عن الفقدان وعبثية خيارات الموت

حسنا في أحيان كثيرة يبدو عريان السيد خلف محقا جدا وهو يقول

عمت عين الليالي وهجم بيت الموت

يتخطى الرعيع وياخذ الماجد

أنا اعرف ذلك بتجربة شخصية، وربما تعرفون بدوركم الكثير من النماذج والإثباتات لهذا البيت المرعب.

واحسب اننا نشعر بذلك الشعور في أحيان كثيرة عند فقدان من نحب، من يكون لهم موقع مؤثر في حياتنا، أصدقاء، وأساتذة، وأسرة، ولعل شعورنا الطاغي بالحزن، وألم الخسارة هو ما يجعلنا نتوجه بأبصارنا فورا الى الأشخاص الذين نشعر بالغضب تجاههم، ونراهم سلبيين، مؤذين، ليس لنا وحسب، ولكن لكل من يحيط بهم.

ولكننا نغفل في ذات الوقت أن لهؤلاء الأشخاص من يحبهم، ويراهم مثاليون، له معاييره ومعاذيره في ذلك، صديق أو فرد من أسرة.

ورغم أني اذهب إلى نسبية كل ما يتعلق بالانسان، سلوكا وعقيدة، وأنه ابن بيئته، ونتاج تنشئته، لكن رغم ذلك، ورغم أن الله اللطيف لا يزال يحيط بحفظه أغلب من أحبهم ويهمني أمرهم بشكل شخصي، رغم ذلك، لا زلت اتذكر قائمة من الأسماء التي عددتها حينما علمت بمرض صديقي الراحل علي الغريفي وودت لو يكون المرض قد اخترمهم دونه، وغضبت وشتمت تلك القائمة بعنف حينما أخبروني بوفاته بعد وقت قصير جداً.

لا أعرف إذا كنا نتألم لهؤلاء الراحلين ونتمنى أن تصيب المكاره آخرين – يستحقون الثرم في أحيان كثيرة – لا أعرف إذا كان شعورنا هذا نابع عن محبة أم عن أنانية، نابع من حزننا أم من أدراكنا لحاجتنا لوجود هؤلاء الأحبة في حياتنا، حياتنا التي ستبدو وكأنها مصابة بخلل عميق بدونهم، ولكن حتى هذه الانانية في هذه الحالة هي أنانية غير مستقبحة.

شقيقي الصغير، انت تعرف أن اخوك فاشل في مواساتك بصوته، وأنه يلجأ إلى الكتابة ليعبر عما يدور بداخله، ولأنها تجربتك الأولى بوشوك فقدان شخص قريب لروحك كصديق، كناصح، كأخ أكبر، ولأني رأيتك متأثر كما لم تكن من قبل، ولأنك لطالما أبديت مشاعر عميقة معقدة تجاه صاحبك الذي أصابه المرض الذي يقطع الرجاء، ويدور في هذه البلاد بجنون يخبط ذات اليمين وذات الشمال، متخيراً – كما نزعم ويزعم عريان السيد خلف – خير الرجال والنساء، لهذا كله اكتب لك خصيصا هذه الكلمات.

أن هذا الألم الشخصي، مرتبط بالتباس ذاتنا في إيجاد عذر منطقي يفسر لماذا يختار الموت أكثر الأشخاص نبلا في حياتنا ويعدو تاركا الآخرين الأكثر وضاعة وقبحا؟ لماذا يموت الذين هم الأكثر عطفا ورعاية لأسرهم وأحبتهم، ويظل الذين يشكل وجودهم سما لكل ما حولهم يمشون على طولهم، يتنفسون الهواء، ويشربون ويأكلون ويسرحون ويمرحون؟ لا أعرف حقا إجابة منطقية لهذا السؤال ولكني أعرف أن هناك أيضا آخرون نبلاء في حياتنا، وأن هناك الملايين من النبلاء الذين يحيون بصمت، ويسبغون الرحمة على من حولهم وإن لم نعرفهم، وإن لم يعرفهم عريان السيد خلف.

هناك ومضة قرأتها في التسعينات، لا تزال تطرق أذني منذ ذلك الوقت، تقول:

لا تـﮕلي الموت حاقد على الأنام

الموت صاحب ذوق أزيدنك علم

جرب بنفسك ومر آعله الورود

أحلى وردة تروح تـﮕطعها وتشم

أعرف ان الشاعر يحاول أن يعزي نفسه بهذه الكلام، وأن كلماته لا تضارع حقيقة عريان المرعبة، ولكننا في النهاية جميعا راحلون، وكل ما يبقى منا هو ذكرنا، وخير الميراث الذكرى العطرة، والسيرة النبيلة، وهو ما عليه صاحبك…

أخوك

[الرسمة للعراقي: ميثم راضي]