محمد رضا الكرماني

لا اذكر بالضبط متى انتبهت لوجوده، هو من طرف البراق، مثل اسرتي، لكن بيته يقع في “عگد” بعيد عن “عگد” اسرتي، وأكاد أجزم أنني شاهدته أول مرة في شارع الصادق حين كنت طفلا، لم يكن بإمكانك أن لا تنتبه للرجل الضئيل البنية، الأسمر، بعويناته السوداء السميكة، وبدلته الانيقة، وربطة العنق المتميزة، البدلة التي لا يبارحها صيفا ولا شتاء، صحبة أخيه الذي لا يختلف عنه بالسمت إلا بعينيه اللتان لم تغطيهما العوينات، بشعرهما الأشيب، الهيئة التي بقيا عليها منذ شاهدتهما أول مرة، الى اليوم.
كنت اسأل نفسي، لماذا يرتدي الرجلان هذه البدلة على الدوام؟ ماذا يعملان؟ كنت صغيرا، لا أعرف القواعد التي وضعها التربويون القدامى لانفسهم، سمت من الاناقة والرصانة الوقورة، يليق بحامل العلم ومعلمه، نسق تربوي يعود الطلبة على التحضر، والاحترام، والرصانة في العيش.
بقيت لسنوات طوال اتتبع الرجل وشقيقه من بعيد، وهما يخبان في دروب النجف، والاحترام يحيطهما حيث حلا، اتطلع نحوهما بإجلال يشوبه الفضول، بعد ٢٠٠٣ جمعتني بأبي ظافر خصوصا بعض المواقف التي كان بيننا فيها سلام عابر، تحية يعلوها ما يكون بين شيخ وقور وشاب صغير من احترام للكبير، وعطف على الصغير.
ثم دارت الأيام، وجمعتنا في نزهة الى أحد بساتين بحر النجف في “الشواطي” كما نسميها، صحبة المرحوم الشيخ محسن الأنصاري، والاخ العزيز ابو احمد؛ جاسم الجزائري، هناك، سألني الرجل المهيب، الأنيق أبدا عن أسرتي، ليفاجأ بأنني جاره، وسليل اصدقائه سواء من ناحية الأب، أو ناحية الأم، لقرب داره من دار أجدادي لأمي في شارع الصادق، فأمسك يدي بحب، وظل طوال النزهة يحادثني بحفاوة، ويرسل السؤال تلو السؤال عن كبار أسرتيَّ كلاهما، فردا فردا، رجالا ونساء، حتى أن الشيخ الانصاري رحمه الله تبرم آخر النزهة وقال له: “عمي ابو ظافر اليوم ما سولفت ويانا” فقد كان جميل المعشر، واسع الاطلاع، ممتع إذا حدّثك سلب لبك بنوادره، ومعرفته بالأدب، والناس، والتاريخ، وأهل النجف، حتى لا يكاد يفوته شيء عن شيء في هذه الأزقة العامرة بالتاريخ والشعر والفقه.
ازاء وقوفي على معرفته بالأسرة، سألت اهلي عنه، حتى جدتي لأمي كانت تعرفه بشكل جيد، فهو جار وأي جار، سليل أب وجيه ديِّن مهاب محترم، وهو تربوي خرَّج أجيالا من الطلبة الذين داروا في نواحي الحياة، يعمرونها بما تعلموه منه.
ثم صار كلما شاهدني استوقفني، يسلم عليّ بمحبة كبيرة، ويسأل بتلطف عني، أهلي، دراستي، عملي، حتى اخبرته بقبولي للدراسة في الماجستير ففرح كأنني ابنه الذي ما أنجبه، كلما التقينا صدفة امسك يدي وقادني معه لمسافة من الطريق، حفيّ بي، آنس لممشاي معه.
لعلي لم آنس لرجل كبير في السن بعد جدي الحاج صاحب إعبيد مثل أُنسي لأبي ظافر، محمد رضا الكرماني، الباسم أبدا، الرضي، الوحيد في داره، الكثير بين أهله في النجف، أحببته كثيرا، وأشعر اليوم أنني فقدت واحدا من أهلي إذ فقدته، بعيد عن بلدي، ومدينتي التي أحب، فلا استطيع حضور مجلس عزاءه، ويوجع فؤادي أنني لم أره منذ مدة بسبب ضيق وقتي حين أعود للنجف آخر الأسبوع.
وداعا عمي أبو ظافر، آلمني رحيلك أيها النبيل النقي العفيف.

21/ 9/ 2019

روما