في البحث والباحثين، حديث من زميل محب

يحسن بي الظن الكثير من الأخوة فيطلبون رأيا في تخصصي العام، أعني العلوم السياسية، ولكن الأسئلة كثيرا ما تكون خارج تخصصي الدقيق ـ النظم السياسية، اجتماع سياسي وسياسات عامة، وكلها في الشأن العراقي ـ وهنا اعتذر بأدب عن الاجابة، ليس لأنني لا اعرفها او لأنني لا املك رأيا فيها، ولكن لاحترامي لحدود التخصص، أنا اعرف بشكل جيد تخصصي الدقيق، أعرف العراق بشكل جيد، مجتمعه، أديانه، طوائفه، المؤسسة الدينية فيه، اعرفها نظريا وميدانيا بحكم دراستي الدينية فيها، واهتماماتي البحثية، تاريخ العراق، أما اقتصاديات العراق وتاريخها، الاستراتيجيات، السياسات الدولية، والعلاقات الدولية، هذه الفروع اعرف عنها جيدا ولكنني لا أفتي فيها أبدا، ولا اكتب عنها، اعتذر عن الاستكتابات التي تردني ضمنها وإن كان فيها مكسب مالي أو سفر، ليست حقلي، وكوني قرأت فيها بعض الكتب لا يؤهلني لأن ادعي فيها وأكتب بما يرضيني، حسنا بما يرضي غروري وطموحي العلمي.

اقرأ في الفيسبوك الكثير وأتابع الكثيرين، بالنسبة لي يشكل الفيسبوك كنزا من البيانات يغنيني عن استمارات الاستطلاع او الحديث غير الضروري للناس في الشارع، لهذا اخصص له وقت طويل، هو ملعبي ومضماري وساحة صيدي، ومما لاحظته أن الكثيرين من الدارسين ـ لن اتحدث عن الجهلة الذين يدسون انوفهم في كل شيء ويكتبون عن كل شيء ـ والمتخصصين في حقول علمية معينة، وبعض من طلبة الدراسات العليا، يكتبون في كل شيء أيضا، ويقرأون بدون تنظيم، ومنشوراتهم تتطاير من التاريخ للنظم السياسية للعلاقات الدولية لتاريخ العلوم لوباء كورونا للاستراتيجيات والقوى الكبرى وصولا إلى الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون وهلم جرا!

نعم، بعضهم يقرأ في كل هذه الحقول، ودارسي علم السياسة بحاجة فعلية لهذا القدر من التنوع في القراءة، ولكن لابد من التركيز على حقل معين، حقلكم التخصصي الذي تدرسونه وستكتبون رسائلكم وأطاريحكم ضمنه، لا يُمْكِن للباحث أن يكتب في كل شيء، هذا الامر، بقدر ما فيه من تشتيت للباحث، وتضييع لقدرته البحثية التي يمكن أن تتبلور وتنمو وتبدع في فرع من حقل علمي معين فإنه وبذات الوقت فيه استهانة بالعلم والتخصص، وكلا الامرين لا يليقان بالباحث الجاد ولا يساعدانه في مسيرته العلمية ولا يمنحانه التميز المنشود.

تجدون بعض حملة الشهادة العليا يتقلبون في الشاشات يفتون في كل شيء، ولكن أيها الاحبة لو تتبعتم بعضهم لما وجدتم انهم كتبوا شيئا ذا قيمة منذ شغلهم التلفاز، باستثناء بعض اساتذتنا المحترمين من ذوي النتاج الثر.

لا تحذوا حذوهم، واقتراح ـ اكره استخدام كلمة نصيحة التي تبدوا وكأنها من عالم لغير عالم ولا احبذ استخدامها مع زملائي ـ من أخ لكم يمارس البحث العلمي والنشر والكتابة بانتظام منذ العام 2012، لا تكتبوا في كل شيء، ولا تكتبوا بكثرة، في تخصصكم العبرة بالعمق والجدة لا بالعدد، قد تجدون زميلا لكم نشر 10 كتب ولكنها غير ذات قيمة، وكان الأجدى له لو أنجز كتابا واحدا، بل بحثا واحدا مهما، ونشره في دورية مهمة، او مركز دراسات مهم، ولكان خير له وأبقى، ولكان أفادنا بالكثير بدلا من هذا السيل المهدور يمينا وشمالا، كما ان الكتابة في كل فروع التخصص هدر، وتشتت، وخطأ علمي، حددوا أنفسكم بعنصر معين وأبدعوا فيه.

أمر آخر، كما أن الجرأة واقتحام المحظور والتفكير خارج الصندوق مطلوبة للباحث، وهي معيار جودته وإتيانه بالجديد من الأفكار، إلا أن احترام القواعد مطلوب، والتأسيس على من سبقكم جزء أصيل من البحث، وبقدر ما يكون حدس الباحث مفيدا لكنه لا قيمة له بلا أدلة، ولا يجدر بالباحث الحديث عن كل ما يهجس بباله من الغث والسمين، او يستنتجه اثناء بحثه وقراءته، الافكار تنمو بالتأمل والتدبر والتثبت والتعزيز بالأدلة، حتى تولد، لا مبكرة غير ناضجة، ولا متأخرة فات ميعادها، فإذا تم لها النضج، وتوفرت لها الأدلة، والمصادر، فاعزم عليها، ولا تُضِعْها في منشور على الفيسبوك، اكتبها كبحث، وامضي في سبيلك مستقصيا فكرة أخرى، أو مؤسسا على فكرتك تلك منطلق نحو المزيد من التأصيل، وإياك والفرقعة التي يحبها بعض الناشرين، فهي باب معايشهم، ومقتلكم أيضا، إذا لم يكن لموضوعك الجريء أدلة تعززه فلا تقتحمه يا صديقي وتأتي بعمل سطحي يطير مع أول نسمة ينفخها خبير على بحثك المفرقع.

وبقدر ما يحتاج الباحث إلى القراءة في الأدب لتستقيم لغته وكتابته، فإنه يحتاج أيضا أول أمره إلى مران على الكتابة، وخير مران هو كتابة المقالات، ولكن يا رعاكم الله في تخصصكم، لا تشتتوا انفسكم بين التخصصات خارجا، والفروع داخل تخصصكم العلمي.

اقتراحي الدائم على أهل البحث هو: اكتبوا عما تعرفونه أكثر من غيره، وما تعرفونه أكثر من غيركم، والسلام.