الحدود التي يكذبونها


علي المعموري
بيني وبينك يقف سوء فهم كبير، درب أراده المؤمنون معبرا لخلاصهم، ولكنهم لم يدركوا كنهه الحقيقي، انكفأوا عليه دون معرفة، وأقاموه سدا بيني وبينك، فسحقوا روحينا به كالرحى.
ما هو الدين؟
ما هي المذاهب؟
الا تريد كلها الله؟
أليس الله محبة؟ فلماذا يريدون لتلك السبل ان تكون بغضا؟ كيف يقود البغض إلى المحبة؟!
هم يزدادون تيها، وأزداد ألما، لا أرى نفسي في مسار لا ينتهي إليك، ولا ارغب في سعادة لا تكونين كنهها، لا أريد صخرة اسند ذاتي عليها إذا لم تكن من حنانك، المياه لا تبل الغليل، والزاد لا يقيم الأود، والهواء لا يشفي من الاختناق، كل المعاني فارغة بدونك، والغرف مظلمة تبحث عن ضياءك.
اقف هنا، منتظرا بلا كلل، اطاول الليل بالهم، تمر ساعاته على روحي كالدهور، طيفك يحوم على رأسي، يضحك، ولا أحس بذلك الدبيب الذي كان يسري في عروقي حين تتلقف روحي ضحكتك وأنت أمامي، لم أكن اسمع صوتك بأذني، كانت كلماتك تعصف بقلبي، احسها، كما يحس الطفل بكلمات أمه قبل أن يفهم الكلام.
يمر الليل بي، اسائل كل صوت عابر في الطريق عنك، تذكرني الهمسات الشفيفة التي تهوم كل حين بك، تمنعني من الانهيار.
اقلب بصري في السماء، اتلمس أول خيوط الفجر، الضوء العذب كوجهك، الرقيق كخطوتك، الذي يحمل الأمل في مقدمه الوئيد كالأيام التي يشع فيها حضورك.
تذكرني بك العصافير التي تهب مع أول لمسة ضوء رفيقة تمر على وجنة الدنيا، منذرة بالحياة.
مع أول الاصوات التي تنبعث معها الحياة، مع أول الخطى التي تسعى إلى طلب الرزق في الأزقة التي تدور تدور، لا تبدأ إلا منك، ولا تنتهي إلا إليك.
أطل برأسي منهكا على نافذة الدنيا، اتصفح الوجوه بحثا عن وجهك النائي، وكل جوارحي سمع يتلمس صوتك بين الأصوات، حروفك الرحيمة بين القسوة البشعة التي تحيطني، كالسوار الذي طوق معصمك ذات يوم، وطوقت استدارته روحي، وقطعت علي كل السبل التي لا تؤدي إليك، انت، التي لم تعد طرقي تقودني إلى احد سواك.
يا أنت..
أخلو إلى قلمي فلا يحدثني عن غيرك، الأوراق لا تريد على جبهتها عنوانا يخلو منك، والكلمات لا تتركب بمعنى سواك.
أدور على محورك، النهار رتيب لا يذكرني إلا بالوطن الذي رأيته فيك، ورأيتك فيه، ثم يسلمني إلى الليل متوجعا، وتستمر حلقة الألم.
اخبريهم انني سأنتظرك، وانك ستنتظريني…
أخبريهم أنني لن أكون إلا على ما يقودني لك، لا أرى دينا لا تكونيه، ولا إيمانا لا يتجسد عبرك، اتوقف عندك، ولا أعدوك، اجد فيك حريتي، وأتلمس إيماني فكرة ففكرة، حسرة فحسرة، نغمة فنغمة، تتابع الكلمات، وأنت بينها تتكررين.
أخبريهم ان الحدود التي اصطنعوها واهنة أمام صبري، وأن الأطياف التي تصطف على طول ليلي، على طول الحدود، على مقدار حبات الرمل المصطفة حسرات ــ يسمونها مسافات ــ تفصل جسدي عن مكانك، ولكن روحي تهيم حولك، تتيه بليلك، تتقاطع الطرقات وتشتبك ولا تصل روحي لسوى طريقك.
أخبريهم انني انتظر، كالضال، اقف هنا واهمس لفؤادي الكسير:
لعل الله يهديني بك…..

Django Unchained 2012

علي المعموري

لا انفك أتحير من سبب متابعتي لأفلام كوينتن ترانتينو، المشحونة بمشاهد القتل المبالغ فيها، دماء تتناثر، انفجارات استثنائية، وقتلى بدون حساب منذ أول مشاهد الفيلم حتى نهايته، بأعنف الطرق الممكنة.

هذا الفيلم خير دليل على ذلك، منذ افتتاحيته بمشاهد المستعبدين السود، عراة، وهم يرفلون في السلاسل، وقد تهرأت أقدامهم الحافية من السير، بين أراضي صخرية وعرة، وأخرى زراعية ينتثر الشوك على أديمها، بين ثلج لاسع، وحر لافح، كأنهم يسيرون منذ الأزل، مسيرة الإنسانية بين السيد والمسود، مشاهد تتنقل فيها الكاميرا من جانب آخر إلى آخر طوال عرض الأسماء المشتركة في صناعة الفيلم، بطباعة الكلمات بذات الطريقة القديمة الأثيرة إلى نفس كوينتن.

ثم لم يستطع الصبر أكثر من ذلك، لتبدأ سلسلة القتلى من الدقيقة السابعة للفيلم.

تدور قصة الفيلم حول جانغو، المستعبد الذي فُرّق بينه وبين زوجته، بعد ان اكتشف السيد الأبيض زواجهما، وبيع كل منهما إلى سيد مختلف، وبدا الأمر كما لو أن جانغو قد استسلم فعلا لما حدث له، قبل ان يدخل على خط حياته طبيب أسنان ألماني ترك المهنة ليتحول إلى صياد جوائز، يأتي خصيصا للبحث عن جانغو الذي يعرف ثلاثة هاربين من العدالة، هم نفس الذين نكلوا به وبزوجته قبل بيعهما، ولأن د. شولتز يريد قتلهم، فإنه يحتاج جانغو ليدله عليهم، صدفة متوقعة في أفلام ترانتينو أن تلتقي رغبة شخصين متناقضين في قتل شخص آخر.

وشخصية الطبيب شولتز في حد ذاتها بالغة الغرابة، فهو ألماني يبغض العنصرية، ورغم عدم رحمته في قتل المطلوبين دون إنذار، إلا انه يتمتع بحس بالغ الشفقة تجاه أوضاع العبيد، ويبغض مستعبديهم البيض، فوق ذلك فإن من وجوه الغرابة أيضاً انه وبعد أن أردى أحد الأبيضين اللذان بدأ الفيلم بهما وهما يقودان نصف دزينة من المستعبدين، وشل حركة الثاني، في مشهد عنيف تتسم به ثيمة ترانتينو الإخراجية، فانه يدفع لهذا الأخير ثمن جانغو، وحصان أخيه الميت، وملابسه التي أمر جانغو بسلبها، ثم يدفع بقية السود إلى قتل سيدهم المشلول تحت حصانه القتيل، بطريقة مستفزة جدا، وهنا لاحظت خطأ فنيا، وهو ان د. شولتز وبعد أن اخذ مفتاح القيود من الرجل المشلول وفتح قيد جانغو رماه على الأرض، وبعد أن قتله وعاد إلى المستعبدين ليخيرهم بين حمل سيدهم المكسور لأميال كثيرة للتداوي، أو تحرير أنفسهم ثم قتل الأبيض، والهرب إلى أبعد مكان، فانه استخرج المفتاح من جيبه الصداري، رغم انه رماه ولم يحمله في البداية.

والأمر الآخر الأكثر أهمية أن هؤلاء المقيدين لم يفكروا بفك قيدهم ثم قتل السيد، بل زحفوا بقيودهم وأردوه بطلقة تناثر معها دماغه كالنافورة ــ ثيمة أخرى لترانتينو ــ كأنه تأكيد على ان البشر يفضلون الانتقام قبل أي شيء أخر حتى لو كانت الحرية!

يرحل جانغو بعدها صحبة الطبيب، يدخلون بلدة، ليقتل الطبيب مأمورها، الذي تبين انه هارب من العدالة ومطلوب حي أو ميت.

بالنسبة لي فان الغريب في شخصية جانغو، رغم ان شخصيات أفلام ترانتينو بالغة الغرابة بالمجمل، انه تحول فجأة من شخص متقبل لمصيره البائس كمستعبد، إلى سفاح عنيد يشارك د. شولتز عمله، بل ويقلل من طاعته له، رغم انه منحه حريته، ونسبة من أرباح العمل إذا شاركه، شرط أن يظل معه حتى يجدان الأخوة الثلاثة أولئك، أمر غير ممكن استيعاب حدوثه بمثل تلك السرعة.

من الأمور الغريبة الأخرى، هو أن الشخص الذي قتل في الدقيقة (7.30) عاد نفس الممثل الذي أدى دوره في شخصية أخرى  في الفيلم، حارس كالفن داندي الذي يقتل د. شولتز قبل نهاية الفيلم.

وكالعادة، فان كوينتن نفسه يظهر في الفيلم بدور شخصية حمقاء، يخدعه جانغو بسهولة، ثم يطلق عليه الرصاص تماما في حقيبة الديناميت التي يحملها، لينفجر دون ان يبقى منه شيء.

ومن الأمور التي يكررها ترانتينو في أفلامه هو ان يضع في السياق حادثة تجعل المشاهد يبني استنتاجات معينة، بينما هي موضوعة لخداعه، ليستنتج غير ما سيحدث، أو ان يقدم ممثلا معروفا في مشهد، وتتوقع ان يكون له دور في الأحداث، وإذا به لا يعود للظهور مطلقا، وهذا ما فعله في فيلمنا هذا، اذ أقحم الممثلة المعروفة (آمبر تامبلين Amber Tamblyn) في مشهد من ثواني، تبتسم بطريقة موحية وهي تراقب دخول د. شولتز وجانغو إلى البلدة، وجانغو راكب حصان، الأمر الذي كان ممنوعا وقتها، واثار ذهول مواطني البلدة، فظهرت تامبلين في مشهد من ثواني، بابتسامة جميلة موحية، شخصيا توقعت انها كممثلة معروفة سيكون لها دور، وإذا بها تختفي بعد تلك الثواني الوجيزة الدافئة المفعمة بالترقب والابتسامة.

كما يقدم ترانتينو ــ بالمقابل لشخصية د. شولتز ــ شخصية العبد ستيفن، النموذج الانتهازي، الذي صار اشد وطأة على العبيد من سيده الأبيض نفسه.

الفيلم يحمل بصمات ترانتينو التي يمكن أن يميزها أي شخص يتابع أفلامه، ابتداء من طريقة كتابة الأسماء، والحوارات الرنانة المنمقة بين الأشخاص كأنهم في مسرحية، ونوع الموسيقى التصويرية الثقيلة، إلى طريقة تنقل الكاميرا على الوجوه لالتقاط انفعالات الأبطال، والجمهور المحيط بالحدث، بسرعة خاطفة تقتنص المشاعر المختلفة، فضلاً عن المبالغة في مشاهد القتل، وانفجار الاشلاء، وعدد القتلى، ومنظر الدماء المتناثرة على الجدران والأشخاص.

اتصور ان الفيلم يقدم تناقضاً شفافاً، فالدكتور شولتز الماني يكره العبودية ويمقتها، ويعمل على مساعدة جانغو على استعادة زوجته، رغم سمعة الالمان المتسمة بالعنصرية كما هو دارج، على جانب آخر ينتفض العبد الاسود ستيفن حينما يرى جانغو على فرس ويعاند سيده كالفن داندي لانه سمح له بذلك، ويرفض ان يساير سيده في السماح له بالمبيت في البيت الكبير، كأن ترنتينو يريد القول ان مسألة الظلم وطغيان الاستعباد لا تتعلق باللون، بل تتعلق بالنفس البشرية ذاتها، وبما تنطوي عليه من سفالات وحب إيذاء الآخرين اذا تمكنت من ذلك.

 imdb 

 

r & Writer: Quentin Tarantino

Cast:

Jamie Foxx = Django

Christoph Walt = Dr. King Schultz

Leonardo DiCaprio = Calvin Candie

Kerry Washington = Broomhilda von Shaft

Samuel L. Jackson = Stephen

 

The Adjustment Bureau

علي المعموري

هذا الفيلم من الأفلام التي تجمع الحديث عن كل شيء في حبكة واحدة محكمة، تختلط فيها الرسالة السياسية بالغيبيات، بالعلاقات الإنسانية، الدراما البحتة بالأكشن، مع مسحة خفيفة من كوميديا إنسانية نعيشها يوميا، يتناول مسألة الاختيار الحر، أو الجبر والتخيير على اختلاف توجهها، مع لمحة من فلسفة القوة للمرحوم نيتشة، ناهيك عن الجو الساحر الذي تحيطك به موسيقى الرائع (Thomas Newman).

فيلم لا يقوم على الثنائية التقليدية من الخير والشر وإن تعرض لها، هنا لا يوجد شرير من الأساس، توجد قوة عليا تتحكم بمصائر الناس، في دوران موارب حول (الإله) لا يقول لك الفيلم انه يعنيه، ولكنه يمنحك كل الأسباب التي تعتقد من أجلها انه يعنيه، يقول تومسون (تيرانس ستامب) لديفيد نوريس (مات ديمون) إننا كنا حاضرين منذ بدأتم بتكوين الحضارة، أيام الرومان، أعطيناكم الإرادة الحرة، فمنحتمونا خمسة قرون من الجهل والظلام، وهكذا يستمر في سرد مراحل تاريخية “تدخلوا” خلالها في حياة الإنسان بوصفهم قوة عليا، وخربها الإنسان، ثم قرروا أن لا يتركوا الأمر بيد الإنسان، الإرادة الحرة فكرة سيئة حينما تمنح لهذا النوع من البشر، “هم” الآن يحرصون على ان يتدخلوا في حياة مجموعة معينة من البشر الذين يؤثرون في الآخرين، وعبر زرع الافكار في رؤوسهم، وتهيئة الصُدف المقصودة لإحداث انعطافات مهمة في حياتهم، وهم بدورهم سيقودون القطيع خلفهم.

من هذه “الصُدف” المعدة مسبقا، تبدأ الحركة في الفيلم، في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، وأكثرها إبداعا في الفنية الصورية، وأداء، ديفيد نوريس، المرشح اللامع لعضوية مجلس الشيوخ الامريكي، الذي هزم بشدة، يقف في حمام الرجال مناجيا نفسه قبل خطاب إعلانه هزيمته، يظن انه بمفرده، يتحدث بصوت عال، ليكتشف بعد لأي انه ليس وحيدا، هناك شفق يؤذن بالحياة يختبئ في حمام الرجال، إليس (اميلي بلانت) الساحرة التي اقتحمت حفل زواج في الفندق نفسه، وسمعته، زرعها “هم” في الطريق، لتمنحه إلهاما لخطابه المهم، تخرجه به عن التقليدية، ينتهي الحوار بقبلة شغوفة، ونوريس يجري وراء الفتاة في الممر، حائرا، مأخوذا، للطيف الذي هز كيانه بعمق، وغيره إلى الأبد، ثم يظهر إلى الجمهور أمام الكاميرا بحركة زوم آوت توحي للمشاهد بأنه بطل المشهد وليس نوريس وحسب، ويلقي خطاب خسارة غير تقليدي يمهد أمامه الطريق إلى الترشح مرة ثانية.

الصدفة الثانية، وهي صدفة بالفعل هذه المرة، هي حينما يذهب إلى عمله الجديد صباحا، والرجل المكلف به ــ سمه ملاكا أو أي شيء آخر ــ تأخذه غفوة من الإرهاق، فيتأخر عن سكب القهوة على قميصه وتأخيره، يصعد نوريس إلى الباص، ليشاهد الفتاة الحلم غافية في الباص، يجلس قربها منبهرا، وتصحو على مقدمه، ثم شرارة تضطرم.

لاحقا يكشتف نوريس انه ليس بمفرده، ان هناك من يعمل على أن يملي عليه إرادته، يخبره تومسن لاحقا عن “الارادة الحرة” المزعومة للبشر، انها تتعلق بمعجون الاسنان الذي يستخدمه، بالسرير الذي ينام عليه، أما مصائر الأمم، فهي مُسَّيرة، ولا تترك لنزوات البشر وسيرهم المتخبط، يخبره ان بقاءه مع (إليس) هو خارج المخطط، ان تلك الفتاة ستملأ الفراغ الذي في داخله، بما يوقف طموحه إلى الزعامة، هنا تطفو الرسالة السياسية التي تتحدث عن “الدور الامريكي” وواجب الرجل الامريكي تجاه الإنسانية، يخبره “أنهم” يريدون له ان يفوز بدورتين في مجلس الشيوخ، وبعدها يريدون له ان يذهب إلى البيت الأبيض، “باستطاعتك تغيير العالم” الا تفهم، الرجل الأمريكي، الذي يدافع عن حريات الآخرين، الرئيس الامريكي الذي يقاتل في سبيل الإنسانية، هو نفسه يعمل بتأييد من الرب، إذا شئت، من القوى الغيبية كائنا ما تكون، يذكرنا بأعتى افكار المحافظين الجديد من بوش الابن وكوندوليزا رايس ورفاقهم في النضال!

فضلا عن ذلك، سنجد الفيلم يدور حول “الطريقة الامريكية في الحياة” فإن روح المخاطرة الامريكية، السعي وراء المجهول، اتخاذ خيار المخاطرة بأمل الافضل، كلها تبدو في الفيلم، إليس تركض يدها بيد ديفيد من باب إلى باب، في مشاهد مبهرة وجميلة، توحي بالتنقل من حال إلى حال، الانبهار من المجهول، ثم اتخاذ الخيار الاصعب المنطوي على المخاطرة، الثيمة التي يسوق لها كصفة أمريكية لازمة، الامر الذي تمجده القوى العليا، الغيبية، مثنية على الاختيار الصعب، وسياق الثقة والتضحية من أجل الحب الذي تأتي فيه خلال المشهد قبل الختامي، لدرجة إلهام “المدير” لأن يغير خططه.

في الواقع يكون الفيلم أكثر صراحة في هذا الطرح، في العبارات الختامية، يقول “الملاك” ــ الاسود بالمناسبة، ضمن اللازمة الاثيرة في الافلام الامريكية في أن يكون للرجل الابيض تابع أسود، صديق، ملاك حارس، سمه ما شئت، يمثل جانب الغيبيات، الغيبيات التي تجاوزها الرجل الأبيض “المتحضر” الذي يؤمن بالمنطق، بالدلالة التي تمثلها الغيبيات بالتخلف وفق هذا الطرح، ويأتي الاسود ليعيد له توازنه الروحي اللازم، الذي لا يسلبه منطقه، ولكن يمنحه شيئا من الروحانيات ــ يقول هاري (انثوني ماكي) بعد أن يؤكد ان اغلب الناس يسيرون وفق الخطط التي “نضعها لهم” ولكن كل مدة يأتي اشخاص يتجاوزون العقبات، اشخاص يفهمون أن: (الارادة الحرة هي نعمة لن تعرف كيف تستخدمها حتى تقاتل من أجلها، اعتقد أن هذه هي خطة المدير الحقيقية، أنه يوما ما نحن لن نقوم بكتابة الخطة، أنتم من سيفعل)، كل هذا يذكرني بالتلاعب الذي قام به صلاح عبد الصبور في قصيدته (الملك لك) التي عارض فيها قصيدة توماس إليوت، التي بناها على فقرة من الصلاة الانجيلية (لأن لك الملك) اما صلاح عبد الصبور، فقد جعل الملك للإنسان على الأرض، منحيا المشهد الغيبي عن الصورة، وهنا في هذا الفيلم يدور المشهد بطريقة ماكرة جدا، تُبقي على “المسيطر” الذي يملك كل شيء على مقامه، ولكنها تجعله يتجه إلى منح “الخاضعين” القدرة، القدرة على ان يكونوا هم المسيطرون على حياتهم، بإرادته بطبيعة الحال.

ولكن إلا يمكن أيضا ان ننطلق من الآية الكريمة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ضمن نفس السياق؟

لا أريد أن استطرد في هذا كثيرا…..

على أي حال الفيلم لا يخلو من الاستناد على الكثير من الافكار، بينها الدينية بشكل أكيد.

وينبغي أن أشير أيضا إلى المشاهد الخلابة، والمواقف غير المتوقعة في الفيلم، التي لا يمكن تجاوزها دون شعور بالاثارة، بالسعادة البالغة، بالجمال، كمشهد وقوف ديفيد نوريس وحيدا في اللوبي بداية الفيلم، تنتقل الكاميرا من يمين الصورة حتى تقف في المنتصف، مركزة على ديفيد الواقف، مركز الحدث هو بلا شك، الممر طويل، تزداد الإضاءة كلما زاد العمق، لتنتهي بشباك طويل يعتلي الضوء قمته، كأنها إشارة إلى الأمل، إلى الانتقال من العتمة إلى الضوء تدريجيا كمرحلة قادمة.

مشهد الحمام وحواره مع إليس وهربها، مشاهد التنقل بين الأبواب من قبل ممثلي القوى الغيبية، تنقل ديفيد نفسه مع إليس بعد أن اعطاه هاري قبعة الانتقال، الصدفة المبهرة التي جمعت ديفيد بإليس في الباص، مواظبته على ركوب نفس الباص لثلاث سنوات لكي يجدها بعد أخذ الغيبيون رقمها منه، ثم لقاءه بها، سعيه إلى لقاءها رغم العقبات التي وضعت في طريقه، وغيرها من المشاهد المبهرة، فيلم جميل، ممتع، محفز.

 

The Adjustment Bureau(2011)

Director: George Nolfi

Writers: George Nolfi (screenplay), Philip K. Dick (short story “Adjustment Team”)

Matt Damon . Emily Blunt . Michael Kelly. Anthony Mackie .John Slattery.Terence Stamp

للمزيد عن الفيلم انظر: Imdb

آمرلي… الفجر الذي ننتظر نهاراته

آمرلي

علي المعموري

هل تسمعين تلك الهمسات التي تدب في كل شيء حولنا، تتحرك كالدماء في العروق؟

هل تشمين تلك العطور الغامضة التي تداعب الأرواح بلمسة شفافة كل لحظة؟ عذبة كالمياه بعد (الصيهود)، كالفرات يتمشى منذ آلاف من السنين، شامخاً، يحمل الحياة في عزف لا يكل ولا يفتر.

هل تبصرين ذلك الضوء، ذلك الضوء الذي يبدد العتمة رويدا، كما تغسل دجلة الغبار عن وجه بغداد؟ هل تحسين بنضارته؟ هل تمتلئ روحك من النسمات التي تعانقه وهو يتسلل في الأمشاج وئيداً؟ كالعافية تسري في جسد المريض، يفيق من إغماءته، وتصب عيناه في قلبه صور الأحبة المحيطين به، عيون رفعت إلى السماء أكف تدعوا، أفئدة تتضرع، تريد لنفوسها أن تصير دواءً، أن تصير كل شيء لهذا الذي يمثل لها كل شيء.

إنها أنت، ما غيرك.

إنه الرصاص الذي يلعلع حواليك، تقفين شامخة أزلية كالنخيل.

إنها نساءك التي تملأ المشاجب بالأحبة، وترص الذادة في المتاريس، كأنهن لم ينجبن، ولم يربين إلا لهذه اللحظة التي تتوج بالموت، الموت بكرامة.

إنها رجالك الذين يأبون التزحزح عن مواطئ الأقدام، حتى الجريح الذي يئس من النجاة، يجعل من نفسه قنبلة توقف البرابرة الهمج القادمين من مجاهل التاريخ.

إنها أطفالك الذين لبسوا الرجولة مبكرا، وألفوا البنادق قبل الألعاب، الذين فهموا ضرورة أن يجوعوا، وأن يعطشوا، وأن يفترشوا التراب الصاهد أسرة وثيرة، الذين تذوقوا لذة الكرامة مبكراً.

إنها الخيل التي تحمحم في المعركة، زمجرة الأسود التي تقتحم، الأعاصير التي لا تعرف السدود أمامها حيلة.

إنها الليالي التي كانت عتمتها أهون عليك من الضياء الذي يبصرك بالوجوه الكريهة التي تحيط بك، كل فجر مرَّ بك دون ندى، كل صباح لم تكن الحياة فيه أول ما يطرق أبوابك الساهدة، لم تكن العصافير تعلن مقدم الرزق، ولا الحمائم تهدل للسلام، كانت لعلعة الحرب تصطخب، البارود الذي تسيدت رائحته العفنة المشهد، تمتزج بصيدك الليلي من دماء الهمج، تنتظر الصيد القادم في النهار.

تقفين 83 يوما، كل يوم بسنة، الهمج يحيطون بك، يريدون كسرك، وأنت كالطود لا تتزحزحين عن مواضعك، الرصاصات تقل كل يوم، وأنت لا تزدادين إلا نصرا.

إنني أسمع، وأشم، وأحس.

كأن روحي أتون يلتهب لهفة عليك، يترقبك مع كل ما يخفق نحوي من جوف الليل، أقف ولست بالواقف، وأركض لا كما تركضين، أراك في كل الصور، تنعكس فيك كل الوجوه المحاصرة في مدن العراق.

ثلاثة أشهر والعار يصفعني كل لحظة، أحس بالعراق الذي تبدد، المياه التي تهشم إناؤها وتبخرت الحياة منها.

النجيع الذي يزمجر على أرض ما عرفته، يوما لم يسل فيه على خدها، النجيع الذي يعصف من تخوم الموصل، يخط بمسيره كل الحواضر، والقرى، والبيوت التي في طريقه، يضرب الأنبار، ويوجع ديالى، حتى يصل بغداد ليشوه وجهها النضر، ويجتث صدرها الناهد الذي طالما غنى له (جمال الدين).

ثلاثة أشهر، أجلس قرب المدخنين، أتطفل على نيكوتين المواجع الذي يحلق حول رؤوسهم، والشاي المر، والشتائم التي لا تدع أحدا في طريقها إلا وشجت “يافوخه”.

ثم جئت متألقة، وإذا بي لا أقدر على دموعي، تهرب من مقلتي دون إذن، إنها أنت، أنت الأمل الذي فتح روحي من جديد.

وها أنا أنتظر المدن القادمة، أنتظر لنواعير حديثة أن تهدل بالعراق وحده، أترقبها وقد لطمت البرابرة لطمة أخيرة تختم بها ما كالته لهم خلال الحصار، أنتظر الضلوعية، أن تهب من الأرض ضلوعا تحمي العراق، العلم التي تقف علما لا ينكس.

وبعد؟

أنتظر كل النهارات التي لا تقود إلا إلى الموصل…. الموصل التي إن لم تعد سريعا فلن يسد الثلم الذي أحدثته في كرامتنا شيء.

هل رأيت؟

إنها أنت التي قلت للعراقيين مرة أخرى: ارفعوا الرؤوس، انظروا إلى الأمل الذي يصب كالفجر من السماء، لملموا كرامتكم، فهي أغلى ما تملكون.

كل الطرق، كلها كانت تؤدي إليك، وأنت لا تؤدين إلا إلى الموصل.

أما أنت أيتها الحدباء، فلا تؤدين إلا إلى نفسك، على أمل أيتها البضة.

[الصيهود: هو الأسم الذي يطلق على موسم انخفاض مناسيب دجلة والفرات، بما يعني انقطاع الحياة، ويقابله اسم الخنياب ابان ارتفاع مناسيبها أول الربيع]