الدكتور صائب الكيلاني

 

 

(1)

ساعة على الأقل، أحدق في لوح أبيض أمامي، ولا أعرف بم أبتدئ الحديث عن أبيض القلب الذي رحل سريعا، وترك لنا سواد تتشح به قلوبنا، جزعا عليا، سواد كثير…

(2)

ربما تعرف عليه الكثيرون بوصفه طبيب، جراح ماهر، يصارع المنية دون مرضاه حتى يسلمهم ليد العافية، بإيمان عميق يتملك روحه، بابتسامة توشّح وجهه البهي، وقامته الوسيمة، بمظهر الطبيب المهيب على ما كان عليه الأطباء، وبالانضباط الاخلاقي اللازم لسليل الأسرة العلوية ذات السيادة والرياسة الدينية، ودقة ابن الضابط الحقوقي الذي نفاه البعثيون خارج بلده بعد انقلابهم الثاني، على عبد الرحمن عارف، أما أنا، فقد تعرفت عليه بصورته الثانية، نعم، بانضباطه، بدقته، بثقافته، بهدوئه وقدرته العجيبة على احتواء الغاضبين، ولكن ليس بوصفه طبيب، بل بوصفه رجل المجتمع المدني، والمفاوض المعتمد دوليا، ورئيس لمنظمة مختصة بالسياسات العامة.

(3)

كان اللقاء الأول في أربيل عام 2012، كنتُ في سنتي الأولى للماجستير، زجني أستاذي الدكتور عماد الشيخ داود في الدورات الأولى لتكوين كادر لمنظمة دار الخبرة، بوصفها بيت مختص بالسياسات العامة وصنع القرار، كان الدكتور أحد المحاضرين، ورئيس المنظمة، طول فارع وقامة متينة البنيان أفاضت عليه وسامة لا تخطئها العين، ولا تضيف لها أناقة ملبسه كثيرا، فهو وسيم بكل حال، نظرة مطمئنة مهيمنة يطلقها نحوك من خلف عويناته، وعلى صدره تدلت عوينات القراءة، يمزج حديثه في السياسات العامة للشأن الطبي في العراق بالنكتة، وبالكثير الكثير من المعرفة، والتجارب الشخصية المثمرة.

(4)

في بيروت، كنا نتمشى سوية في شارع الحمراء، هنا بدأت استكشف صائب الكيلاني الإنسان، النبيل المتواضع، نتمشى، أوقفني عند رأس أحد الشوارع النازلة من الحمراء باتجاه الجامعة الأمريكية، امسك كفي وانحدر بي في الشارع بحثا عن محل دخله عام 1973، كان يجلب قماشا فاخرا ويخيطه في لبنان، ووجده، عبد الله فريج ـ على ما اذكر ـ حين دخلنا واشترى سترة للذكرى، ووجدني مهتم ببدلة معينة، انتحى بي جانبا وأعطاني نصيحة أب لابنه، قال: بني، أنت في مقتبل حياتك، كن حريصا على ما تكسبه، لا تشترِ من هنا شيئا يمكن أن تجده في العراق أرخص وأجود، اسمع من عمك…

لاحقا، حين كنت أساعده في حزم حقيبته، قال لي، هل تعرف كيف تحزم السترة الرسمية في الحقيبة؟ قلت له علمني أبي، قال وهو يربت على كتفي: مع ذلك، تعال أعلمك، هكذا…

هذه الأشياء البسيطة التي يعلمها كبير ذو تجربة لشاب بعمر ابنه، هي أثمن ما يبقى في الذاكرة، الأشياء البسيطة المتعلقة بالحياة، وإدارة الشأن الشخصي، هي النابضة أبدا.

(5)

لعله كان أول طبيب جاء بزراعة الكبد للعراق عقب تدربه في ألمانيا وبريطانيا، وحين كان مديرا لمستشفى الكاظمية التعليمي المرتبط بجامعة صدام وقتها ـ النهرين اليوم، جامعتي ـ حدّثني مرة عن استخفاف السادي عدي بن صدام بالدنيا وبالمستشفى وقتها، يقول أنه كان يدخل عليه الرجل القبيح المنظر والمخبر، بيده ورقة مقصوصة من علبة سجائر، كتب عليها يصرف له كذا من ملايين الدنانير، بتوقيع عدي، الذي لم يكن له رفضه، فكان يأخذ الورقة، ويستنسخها عشرين نسخة، ويرفق أمر الصرف بنسخة منه إلى، فيبدأ من سكرتير الرئيس، ورئيس الديوان، ومدير المالية، وصولا إلى وزيري الصحة والتعليم العالي.

فصرّها السادي له في نفسه، واتخذ من مشكلة لا شأن له بها ذريعة ليرسل له قاضي بغداد الشرعي، وقاض مدني، وضابط كبير ليحققوا معه بشأن مريض اشترى عصارة كريم من خارج المستشفى، ولولا صدقه، وبعض من تاريخ العائلة المحترم، لكان ضحية من ضحايا عدي.

بعد الـ2003، في الأيام الأولى للفوضى، خرج اطباء مدينة الطب العريقة بتظاهرة يطالبون الامريكان بتوليته إدارة المستشفى، فكان أهلا لها، ومقتدر عليها.

(6)

حين هدد عام 2006، وكان لزاماً أن يبارح بغداد، لم يذهب بعيدا، حمل حقائبه إلى أقرب مكان آمن يستطيع العراقيون الوصول له، ذهب إلى أربيل، سألته مرة لماذا لم تترك العراق وأنت القادر على العمل في أي مؤسسة طبية غربية تريد؟ قال: ومن يبقى للمساكين العراقيين هنا إذا هربنا كلنا، وجدت أربيل أقرب مكان استطيع منه خدمة أهلي، وبعد صمت قليل أردف: لقد ضيعنا الكثير من الاطباء، لدينا ثلاثة آلاف طبيب استشاري في لندن، أعلى مرتبة طبية، من جانبي، استطعت أن أقنع 7 منهم بالرجوع والعمل في أربيل، ليخدموا الناس من هنا.

حيث تحرك، وأنّى ذهب، كان العراق حاضر في عينيه، وشاغل لباله، حين انتقل لأربيل بقي يدفع إيجار عيادته في الحارثية لمدة، وكان يرسل المبالغ تلو المبالغ لمساعده المرحوم عدي الجواري، يعطيها للعوائل الفقيرة التي يعرفها.

(7)

اخبرني أنه كان ضمن الفريق المفاوض الذين اختارتهم منظمة دولية للقاء القذافي وإقناعه بتجنيب ليبيا الكوارث المحتملة على إسقاطه بتدخل خارجي، كان مسترسلا في الحديث عن بعض ذكرياته السياسية، وما لاقاه في حياته، وبعض الأسماء التي عاشرها وخبرها، قلت له دكتور، لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية؟ ميراثا تاريخيا للأجيال، فضحك بدفء، وربت على كتفي وقال يمعود مشاكل، قل يا الله …

كان ذلك في المرة الأخيرة التي التقيته فيها، وصحبنا إلى مجمع ضخم ـ لعل اسمه أبو شهاب ـ كعادته حين يدعو أحبته الزائرين لأربيل ويصلهم ودادا وكرما.

(8)

ذوق رفيع، علاقات في المجتمع الثقافي والفني ناهيك عن المجتمع الطبي، مرة كنا في عيادته في بغداد، نظر إلى لوحة على الجدار، وقال كنت ناسيا لها، اهدتنيها وداد الأورفةلي، ولا أدري أين صفى باللوحة الدهر.

(9)

مثل الأولياء ذوي الكرامات، كان الحناء على باب عيادته، على عادة العراقيين مع من يكون سببا لبرئهم من أوجاعهم، أن يخضبوا بابه بالحناء، وكذلك كانت بابه، تعلن عن طبيعته، طمأنينة وشفاء على يد النطاسي الخبير، الضاحك، الودود.

(10)

عاجز عن تنميق كلامي أيها الراحل الكبير، عزائي الخالص لأولادك محمد وحسن وحسين، لأستاذي الدكتور عماد الشيخ داود، صديقك، لأهلك، لكل من يحبك، لكل من عرفك وعرف سجيتك النبيلة، وسعيك في حوائج الناس، وعفة ضميرك، وبذلك للمحتاجين، ومسارعتك في كل مكرمة، لي، أنا الذي طالما دافعت عني، ووثقت بي، وداعة الله دكتور، لك، عليك، في قلبي حسرة لا تمحوها الأيام، ولا تنسينيها الحوادث…

لذكرى الدكتور صائب الكيلاني، الذي توفي يوم الاحد 6/ 12/ 2020

الصورة: تجمعني معه وهي من اليمين، علي، د. عماد الشيخ داود، د. صائب الكيلاني رحمه الله، عدي الجواري رحمه الله، أربيل 2016

 

كتاب وأقدار ثلاثة

ربما كانت مطبعة حبل المتين التي دخلت إلى النجف وافتتحت عهد الطباعة فيها ثالث أو ثاني مطبعة في العراق، وقد طبعت الكثير من الكتب في النجف مما لم يجد له طريقا للطباعة في غيرها من مدن العراق، مجلة الكلمة، الأدبية، التي كانت تصدرها عصبة من اليساريين العراقيين كانت تطبع في النجف، وابتدأت خلسة بمغامرة من حميد المطبعي، سليل العائلة المطبعية، وعضو هيئة تحريرها، وقد اعلن اليوم 2/ 12/ 2020 عن وفاة أحد اعمدتها، الناقد الكبير طراد الكبيسي.

وفي الستينات والسبعينات، كانت أولى دواوين الشعر الشعبي تطبع في النجف، الطبعة الأولى من ديوان الـﮕـمر والديرة للراحل #عريان_السيد_خلف طبعت في النجف، ولدي طبعة من ديوان #مظفر_النواب الأشهر، للريل وحمد، مما طبع في النجف.

بكل الاحوال، بين يدي كتاب اقداره غريبة، مؤلفه صار مؤرخا كرديا معروفا، هو زبير بلال اسماعيل (1938 -1998) سليل الاسرة الدينية، والمولود في قلعة اربيل، والكتاب المعني هو أول كتبه، أربيل في أدوارها التاريخية، وطبع في النجف عام 1970 في مطبعة النعمان المعروفة.

أما الاستملاك على الكتاب، الذي سبقني، فهو مكتوب بالسريانية، التي لا أعرفها، ولكن يبدو لي أن مالك الكتاب كان شخص مثقف ومتخصص ربما، مسيحي آثوري، إذ ملئ صفحات الكتاب بالملاحظات بالقلم الأحمر، والتقطت على عجالة ملاحظات عابرة أهمها أن الرجل كان يحرص على كتابة الاسم بالثاء، آثوريين وليس اشوريين كما هي السردية الحاضرة اليوم.

والثانية أن سردية أصالة الآثوريين في العراق ليست مما استحدث بعد 2003 مثل مصطلح الاشوريين، ولكن الرجل ـ مالك الكتاب ـ يخالف آراء المؤرخين بحداثة وجود الاثوريين في العراق، فيكتب معلقا مثلا على سرد المؤلف لأحوال المسيحيين في العصر المغولي الثاني بعد دخول ملوك المغول للاسلام، تحديدا احداث سنة 1317م فحين يقول المؤلف (نصارى) يكتب مالك الكتاب: الاثوريين النصارى، وهو أمر غير ثابت، أعني وجود الاثوريين في تلك الحقبة في الاراضي العراقية.

تقلبت الدنيا بهذا الكتاب، بمؤلفه الكردي الذي سطره في اربيل، وطبعه في النجف، واستملكه مسيحي آثوري ربما في بغداد، ليصل ليدي آخر المطاف.

 

كيف خسرنا مهاراتنا؟

أخبرني صديق عزيز، فنان ومثقف مهم، أن هناك مسؤولا بعثيا كبيرا من إحدى العشائر الجنوبية القوية التي دخلت في صدام شرس مع صدام حسين طوال حقبة حكمه، هذا المسئول لم يقتل بعد الـ2003، لأنه لم يؤذ أحد، حضر مجلس فاتحة لعشيرته ذات يوم فغمزه ولمزه بنو عمومته، فقال لهم: ماذا قبضتم بعد 2003 سوى أنكم أصبحتم شرطة؟ لماذا لم تأتوني قبلها طالبين التعيين كشرطة ونفض الموضوع من جذره بدل القتل والتشريد الذي تعرضتم له؟
هذه الحادثة تلخص الكثير من ورطتنا الحاضرة.
بعد
حين أصدر عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي، لم يعززه بجمعيات تعاونية فاعلة توجه الزرع والتسويق والانتاج، ولم يضع سياسات لتدارك مشكلة بعض المحافظات الجنوبية وعقدتها من الأرض والزرع (ارد اشرد لبغداد من الفلاحة… لا تـﭽـسي العريان لا بيها راحة) ماذا حدث؟ صدم الفلاح بحجم الامور التي ينبغي عليه أن يقوم بها، من شراء البذور، إلى تسويق الحاصل والتعامل مع التجار المرابين، ونقل الحاصل، وبلاوي أخرى كثيرة لم يكن معنيا بها من قبل، فاتخذ الحل الأسهل، هرب إلى بغداد، ليعمل شرطيا، أو فرّاشا بباب دائرة أو طبيب، أو چايـﭽـي في أحسن الأحوال.
ثم جاءت 2003، بقافلة كبيرة من غير المؤهلين لإدارة علوة مخضر، ناهيك عن دولة معقدة مثل العراق، وبرعاية تخريبية أمريكية إيرانية، لنغطس تماما في اقتصاد ريعي مدمر، ونتوسع بسياسة التوظيف حتى يتضاعف عدد الموظفين في الحكومة لثلاثة مرات، ويتضاعف عدد من يتلقى الرواتب لعشرة مرات، ونقفز في سباق الارانب للانجاب من 20 مليون نفر إلى ما يقارب الـ40 مليون عالة، كلهم يعيشون على #حشيشة_الحكومة المسماة رواتب.
أمسيت تجد الفلاح العراقي، وقد صار اربعة من ابناءه في الجيش والشرطة والاتحادية والرد السريع، وأخذ الأب الولد الخامس والتحقوا بالحشد، بالبيكب التي اشتروها من نقود المبادرة الزراعية المضحكة، التي اخذوها على الارض، او الماشية، ونزلوا بها واشتروا بيتا في الولاية، وهايلوكس تويوتا بيكب التي يسميها العراقيون ولأسباب غير مفهومة (فلاونزة الطيور).
بهذا، وبعجز الحكومة عن الاستفادة من قدرات خريجي كليات الطب البيطري والزراعة كما كان يحصل في السابق، وبابتعاد الابناء عن خبرة آبائهم في الزراعة، وبترك الاباء للممارسة في الزرع وتربية الحيوانات، فقدنا خلال 17 عام تقاليد في الزرع والتربية الحيوانية راكمناها خلال 10 الاف عام، وبقانون بريمر للبذور سيء الصيت، فقدنا سلالة من البذور هي من الأقدم في العالم، ولم يتحدث أحد عن هذا القانون والظلم الذي احدثه، وركض الفاشلون لإصدار قانون لمعادلة الشهادات يتساوى فيه الفاشلين جميعا في الخسارة مع المجدين.
غدا، وحين تشح الرواتب أكثر وأكثر، ونعجز عن الاستيراد لملئ جيوب الباشوات من اصحاب السماحة المستثمرين، سوف يكون ابناء الفلاحين عاجزين عن مسك المسحاة بطريقة صحيحة فضلا عن معرفة مواعيد البذار والحصاد، وسنجد أن الزراعة صارت عارا على حامل الكلاشنكوف، وسنأكل بعضنا كالضباع الجائعة.
سيكون تيجان الرأس من ضاربي ركعة الاصلاح والمقاومة إلى ضاربي الأوزو ـ الذين لم يفلحوا حتى بالحفاظ على مشروب العرق الوطني ـ وقتها في مشارق الدول المحترمة ومغاربها، يتنعمون بإيراد سنوات من قتل الأرض، والمواهب، وتضييع الخبرات والتجارب، وجلب نفايات الصين وايران وتركيا وغيرها من الدول إلى هذا الأرض، ونكون قد جردنا بالصيد الجائر بادية العراق، ونبته، وقتلنا نخيله، ونفد بالجمع الجائر ما لديه من موارد كالصخر والنفط وغيرها من المواد دون رقابة ولا متابعة، ساعتها، سيكون السعيد من يسلم على باب بيته مصانا من القتلة الجدد الذي ادعوا بالأمس حمايتنا.
تعديل: من المهم قراءة تعليق مولانا ايتش هومو الفراتي على المنشور.