أشياء لا تراها إلا في مطار عراقي

علي المعموري

على قدر حبي للسفر بالطائرة لم أحب يوماً المطارات، ربما للاجراءات المقرفة الكثيرة التي يمر بها الداخل لها خصوصا في المطارات العراقية، ولأن الحكومة تبدأ بحلبك النقود كالشياه السمينة منذ ان تغادر بيتك متجها نحو المطار (الأكشر)، هذا ما حسبته لوهلة من زمن اسفاري القصير، ولكني اكتشفت أن هناك أمر آخر ربما يكون هو السبب الحقيقي وراء كرهي للمطارات، وهو اني اسافر من مطارات عراقية في الغالب، أو من مطارات يكثر فيها العراقيين.

في السفرات الهوائية التي جربتها، من مطاري النجف وبغداد، لم اجد سوى انماط متكررة من المسافرين العراقيين، نصفهم تقريبا من المرضى، الذين ضاقت بهم عللهم عن الشفاء في أرضهم، فقرروا الاستشفاء في بلاد الله الأخرى، وهؤلاء اغلبهم ممن ضنك نفسه، وباع ما خلفه وما امامه ــ كما يقول العرب ــ لكي يأخذ عزيز إلى أرض لعلها تمد في عمره أيام أخرى، أما البقية فهم خليط ممن يسافر لرؤية ما ينبغي ان تكون عليه حياة الانسان في أرض أخرى لا يوجد فيها ما في ارضنا من موانع للانسانية، أو من أولياء الله المقربين من المسئولات والمسئولين وابناءهم البررة، الذين يسافرون إما على ميزانية الدولة من جيوبنا، أو بما سرقوه، من جيوبنا، أو مهاجر عائد إلى مهجره، يلعن روحه التي استبد بها الشوق المغفل لغبار (ديرته) فجاءها لأيام، ليجد انه لم يعد قادرا على تكييف انسانيته للوجع القذر الذي يبصقه كل شيء في عينيه على هذه الارض، والبقية هم فئة قليلة من عباد الله الفقراء من أمثالي، الذين سهل الله لهم ابن حلال فوضع اسمهم في مؤتمر ما، أو تدريب ما وسافروا.

بالأمس طرت من مطار النجف إلى اربيل، وهذا المطار هو مسقف كبير أشبه بثلاجة ضخمة لخزن الخضروات، يسمع المسافرون على جانبي الترانزيت والدخول فيه أصوات مختلفة لمخلوقات الله، وصنائع مخلوقاته، وجدت نفسي كأني في سوق الشورجة في أزهى أيامه من شدة ضوضاء اصوات البشر المسافرين، وليس الطائرات بطبيعة الحال.

اكثر من نصف المسافرين هم من الإيرانيين، والبقية خليط من خليجيين، وعراقيين بين هارب عائد إلى منفاه، أو مريض يمزق القلب منظره، وتجار، وكسبة، وشباب حداثوين، معقلين ومبرنطين وحاسرين، بين (مدشدش، ومتبنطر)، نساء بالكاوبوي، وبالنقاب، بالعباءة وبالجادر، ضباط يخطرون متمايلين بالنجوم على اكتافهم، شباب يبدون كمن نهض لتوه من النوم، وآخرون يبدون كأنهم قضوا نصف النهار أمام المرآة، كتاكيت بعمر الورد وبالوانها، يتسائلون متعجبين عن المكان، أو عن اشياء لا يعرف اهلهم اجابات عنها، عمال هنود دائبين على مسح الارضيات، موظفين في المطار يجولون بين المقاعد ينادون على الصنف الاكثر بغضا لي، اولئك الذين يتذكرون كل ما عليهم فعله عندما يبدأ النداء بالركوب إلى الطائرة فيختفون، ليبدأ المنادي بالصراخ في طلبهم، دون جدوى.

تختلط أصوات الاطفال وهرجهم، وعبثهم بعواميد تحديد خطوط السير، التي وجدوا فيها لعبة غاية في المتعة، مع أصوات النساء، بين التي تنم على صاحبتها، أو التي تتبادل مغامرات السفرة مع نظيراتها، وبين برم الرجال، وجريهم خلف اطفالهم هنا وهناك ــ من أكثر خلق الله تدليلا لنسائهم هم الايرانيون، تجلس الخانم واضعة رجلا على رجل، والأغا يتراكض ليجلب اطفاله، أو ليشتري لها ما تبرد به قلبها، ثم يحمل الحقائب، ويحمل الاطفال وهي تسير على طولها غير آبهة به ــ مجموعة من الاطفال امامي في قاعة الانتظار الوسطى، التي تقع بين المدخل والبوردينغ وبين قاعات الانتظار والترانزيت، دأبوا على مجموعة من العواميد تلك، مركونة على جنب، يغيرون مساراتها، الغريب ان بنتاً بحدود الرابعة أو الخامسة، مع فتى بعمرها، جعلا همهما ان يعبثا بخطوطسيرها، ويغيران مساراتها، بينما يلاحقهما الاخ الاصغر بإصرار ليعيد الخطوط إلى ما كانت عليه.

ووسط هذا المهرجان والضوضاء، تندلق عليك المشاهد الأكثر إيلاما، مشاهد المرضى الذين يكظون اسنانهم على الالم، منتظرين طائرة الشفاء الموعود.

لقد اثارت قدرة الاطفال على الصراخ استغرابي على الدوام، خصوصا حينما يبكون متألمين، من الغريب حقا ان كائنا صغير الحجم، لا يتجاوز عمره الثالثة يستطيع ان يبكي صارخا، لتسمعه من آخر القاعة الكبيرة، ليطفو صوته فوق الاصوات المتشابكة، التي تنقض وتبرم، ليقع في فؤادك قبل سمعك، يصرخ، (بطني… بطني…)، وانت تتألم معه من اعماقك، اقتربت منه، لا اعرف ما الذي كان الوالدان يضعانه له من ادوية، وفي أي موضع، وبين نظرات المسافرين، الذين يتبرم بعضهم من هذا الذي (يعوي) وينظر اخرون بأسف وحسب، بينما يكتفي فريق بالنظر ببلاهة، وكأن الذي يتأوه أمامهم عدم لا كينونة انسانية له، ولكن الذي يصيبك بشيء من السعادة هو تراكض موظفي المطار ــ العراقيون ــ نحو العائلة المتألمة، يجلبون علب المناديل الورقية، أو ادوية مسكنة، ويستعجل بعضهم عمال تنزيل الامتعة من الطائرة التي ستقل العائلة إلى اربيل، تجمع اكثر من عشرة موظفين بملابس مختلفة حولهم، ولم يغادروا حتى انتهت جلسة التداوي، وهجع الولد الصغير، فانصرفوا متأسفين، مما سمعوه من الوالد عن مرض الطفل، ولم اسمعه متعمدا، ينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: لماذا؟

أما انت، وبين هذه الوجوه المختلفة، والنوايا التي تتخذ مسارات متقاطعة، مختلفة، تتساقط على بعضها دون ان تلتقي حتى وإن التقت، تجلس وحيدا، تفكر بكل شيء، تستطلع الوجوه، تتيه في مسيل اسئلتك الجوفاء، عما تعلمه ولا تعلمه، لتنتهي إلى مبدأ الاسئلة ومنتهاها، هذا الوطن المُتعِب والمُتعَب، الوطن المؤلم، الذي لا تريد فراقه، ولا تطيق البقاء فيه، ثم تصمت، وتستمع إلى سعدون جابر يغني من شعر كاظم اسماعيل الكاطع:

بس المضيع وطن…….وين الوطن يلكاه

 

(اللوحة للفنان Alessandro Cau)

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.