يرتبط هذا الرجل بواحدة من أكثر زوايا ذاكرتي دفئا وأمانا، بتلك السنوات البعيدة من طفولتي، حين كان الأمل يملأني، والتطلع للمستقبل بطموح وشغف وأحلام واسعة، وثقة بإيماني، حين كان أمثال هذا الرجل يبثون الطمأنينة في روحي، جلست تحت منبره في مجلس آل بحر العلوم، قبيل منتصف تسعينات القرن الماضي، دخلَ المجلس المهيب وقائده يخطو به فوق رؤوس الجالسين، ازرار قميصه مفتوحة كعادته، حتى وصل لمنبره، صعد متعكزا على كتف قائده بيد وعلى عضادة المنبر باليد الأخرى، كان يتحدث بهدوء، يركز على البحث التاريخي، ينقل الوقائع بمصادرها، دون إثارة للفتنة، وتجنب للمختَلَف بشأنه من الوقائع.
مضت تلك السنين التي كنت أتلقف ما يقوله من احبهم مثله دون نقاش، فتهجع روحي وانظر للقادم بشغف، صار الشك والقلق ديدني، لا في مستوى تلقى المعرفة وحسب، بل على مستوى حياتي الشخصية وطريقة عيشي، قلق في قلق مداف بالقنوط، لم يعد الشيخ ولا أضرابه قادرين على منحي الطمأنينة ولا المعرفة، ولكن، وبين كل هذه الحرائق التي تلفني، يظل وجه الشيخ البصير، الباسم بالفطرة، متوهجا في ذاكرتي، صوته الهادئ بنبرته الباكية يقودني الى اجمل مرابع سنواتي الغابرة بذاكرتها المعقدة حد الاضطراب، يمسك بيده اللاقطة، عيناه تغرورقان بالدمع، فيبكي الصغير الذي كنته، الجالس تحت منبره صحبة الباكين، ويضرع معهم، ثم يخرج الى الشارع وقد هجعت ظنونه، وتجلى مستقبله عامر بالأمل، يخب الى الدار العتيقة في طرف البراق، وصوت الشيخ يطفو، يحمله بيديه فوق بحر من السواد، تلك الأيام التي لن تعود، مضت كما مضى الشيخ آمنا راضيا، لأظل هنا بمفردي صحبة الهواجس الموجعة، بكل قلقها الذي يغور في روحي حفرا، روحي التي ظلت طريقها نحو الشيخ الخفيض الصوت، بوجهه الباسم، وعيناه الدامعتان.
الشيخ شاكر القرشي، يغادر لرحمة ربه الكريم في الشهر والأيام الأقرب لروحه.
