيسبوك، اكتبها كبحث، وامضي في سبيلك مستقصيا فكرة أخرى، أو مؤسسا على فكرتك تلك منطلق نحو المزيد من التأصيل، وإياك والفرقعة التي يحبها بعض الناشرين، فهي باب معايشهم، ومقتلكم أيضا، إذا لم يكن لموضوعك الجريء أدلة تعززه فلا تقتحمه يا صديقي وتأتي بعمل سطحي يطير مع أول نسمة ينفخها خبير على بحثك المفرقع.

وبقدر ما يحتاج الباحث إلى القراءة في الأدب لتستقيم لغته وكتابته، فإنه يحتاج أيضا أول أمره إلى مران على الكتابة، وخير مران هو كتابة المقالات، ولكن يا رعاكم الله في تخصصكم، لا تشتتوا انفسكم بين التخصصات خارجا، والفروع داخل تخصصكم العلمي.

اقتراحي الدائم على أهل البحث هو: اكتبوا عما تعرفونه أكثر من غيره، وما تعرفونه أكثر من غيركم، والسلام.

 

عن رمضان الذي افتقد

 

ارتبط رمضان في ذاكرتي بأمور خاصة، أسرية، وأمور عامة شاركت فيها أبناء مدينتي الآخرين.

كنجفي، كان صوت محمد عنوز، مؤذن الروضة الحيدرية ملازما لكل حدث ديني كبير يستلزم دورا لصوت مؤذن العتبة ينطلق من المأذنة، وشهر رمضان كان في طليعة تلك الاحداث.

كان صوته يبدأ أواخر شهر شعبان، يهلهل معلنا نهايته وقدوم أخيه: مرحبا مرحبا يا شهر رمضان، مرحبا مرحبا يا شهر الطاعة والإيمان… ثم يدور القمر في مداره ويهل مؤكدا وصول شهر الصيام، ليبدأ الصوت الرخيم بتشكيل ذاكرة الطفل الذي كنته عن الشهر الأهم في دين المسلمين، شهر رمضان.

كان صوته إيذانا بانتهاء النهار، يجلب معه المغرب كهدية، مؤذنا، أول عرى الفرح التي يمسكها الصائمون، ليهرعوا إلى إفطارهم وصلاتهم.

ثم، وما أن يستريح القوم، ويأخذون بالانسلال إلى الولاية ـ المدينة القديمة ـ ساعين نحو قبر الإمام علي، يجتمعون كلٌ لشأنه وربه، يبدأ صوت محمد عنوز بالانهمار كالغيث على المَحْل، من مأذنة العتبة العلوية، ينساب رخيما، عميقا، مهيبا، يسلك طريقه نحو الأفئدة الوجلة، يتخطى الأصوات المتزاحمة كأنها غير موجودة، يعزل السامعين عن الصخب الذي تزدحم به دنياهم، عن الحصار الذي يضرب معايشهم، والبطش الذي يهيمن على حياتهم، وعيون عناصر الأمن التي تترصد تهجدهم عند علي، صاحب طمأنينتهم.

كان يبسمل، ثم يسدر في قراءة دعاء الافتتاح: اللّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ…

كلمات تسلك دربها للقلوب لتحييها، ترويها بعد ظمأ، تؤمنها بعد خوف، يرقق صوته، يمد حروف الدعاء بشغف، حتى يصل إلى ذلك المقطع الفخم: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يُهْتَكُ حِجابُهُ، وَلا يُغْلَقُ بابُهُ، وَلا يُرَدُّ سائِلُهُ، وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ.

الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُؤْمِنُ الخائِفِينَ، وَيُنَجِّي الصَّالِحِينَ، وَيَرْفَعُ المُسْتَضْعَفِينَ، وَيَضَعُ المُسْتَكْبِرِينَ، وَيُهْلِكُ مُلُوكا وَيَسْتَخْلِفُ آخَرِينَ.

يقول، ويهلك ملوكا ويستخلف آخرين، يمد حروف المد في الجملتين مدا، يبدوا فيه صوته متسربلا بإصرار عجيب، كأنه قادم من عالم آخر، ملكوتي، يخبر المتوجسين بأن لا ظالم يدوم، ولا حال يخلد، فكانت الناس كأنها ترفع اعينها لصورة الجلاد المعلقة عنوة في الروضة، مطمأنة لمصيره القادم.

ثم تؤوب الناس إلى دورها، منتظرة صوت محمد عنوز في السحر، يدعوا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ بَهَائِكَ بِأَبْهَاهُ وَ كُلُّ بَهَائِكَ بَهِيٌّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِبَهَائِكَ كُلِّهِ.

لينذرهم بعدها بقرب طلوع الفجر وموعد الامساك، منغما ارجوزة رمضانية: إشرب الماء وعجل قبل أن يأتي الصباح… حتى يقول: لا تشرب، فتمسك الأبدان عن شرابها ومطعمها، بانتظار يوم متعب آخر من الصيام، حتى ينقضي الشهر، فيأتي صوته باكيا في أيامه الأخيرة: الوداع الوداع يا شهر رمضان، يا شهر الطاعة والإيمان…

أقصي الرجل من مكانه لاحقا بعد ان راح رعب صدام عن البلد بسنوات، اقصي لمزاج شخصي بدا وكأنه مدفوع بكره النجف، أهلها، لا أكثر، ولم يترك بابا الا وطرقه ليعود، باكيا متحسرا لمجلسه تحت مأذنة علي، دون فائدة، فرضي بأن يرسل صوته عبر مقام آخر في النجف.

كل رمضان فاتني بعيدا عن صوته العذب لم يلمس خلجات روحي، لم يمر عليّ رمضان منذ ذلك الوقت كعذوبة أيامه السابقة، سواء حين كنت مطمئنا بإيماني، أو حين سكنني القلق فيه، فصرت لا أكاد أقر لقرار، أو يخبو لنار قلبي أوار، يا لأيام الطمأنينة تلك، “بعت منها باللجين الذهبا” كما يقول #محمد_سعيد_الحبوبي.

كل رمضان خارج تلك المدينة العتيقة، خارج بيتنا القديم في طرف البراق، كل شهر، ليس كتلك الشهور، لا يمنح قلبي السكينة، التي فقدتها… ولن تعود.

العاملي والجادرجي

الشيخ بهاء الدين العاملي، محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي الهمداني (953 – 1030 هـ) المعروف باسم الشيخ البهائي، فيلسوف وفقيه وعالم رياضيات و.. معماري، له العديد من البنايات الاستثنائية في ايران، والنجف، وظف فيها معرفته بالرياضيات والفلك فجاء ببنايات ذات طبيعة غريبة، وليس هذا محل النقاش بشأن عماراته، إنما اذكره هنا مستعينا بما قاله ذات يوم عن الايمان، اذكرها بمعرض مناسبة وفاة زميله في مهنة العمارة والفلسفة، رفعت ـ أو رفعة ـ الجادرجي كما كان يطيب له ان يكتب اسمه.

يقول العاملي الفقيه:

(إن المكلف إذا بلغ جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء إذا كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف الحق)

والدليل المعني هنا هو: الإيمان بالخالق، سبحانه.

هذه الكلمة البليغة في معنى الايمان اوجهها لكل من هاجم الجادرجي خلال الايام الماضية بسبب رحلته الفلسفية في الحياة، التي انفق عمره وأجهد نفسه غاية الجهد في استحصالها حتى صارت رؤيته تجاه الحياة، معرب معها عن احترامه لكل الاديان ومن يؤمن بها، دون شتيمة، دون تسخيف.

خلال الأيام الماضية شتم الرجل، وهوجم من طلب له رحمة الله الكريم ـ الرحمن الرحيم، الذي كتب على نفسه الرحمة، وسبقت رحمته غضبه ـ بل ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك فسخفوا منجزه المعماري بسبب عقيدته، بل ان احدهم تساخف وناقض نفسه حتى جاء برأي مهندسة عبقرية نعم، لكنها منسخلة عن بيئتها الام، ابنة الحداثة التي لا اطيق بناياتها: زهاء حديد، التي عيرت الجادرجي بانه يستلهم الفلكلور الاسلامي في عمارته، ممتدحة ايام انغماره في الحداثة قبل اكتشاف ذاته المحلية وذوبانه في العمارة الاسلامية بنكهة حداثية جعلته متميزا، قائم بمدرسته، وليس حداثي مغرق في الوهم ينتج عمارة وحشية مثل زهاء حديد.

الغريب ان من شتمه لكونه غير مسلم، جلب رأي من هاجمته بسبب تمسكه بالعمارة والفلكلور الاسلامي!!

تأمل يا رعاك الله!

انجز الجادرجي عمارة محتفية بالهوية الاسلامية المحلية، شغفه التراث الاسلامي، وصارت إعادة إنتاجه بشكل حديث متصالح مع الهوية المحلية شاغله وهاجسه الذي تجده في كل منجزه العظيم.

عمارة متميزة، مبهرة، محتفية بالتفاصيل المحلية، تجد فيها انسجاما مع المحيط الإسلامي دون مشقة، ولم افهم كيف استدل بعض الفنانين على أن منجزه خال من الروحانية أو شيء من هذا القبيل، عجيب والله.

دعوا الخلق للخالق، ورحمته وسعت كل شيء ـ كما وصف نفسه سبحانه ـ أما الجادرجي فقد كان معماريا عظيما، ومتفلسف في الحياة والعمارة، ترك تراثا مبهرا نفخر به كعراقيين.

ثم عيني، رفعت صهرنا ـ نحن النجفيين ـ ولن يرضيني ان يشتم صهرنا وهو غير مستحق للشتم!

#بهاء_الدين_العاملي

#رفعت_الجادرجي

 

 

في استقباله…

علي عبد  الهادي المعموري

هل هو ابن التطور الطبيعي أم هو سلاح مصطنع؟

لا يهمني، حقا لا يهمني، لا آبه مطلقا، وإن كنت في قرارة نفسي موقن أن الوجود في الطبيعة كله قائم على توازن دقيق، توازن مذهل بالنسبة لي، معزز لقناعاتي الايمانية الخاصة ـ لن اتحدث عنها ـ وأن الإنسان أحدث خلال آخر 100 عام في هذا التوازن ما لم يحدثه خلال عمر البشرية كلها، خرّب وشوّه وحطّم نظما بيئية عمرها ملايين السنين، دون تفكير، بغباء، بجشع لا نظير له، ولابد للنظام الطبيعي أن يحمي نفسه ـ مثل أي نظام ـ لا نعرف بالضبط كيف يتوازن هذا المزيج المعقد، ولا ندرك كيف يمكن أن يحمي نفسه.

لست مهتما بمصير البشرية، إلى سقر وبئس المقر، نحن لا ننال إلا ما جنت أيدينا، وما كان ربك بظلام للعبيد.

ماذا عن مصيري الشخصي؟

كنت أحلم بأن أكون كاتبا، أخلد بما تركته من نتاج معرفي، منذ طفولتي الحالمة بالكتاب، الذائبة فيه، أقلب بصري في الرفوف المصطفة في طوابق مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف، أحدق عاليا، حتى تعانق عيناي الضوء المنهمر من مركز قبة المكتبة المهيبة، وأحلم أن يكون لي رف بين رفوفها، يحمل اسمي، مؤلفا، لكم أحببت تلك المكتبة، فكانت أول نسخة أهديها من كتابي الأول حصة مكتبة الامام الحكيم.

أمسكت أول طريق حلمي بالكتابة، كتاب مفرد، و4 كتب أخرى مشتركة، وبحوث ومقالات بالعربية والانجليزية، واستيقنت روحي المضطربة طريقها ووجدت ذاتها في الكتابة، وحدها، لا شريك لها.

حلمت في طفولتي أن أزور لبنان، وإيران، وتركيا، وايطاليا بمعالمها الكثيرة، وألمانيا، ولندن، وأمستردام وبجليكا، وفعلت، وطبت نفسا، وقفت تحت سقف السيستين المهيب، تسمرت أمام لوحة رافائيل: (مدرسة أثينا) التي حلمت برؤيتها، ورؤية ابن رشد الرابض فيها منذ أن قرأت عنها في مجلة العربية قبل أكثر من عشرين عام، تجولت تحت سقف كاتدرائية القديس بيتر، وطأت دروب روما، وقنوات البندقية، ولمست برج بيزا المائل، وقفت قرب بيغ بن، وبرج لندن، وساحة الطرف الاغر، وسوهو التي ضاع فيها كولن ولسن، اخذتني رهبة آيا صوفيا، وجمال البسفور، ومهابة الروشة في بيروت، وغيرها وغيرها.

نعم، لا زالت في النفس أماني كثيرة لمدن كثيرة، ولكنها نالت الكثير مما اشتهت من المدن، وأهلها.

نفذتُ من الموت مرارا، موت اقتحمته بنفسي في بعض الاحيان، حلمت ـ وأنا ابن الوله العراقي بالموت ـ أن أموت مجلل بدمي، ميتة فخورة ـ تخيل أن نفخر بالموت ـ اصطلحت مع الموت مبكرا، ولا زلنا وإياه مصطلحان، حتى إذا  كان سخيفا مثل الموت بفايروس لا يعرف نسبه.

انا مستعد للموت، راضٍ بما نلته، ساخط لكل ما لم ينله الاخرون، لكل ما حرم الناس منه، وسرق منهم، ساخط ويغلي الدم في عروقي واتقلب على فراش من الجمر المستعر.

انا مستعد لاستقبال الموت، راغب فيه، ساعٍ إليه، أما إذا قدّر لي ان أعبره بسلام، وأعبر مع الناس أزمة هذا الفايروس، فلن أظل في هذا الوجع المستديم، واللعنة التي لا فكاك منها، سأغادر لأموت في بلادٍ يجمد صقيعها عظامي الكارهة للبرد، وعلى شفتي اسم كل شبر وطأته على هذا التراب، وبين جفوني صورة كل مكان قبلته عيناي، وفي قلبي ذاكرة مضطربة بالعراق.

أمنية واحدة ستظل عزيزة، أن أقرأ ما سيكتبه اصدقائي في رثائي، بموت قريب، أم بموت بعيد بارد.

الصورة: أنا تحت سقف كنيسة السيستين.