هل كان الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ؟

ثم أقف عند حافة الروح، اقلب الصور واحدة تلو أخرى، تصطف بتناسق على قبور جديدة، تناسق تاق له نازلوها حين ذرعت أقدامهم هذه الأرض، كانت كل خطوة تندك على خد هذا الثرى مثل سنبلة حديثة الولادة، كفسيلة تخطو مبتعدة عن أمها لتغدو نخلة شامخة، لكن الليالي والتجار غرسن تلك القامات الشوامخ في الأرض عميقا دون أن يكون للغرس وعد بالحياة.

كيف بعثرتهم هذه الأرض؟ ثم ابتلعتهم الواحد تلو الآخر؟ ضربت بالفوضى حياتهم، اخترمَ مهجهم أن لا نظام لحياة أهلهم، ولا وعد بالمستقبل.

تتابعت رقدتهم بترتيب كان ليكفيهم لو لم يخرجوا من دنياهم بسواه.

ثم أسأل نفسي، هل كان الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ، وهل لي أن أثمن شيئا لا أملك ثمنه؟

ثم ألتفت كرة أخرى، أتصفح الصور، وجه تلو وجه، عين تلو عين، ثم أرفع رأسي قليلا، تقبّل روحي وجوه الأمهات، تراقب قلوبهن وهي تطالع الصور، وفي المدى الواصل بين عيونهن وشواهد قبور أبنائهن تمتد أيامٌ كانت مرجوة، ترفل بزوجات الأبناء المناكفات، والأطفال، والملابس التي تفوح منها رائحة الكد والاجتهاد، بيوت اتخذت البهجة مطارق لأبوابها، يملئ حجراتها عبير العنبر ونسيم السمك المزقوف الذي لم يجد من يأكله، والخبز الحار الذي بقي وحيدا على موائد فارغة هجرها الفرح.

أي فرح يلم بمائدة لا تجد من تسد جوعه؟

ثم أسأل وجهي المحدق في المرآة، وعيناي تطيلان النظر في لحيتي المهملة: ألا تخجل من نفسك؟ كيف لك أن تخرج وتعود وتنام وتأكل وتسافر وتضحك وتعمل وتكتب؟ كيف لك أن تقنع نفسك بأن تتهرب من عملك، وتجلس باحثا عن صورة جميلة لعلك تكتب عنها بعض الكلمات المنمقة، حتى يقول لك محبوك: عاشت يدك؟ فتطالعك صورة هذه الأم، وقد وخط شيب الأرض طرف عبائتها، تخب على كرسي مدولب قاصدة شهيد كربلاء في اربعينيته، تطلب منه العزاء، هي صامتة، ولكن كل ما حولها يقول لك: هل كان الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ؟