في التكاره والتسامح

علي المعموري

في التكاره والتسامح

اوراق في النقد الذاتي

دعما لهمام طه

(1)

أرجو أن تُقرأ هذه السلسلة بمبدأ من حسن النية المطلقة، لا من مبدأ التأويل إلى السيئ، وإذا ما وجد الأحبة الذين سيرهقون أنفسهم بقراءتها أي عبارة أسئت سبكها فأوحت بسوء القصد، ارجوهم أن لا يفسروها إلا بحسن النية، وأن يستفهمون مني عنها، لعلي ادفع عن نفسي ظن السوء، ومثلهم من طلب الحق، ومثلي من أناط الباطل عن نفسه.

كتب الأستاذ همام طه على صفحته منشورا وجهه لـ”أخيه الشيعي”، يحثه على ممارسة النقد الذاتي كما يفعل هو كسني، وأن يتخذ من هذا النقد السني للسنة العراقيين سببا للتسامح، وبناء وطن قائم على التسامح، لا أن يتخذ النقد حجة للتبكيت، ولأني لا أريد لصوته ان يذهب هدرا، قررت أن اكتب في عونه، رغم أني أكره الخوض في موضوع التسنن والتشيع، لأنني لا أرى في همام ــ كما كتبت على صفحته ــ ما لا أراه في نفسي، وهو أني لا اعتبر نفسي في خانة التشيع الإقصائي كما لا اعد هماما في خانة التسنن الإقصائي، وهما السائدان اليوم، وبموازين طائفيو الفرقتين، لا اكون شيعيا كما لا يكون هو سنيا.

ولأني من جانب آخر لا أميل إلى تحميل العقائد مسؤولية اخطاء المعتقدين، وافصل بين الأفكار، وبين التطرف في تطبيقها، ولأني اسير مع المرحوم هوبس في سوء ظنه بالانسان، وأميل إلى انه يقترف ما يقع في هواه ما أن تسنح له الفرصة، دون أن يفكر بغيره، وفي سبيل ذلك سوف يستثمر كل ما يمكن له استثماره من عقائد، وأفكار ليبرر لنفسه جرائمه، وهو إذا لم يجمعه بالآخرين مذهب، فسيجمعه عرق، وإذا خلصت الجوامع الباعثة على التعنصر أمامه، فسيتعنصر كبار الأنوف لأمثالهم، وقصار القامة لنظرائهم، وبالتالي، فإن الذين بطشوا بالشيعة في السابق لم يبطشوا بهم لأنهم مؤمنين بكفرهم، والذين بطشوا بالسنة لاحقا لم يفعلوا ذلك لأنهم يؤمنون بكفرهم، وتساوت ردة فعلهم بمطامعهم في مطلق الاحوال، والنتيجة أن العقائد صارت عناوين للباطل بعد أن أفرغت من محتواها، وخلال حكم الطرفين وجد من الطرف الآخر شريحة كبيرة من النفعيين واللصوص تعمل مع الحاكم “المغاير” وتسهل له سوق رهطها، والوحيد الذي تضرر من آثار التحارب هم الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة.

ولأن الموضوع الذي طرحه أ. همام يتحرك بدرجة كبيرة ضمن أطر مذهبية، وجدت من الضروري أن احدد موقفي من التمذهب.

حقيقة الأمر لست راغبا في خوض الموضوع الذي اريد خوضه، أو أن اتحدث من منصة انتماء مذهبي معين، لأني لا أعد نفسي حقا مذهبيا بطريقة تقليدية، كشخص ولد في عائلة شيعية، في النجف خصوصا، لا أريد حقا أن أؤطر نفسي بإطار لا اجدني تماما ضمن العنوان الذي يسوق له المتعصبون، بل أسير فيه بأطر أخرى أكثر رحابة، بقيت حبيسة النقاش الحوزوي والجدل الديني في النجف ذاتها.

ولأني حقيقة أجد في الانتماء المذهبي، أو الديني حتى مسألة شخصية، بالغة الخصوصية، تتعلق بي وبخالقي، لا أكون ضمنها مسئولا عن إيمان أحد من الخلق، ولا أسمح لأحد أن يحاول فرض رأيه علي، لهذا احتفظ بعقيدتي لنفسي، ولا أناقش فيها على الملأ، سوى بعضا من الذين هم قريبين من فكري، بحثا عن المعرفة، ضمن الشك والتفكر.

ولأني صرت إلى الإيمان بأن مسألة الخلاف الرئيسة بين الطائفتين لم تعد تتعلق بواقعنا الحاضر، وأن تطاحننا حولها لن يغير من وقائع التاريخ شيئا، وأنها تتعلق بدرجة كبيرة بالآخرة، بالسبيل الذي يريد المرء أن يسلكه للنجاة، وما دام الأمر كذلك، وما دمت قد وجدت في نهج معين سبيل اتذرع به أمام خالقي، ولا تُغير عقيدتي فيه من وقائع تاريخيته شيئا، ولن تؤثر في عقائد الآخرين، ما دمت كذلك، فلن أجعل منه أطارا لعلاقتي بالآخر، خصوصا أن من يتشيع الرهط ــ الذين أنا منهم ــ له قد قال بوضوح: (أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وما دام الإمام قد وضع هذا الإطار العريض للعلاقة بالآخر، فلم أجعل نفسي رهنا للموروث المقدس من كتب ومرويات؟ الموروث الذي تخلصت من عقدة الأخذ منه دون نقاش، وكُسرت رهبتي الدينية التي غُذيت بها صبيا أدرج في مساجد النجف تجاهه، بعد ان ساق الله إلى طريقي كتابات واحد من أساطين التحقيق في حوزة النجف، ممن لا يجدون في أنفسهم خشية من اقتحام المسلمات وتفحصها عن كثب، في إطار من قبول الآخر مهما اختلف معه، وهو السيد محمد مهدي الخرسان.

أما الأحكام الفقهية، فهي مجرد ضوابط وقوانين، وجد الكثير منها ضمن مبدأ التراكم عبر القرون، وتطور تجارب الفقهاء واجتهاداتهم المختلفة في تفسير النصوص، اتساهل في الكثير منها، وألتزم بالكثير الآخر، التزم خصوصا بما يحزن تركي له قلب أمي، ولا أجاهرها بكثير من مخالفاتي، حرصا على أن تدعو لي دعاء المؤمن، وليس دعاء من تريد له الهداية، فذلك أجدى لروحي وراحتي النفسية من غيره، عدا أني التزم بقطع منها كجزء من منظومة الأفكار الدينية التي اتساوق معها، أو التي لمست فائدتها الاجتماعية بالفعل.

وما دمت قد أوضحت هذا، فليفهم الجميع، ان هذه الكلمات ليست خذلانا لمذهب، أو إعزازا لمذهب آخر، هذه الكلمات هي نقد، كلمات أريد بها الحق، منطلقا فيها باتجاه رغبة واحدة، أن نوقف الخبل الذي ينزف أبناء وطننا في سبيله.

[نظرا لطول الموضوع، سوف يكون هذا الحديث على حلقات، وهذه المقدمة هي أولى الحلقات تلك، التي أعدكم أن تكون أقصر]

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.