كيمياء… كيمياء


1

الطرقات تتسع باتساع روحك

وتضيق بضيق أفقك

لعينيك حدود تصنعها هواجسك، بصيرتك عيون تمتد بامتداد خيالك.

الحياة كيمياء، نحن قوارير….

ـ طيب، أليس الأصوب أن الحياة كيمياء وقوارير، ونحن المواد التي تملأها؟

ـ كلا يا بني، الحياة كيمياء، ونحن قوارير، أما العناصر فهي أرواحنا.

الحياة كيمياء، جدول دوري، فيه العناصر النبيلة، وفيه الخسيسة، القوارير لا ذنب لها، والمواد لا ذنب لها، المواد تتشكل حسب الظروف، وُجدت منذ الأزل، كوَّنتها الدهور وما خلفته، ثم شكَّلتها أيدي البشر كيف قدرت، ووضعتها حيث شئنا، لا كما شاءت، أما نحن، فشكَّلنا السلاطين، ففسدنا، وناضلت عناصر غير مصنفة، صبها الخالق خصيصا لإصلاحنا ما وسعتهم القوارير التي صُبوّا فيها.

الطرقات تنظف إذا نظفت العناصر.

وتتسخ إذا لم تكن الظروف الطبيعية لنشأتك سوية.

 2

كنتُ صبيا قصير القامة، في الصف الأول المتوسط، عندما جمعنا مديرنا المرعب، أبو فتيان ـ الذي نلقبه بالليث الأبيض ـ ليعلن لنا بفخر انجازه، كأنه ارخميدس الذي صرخ: وجدتها… وجدتها، أما انجاز أبو فتيان فكان استقدام مدرس جديد للكيمياء، مدرس بشرنا المدير المرهوب بأننا سنجده منذ اليوم الأول لدوامه يحمل الطبشور، ويدور على الشُعب، ليلقي دروسه.

 3

لم يكن المدرس الجديد ذي هيئة ودودة، طويل القامة نحيف، يرتدي بدلة سفاري بنية فاتحة اللون، وجه حاد الملامح، له نواظر يتطاير منهما الشرر، خفنا من مقدمه، كخوفنا من المدير، المدير الصارم الذي لا يتفاهم، ولكنا كنا واهمين.

 4

صدق المدير وعده، منذ اول يوم قدم فيه المدرس الجديد، وهو يدور على الشعب، يُدَّرِس، عصاه تحت إبطه، إذا اقبل عليك بها بهيئة المغضب تخاله سيقطع أوصالك، ولكنه لم يكن يفعل بها سوى الهش، كأننا غنمه، ولا اعرف إذا كان له بها مآرب أخرى.

ولكن الم يكن الانبياء معلمون؟

تدريجيا، صرت تراه في كل مكان، في الإدارة ينظم السجلات ويقوم بعمل المعاون، يوزع الكتب والدفاتر، يتابع بحرص شديد نظافة المدرسة ـ لهذا أضاف بعض الطلبة المتظارفين لاسمه لقب: بلدية ـ يتابع إصلاح المقاعد المكسورة في زمن التسعينات العراقي البائس، يتسوق لحانوت المدرسة ويديره، يتابع إدامة أقسام المدرسة، ينظم القاعات الامتحانية، يدور على الطلبة فيها، يساعدهم في حل الأسئلة، لكل الدروس، كان يعرف كل شيء، ويساعد في كل شيء، حيثما كنت من المدرسة، ستسمع صوته الأجش، البارز، ملعلعا، معلنا وجوده النابض بالحياة.

 5

المفازات لا تعرف الأصدقاء، أصدقاؤها الذين خبروها، وفهموا كيف ينفذون منها.

التجارب في الكيمياء لا تحتمل الخطأ، جزء من رقم صغير يقلب الحسبة على وجهها.

التجارب في الحياة لا قاعدة لها، ولا مقادير، تحتمل الارتجال أكثر من القوانين، القوانين في الحياة مجرد ضوابط عامة، والتفاصيل عائمة.

ـ ولكن ألم يكن بعضا من أعظم الاختراعات البشرية نتيجة خطأ في المعادلة؟

ـ مما يجعلك تعرف أن الخطأ في الحياة ليس كالخطأ في المعادلة.

ـ ؟

ـ الخطأ في الحياة هو ما يجعل من المخلوقات ـ على اختلاف جنسها ـ رجالا، أو نساء، إذا استطاع تشكيلك، وأوجد منك عنصرا نبيلا فنعم الخطأ، أما إذا بقيت كما أنت، فعنصرك راكد، والخطأ معك كالصواب، معروف النتائج.

ـ ؟

ـ  الخطأ في المعادلة؛ الذي يولد عنصرا جديدا ــ بعضا من أعظم الاختراعات كما قلت ـ لا يسلب العناصر الأصلية طبيعتها، ولا يغير كينونتها، والعنصر الجديد يظل جديدا، ينتمي لمن شكّله، ولا ينتمي من شكّله له.

العناصر تكتسب خصائصها بالفطرة، وتعركّها النار، فتزداد جودة، أو تزداد رداءة!

 6

كان نبيلا، قد يشتم، قد يصرخ، يضرب أحيانا، برقة لا يضربك بها أبوك، كان كغيره من قدامى المدرسين، ممن ضكهم جوع التسعينات، فاشتغل عشرات المهن خارج المدرسة ليقيم أود أسرته، دون أن ينجر كغيره إلى الارتشاء، أو إلى إعطاء الدروس الخصوصية في اقل تقدير، رأيته ذات مرة يحمل (ورقة سبرنك فحل) لسيارة لا اعرف طرازها، وهو يسير بهمة كعادته، لعله كان ماشيا ليبيعها، اخبرني احد الزملاء مرة انه أيضا عاد إلى البناء، المهنة التي تحترفها أسرته.

ولكن أليس المعلم بناء!

 7

في اللحظات التي أزعم لنفسي خلالها أنني سأكون يوما ما روائيا، يكون هو أول الشخصيات التي أجدها تقفز أمامي، نابضة بالحيوية، أفكر أنه يصلح لأن يكون شخصية روائية ملهمة، وهذه القطعة هي جزء من ذلك الحلم المبتور الذي أجده فيه، أتلمس ـ كالأعمى الذي يرى بيديه ـ كلمات تصلح لان تكون حدودا لشخصه، تتسع له، وينصهر فيها، يتقافز كالكنغر من شعبة إلى أخرى، ومن مهنة إلى أخرى، شامخا، متواضعا، بسيط السريرة، رقيق مهما كسا نفسه بالشوك.

ثم انكفئ على نفسي، أتقهقر، ولا غير الأسى في جيوبي، يبحث قلبي عن الوجوه التي أسعدتني ذات يوم بوجودها، ولا أجدها، ولا أجده بينها.

 8

هل سمعتم بالعراقي جبر، يختصر المثل الدارج على ألسنتهم حياته بكلمات محدودة: (جبر، من الفقر إلى القبر).

و”جبرنا” هذا، مدرس الكيمياء، وبعد حياة ليست طويلة بحساب السنين، أزلية بحساب الأذى، لوّعته بالعوز، وتنقل خلالها في البيوت المستأجرة، وما أن صار له مرتب يليق به، وبنى بيته، وقبل أن يمتلأ قلبه تماما من تلك السعادة التي يشعر بها الأب الجالس بين فروعه، مات.

 (في ذكرى أستاذي الراحل جاسم شريف، الذي درسني الكيمياء في مرحلة المتوسطة كلها، وأعطاني ـ خلال الامتحانات ــ أجوبة كل الدروس الأخرى على الطاير، رحمه الله وعطر ثراه)

[ملحوظة: كما تعلمون، الحوارات في النص؛ متخيلة]

الصورة المرفقة بعدستي

أشياء لا تراها إلا في مطار عراقي

علي المعموري

على قدر حبي للسفر بالطائرة لم أحب يوماً المطارات، ربما للاجراءات المقرفة الكثيرة التي يمر بها الداخل لها خصوصا في المطارات العراقية، ولأن الحكومة تبدأ بحلبك النقود كالشياه السمينة منذ ان تغادر بيتك متجها نحو المطار (الأكشر)، هذا ما حسبته لوهلة من زمن اسفاري القصير، ولكني اكتشفت أن هناك أمر آخر ربما يكون هو السبب الحقيقي وراء كرهي للمطارات، وهو اني اسافر من مطارات عراقية في الغالب، أو من مطارات يكثر فيها العراقيين.

في السفرات الهوائية التي جربتها، من مطاري النجف وبغداد، لم اجد سوى انماط متكررة من المسافرين العراقيين، نصفهم تقريبا من المرضى، الذين ضاقت بهم عللهم عن الشفاء في أرضهم، فقرروا الاستشفاء في بلاد الله الأخرى، وهؤلاء اغلبهم ممن ضنك نفسه، وباع ما خلفه وما امامه ــ كما يقول العرب ــ لكي يأخذ عزيز إلى أرض لعلها تمد في عمره أيام أخرى، أما البقية فهم خليط ممن يسافر لرؤية ما ينبغي ان تكون عليه حياة الانسان في أرض أخرى لا يوجد فيها ما في ارضنا من موانع للانسانية، أو من أولياء الله المقربين من المسئولات والمسئولين وابناءهم البررة، الذين يسافرون إما على ميزانية الدولة من جيوبنا، أو بما سرقوه، من جيوبنا، أو مهاجر عائد إلى مهجره، يلعن روحه التي استبد بها الشوق المغفل لغبار (ديرته) فجاءها لأيام، ليجد انه لم يعد قادرا على تكييف انسانيته للوجع القذر الذي يبصقه كل شيء في عينيه على هذه الارض، والبقية هم فئة قليلة من عباد الله الفقراء من أمثالي، الذين سهل الله لهم ابن حلال فوضع اسمهم في مؤتمر ما، أو تدريب ما وسافروا.

بالأمس طرت من مطار النجف إلى اربيل، وهذا المطار هو مسقف كبير أشبه بثلاجة ضخمة لخزن الخضروات، يسمع المسافرون على جانبي الترانزيت والدخول فيه أصوات مختلفة لمخلوقات الله، وصنائع مخلوقاته، وجدت نفسي كأني في سوق الشورجة في أزهى أيامه من شدة ضوضاء اصوات البشر المسافرين، وليس الطائرات بطبيعة الحال.

اكثر من نصف المسافرين هم من الإيرانيين، والبقية خليط من خليجيين، وعراقيين بين هارب عائد إلى منفاه، أو مريض يمزق القلب منظره، وتجار، وكسبة، وشباب حداثوين، معقلين ومبرنطين وحاسرين، بين (مدشدش، ومتبنطر)، نساء بالكاوبوي، وبالنقاب، بالعباءة وبالجادر، ضباط يخطرون متمايلين بالنجوم على اكتافهم، شباب يبدون كمن نهض لتوه من النوم، وآخرون يبدون كأنهم قضوا نصف النهار أمام المرآة، كتاكيت بعمر الورد وبالوانها، يتسائلون متعجبين عن المكان، أو عن اشياء لا يعرف اهلهم اجابات عنها، عمال هنود دائبين على مسح الارضيات، موظفين في المطار يجولون بين المقاعد ينادون على الصنف الاكثر بغضا لي، اولئك الذين يتذكرون كل ما عليهم فعله عندما يبدأ النداء بالركوب إلى الطائرة فيختفون، ليبدأ المنادي بالصراخ في طلبهم، دون جدوى.

تختلط أصوات الاطفال وهرجهم، وعبثهم بعواميد تحديد خطوط السير، التي وجدوا فيها لعبة غاية في المتعة، مع أصوات النساء، بين التي تنم على صاحبتها، أو التي تتبادل مغامرات السفرة مع نظيراتها، وبين برم الرجال، وجريهم خلف اطفالهم هنا وهناك ــ من أكثر خلق الله تدليلا لنسائهم هم الايرانيون، تجلس الخانم واضعة رجلا على رجل، والأغا يتراكض ليجلب اطفاله، أو ليشتري لها ما تبرد به قلبها، ثم يحمل الحقائب، ويحمل الاطفال وهي تسير على طولها غير آبهة به ــ مجموعة من الاطفال امامي في قاعة الانتظار الوسطى، التي تقع بين المدخل والبوردينغ وبين قاعات الانتظار والترانزيت، دأبوا على مجموعة من العواميد تلك، مركونة على جنب، يغيرون مساراتها، الغريب ان بنتاً بحدود الرابعة أو الخامسة، مع فتى بعمرها، جعلا همهما ان يعبثا بخطوطسيرها، ويغيران مساراتها، بينما يلاحقهما الاخ الاصغر بإصرار ليعيد الخطوط إلى ما كانت عليه.

ووسط هذا المهرجان والضوضاء، تندلق عليك المشاهد الأكثر إيلاما، مشاهد المرضى الذين يكظون اسنانهم على الالم، منتظرين طائرة الشفاء الموعود.

لقد اثارت قدرة الاطفال على الصراخ استغرابي على الدوام، خصوصا حينما يبكون متألمين، من الغريب حقا ان كائنا صغير الحجم، لا يتجاوز عمره الثالثة يستطيع ان يبكي صارخا، لتسمعه من آخر القاعة الكبيرة، ليطفو صوته فوق الاصوات المتشابكة، التي تنقض وتبرم، ليقع في فؤادك قبل سمعك، يصرخ، (بطني… بطني…)، وانت تتألم معه من اعماقك، اقتربت منه، لا اعرف ما الذي كان الوالدان يضعانه له من ادوية، وفي أي موضع، وبين نظرات المسافرين، الذين يتبرم بعضهم من هذا الذي (يعوي) وينظر اخرون بأسف وحسب، بينما يكتفي فريق بالنظر ببلاهة، وكأن الذي يتأوه أمامهم عدم لا كينونة انسانية له، ولكن الذي يصيبك بشيء من السعادة هو تراكض موظفي المطار ــ العراقيون ــ نحو العائلة المتألمة، يجلبون علب المناديل الورقية، أو ادوية مسكنة، ويستعجل بعضهم عمال تنزيل الامتعة من الطائرة التي ستقل العائلة إلى اربيل، تجمع اكثر من عشرة موظفين بملابس مختلفة حولهم، ولم يغادروا حتى انتهت جلسة التداوي، وهجع الولد الصغير، فانصرفوا متأسفين، مما سمعوه من الوالد عن مرض الطفل، ولم اسمعه متعمدا، ينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: لماذا؟

أما انت، وبين هذه الوجوه المختلفة، والنوايا التي تتخذ مسارات متقاطعة، مختلفة، تتساقط على بعضها دون ان تلتقي حتى وإن التقت، تجلس وحيدا، تفكر بكل شيء، تستطلع الوجوه، تتيه في مسيل اسئلتك الجوفاء، عما تعلمه ولا تعلمه، لتنتهي إلى مبدأ الاسئلة ومنتهاها، هذا الوطن المُتعِب والمُتعَب، الوطن المؤلم، الذي لا تريد فراقه، ولا تطيق البقاء فيه، ثم تصمت، وتستمع إلى سعدون جابر يغني من شعر كاظم اسماعيل الكاطع:

بس المضيع وطن…….وين الوطن يلكاه

 

(اللوحة للفنان Alessandro Cau)

وطن هذا أم فجيعة؟

علي المعموري

ما هو هذا الوطن؟

إنه ليس سوى أمهاتنا المفجوعات.

على مسيرة زمن مثقل بالآمال الوجلة، متسربل بخيبات متلاحقة تثقل نفوسهن، حزن دفين يلف تلك القلوب الرقيقة، رغم الايمان الذي يحافظ على دبيب الحياة في عروقهن، وأي حياة موجعة هي.

عندما قرر صديقي علاء، ابن الموصل ــ الذي لم يبق بينه وبين موعد مناقشة رسالته الا ايام على عدد اصابع اليد ــ ان يترك الرسالة ويعود إلى الموصل التي سقطت بيد الهمج، حاولت الاتصال به لاقناعه بالعدول عن رأيه، دون فائدة.

في منتصف الطريق حالت الاشتباكات بينه وبين مقصده، فسرب إلى مدينة على الطريق، وقتها، كانت أمي قد أمسكت مسبحتها، وجلست تمجد الله، ناذرة أن تهدي ثواب تسبيحها إلى أم فجعت بأربع، ومزق قلبها ابن لم تلده، هي أم البنين، كانت تسبح ليرجع الولد سالما، ويناقش

ثم عاد إلى بغداد، كنت وصديق آخر من صميم الصويرة حائران، لا نستطيع تركه يذهب إلى الموصل، ولا نستطيع جلبه إلى النجف، مخافة ان يحتجز في الطريق، وأمي تدعو، وتريد ان تكتب لعلاء ما كتبته لابنها من آيات قرانية، وأدعية ــ يحملها لارضائها بالدرجة الاولى معتمدا على ايمانها وحسب في ان يسهم في حفظ الله له من غوائل الامور، وحراب الهمج .

حثتني أمي على جلبه للنجف، وأن أقرأ آية الكرسي بوجه الشرطة، لكي تعمي أعينهم عن هويته، وعن اسمه الغريب على الحدود الجديدة، وأنا مشفق على نفسي، وعلى علاء من الطريق، من أين لي بإيمانك الذي ينفذ بصديقي، رغم اني اعرف ان ايمانك يتسع لنا نحن الاثنان؟

وحينما قرر أن يعود إلى أهله، أمسكت مسبحتها، وقرآنها، تدعو للغريب أن يصل إلى أهله سالما.

كل هذا فهمته في سياق، ثم فهمته في سياق آخر وأنا اسمعها تدمدم مع نفسها، وهي تشاهد أخبار القتلى من الجانبين: ((تربي الامهات وتالي ينكتلون)).

تتحمل الأم في ابنها ما لا تتحمله الصم الجلاميد، ثم يشط الولد، فيحمل السلاح، أو يذهب ضحيته، وهي لا تملك سوى أن تدعو له، وأن تطوع المنطق لتبرر له موته، أو حياته، مع الامهات، لا منطق سوى الولد، ثم:

((ربيتهم لمن  ﮔرب الخير………فروا من ايدي فرت الطير))

هذا الوطن، ليس إلا أمهات تلد البنين، ليبدأن مسيرة طويلة من البكاء عليهم، خوفا، أملا، فرحا، ثم فقدا.

ولا شيء غير ذلك.

(اللوحة المرفقة للفنان العراقي مؤيد محسن)

أهلاً بالعالم !

“أهلا بالعالم”

كانت الكلمة الاكثر مناسبة لكي تطالعني وأنا ادخل للمرة الاولى المدونة التي كرمتني “مدونات عربية” بفتحها لي.

العالم الذي ارغب بأن أكون متفتحا تجاهه، وان اجده متفتحا تجاهي هو الآخر.

كانت الصدفة وحدها من قادتني إلى الاشتراك في مسابقة التدوين التي قادتني إلى المدونة هذه، وانا امارس عادتي اليومية بالاطلاع على المواقع الاخبارية، ومنها راديو مونتي كارلو، الاثير إلى نفسي منذ ايام صباي الباكر، فجربت ان اشترك، فكانت هذه المدونة.

لقد سبق لي ان انشأت مدونة، ولكني منذ البداية لم اكن واثقا من الاستمرار بالتدوين فيها، لاسباب عديدة فصلتها في وقتها، اولها هو لمن سأكتب؟ وسردت اسبابا كثيرة اخرى تحبطني قبل ان ابدأ من الاساس، حتى اسميتها وقتها بـ(اسبوعيات ساخط) السخط الذي لم يولي عني حتى اليوم.

ثم تركتها بالفعل، فالمدونات كوسيلة للاطلاع والمعرفة لا تجد في العراق ما وجدته في مصر من مهتمين وقراء ومتابعين، خصوصا بعد ان جاءت مواقع التواصل الاجتماعي ــ فيسبوك تحديدا ـ لتأخذ المساحة الاكبر للنشر والكتابة على الفضاء الالكتروني في العراق، بين المثقفين والمتعلمين، أو غير المتعلمين على حد سواء، خاصة ان الفيسبوك يتيح الرد والنقاش حول ما يُكتب مباشرة، حتى غدا الموقع الازرق ساحة كبيرة للنقاش، وللعراك في غالب الاحيان، ونقل العراقيون خلافاتهم اليه، ومارسوا هوايتهم المحببة بالاقتتال ووجد الطائفيون فيه ساحة رحيبة للصراخ، فكادت اصوات العقلاء ان تضيع في هذا الضجيج.

على أي حال، وجدت فيه انا الاخر بديلا عن المدونة التي انشأتها قبل ان اعرفه، اكتب فيه على سجيتي، دون الاضطرار إلى الالتزام بقواعد البحث العلمي التي تتطلبها الكتابات المتخصصة الاخرى التي انشرها ضمن نطاق تخصصي العلمي، وهو علم السياسة (السياسة العامة، وسياسات الامن الوطني تحديدا)، ولاسباب شخصية فقد بقيت صفحتي مقتصرة بدرجة كبيرة على اصدقائي ومعارفي، مما قلص نطاق من يستطيع قراءة كتاباتي الحرة تلك كثيرا.

ثم جاء مشروع مدونات عربية فحفزني مرة أخرى على الكتابة، ووجدت من المناسب ان تكون هذه السطور اولى تدويناتي، وان ادمغها بما وضعه المحررون في المنصة في رأسها (مرحبا بالعالم)، واسجل هنا شكري وتقديري للمشروع، وللجهود التي بذلت فيه، واكبر فيهم هذه البادرة الجميلة.

أما اسمها، فلعل الظرف الحرج الذي يمر به العراق، وولدت خلاله، (سقوط الموصل بيد تنظيم داعش الارهابي واحتراق العراق) واستقرائي للتاريخ العراقي الذي كان على الدوام متفجرا، نابضا بالاسى، وهذا ما دفعني الى دمغها بهذا العنوان الحزين، الذي لا اجد غيره يتناسب مع حال وطني العراق.

رغم ذلك اقول مرحبا بكم:

انا عراقي، اسمي علي المعموري، متخصص بعلم السياسة، قسم النظم السياسية والسياسات العامة، احمل شهادة ماجستير في هذا التخصص، رسالتي تناولت سياسات الامن الوطني العراقي منذ (2003ــ2014).

اكتب في عدة مجلات متخصصة، وفي الصحف العراقية.

نشرت لي دراسات متخصصة في مؤسسات بحثية عربية وعراقية مثل (دار الخبرة العراقي، منتدى البدائل العربي للدراسات/ مصر).

ارحب بمن سيجشم نفسه عناء قراءة ما اكتبه، ومستعد لسماع آراءكم، والرد عليها، في اطار من احترام الاخر، وحرص على إعلاء قيم الاختلاف، وليس الخلاف، الاختلاف الخلاق الذي اقدسه، واعيش لأجله.