Mr.Holmes

من الافلام الجميلة، واطئة الكلفة، عالية المضمون.

يكفيك منه ان تستمتع بأداء السير إيان ماكلين، وهو يرسم بدقة كل ما يخالج الشخصية التي يؤديها.

سنجد السيد شيرلوك هولمز، بطل سلسلة القصص البوليسية الشهيرة التي ألفها السير آرثر كونان دويل، في مزيج بين الوقائع الشخصية التي تعرض لها دويل نفسه في الحقيقة، وبين الوقائع المتخيلة للشخصية التي رسمها، المحقق شيرلوك هولمز، وأحسب أن من المهم ملاحظتها قبل أن اتحدث عما فهمته من الفيلم.

في السلسلة الأصلية، سنجد أن من يدون الوقائع هو الدكتور واطسون صديق هولمز وشريكه في العمل، بينما يكتفي هولمز نفسه بأداء دور البطولة، ولكن في الحقيقة فإن السير كونان دويل كان طبيبا، ربما لهذا اختار ان يدون طبيب سيرة بطله، كما انه اقتبس شخصية هولمز، وقدراته في الفراسة من شخصية أحد اساتذته.

ولكن المحقق الذي ابتكره كونان دويل، وصنعه من مخيلته، طغت شهرته، وغطّى على اسم مؤلفه ورسمه، لدرجة أن الرسائل التي كان المعجبون يرسلونها إليه كانت تعنون وتصل لبيته مدموغة باسم شيرلوك هولمز، لا اسمه كمرسل إليه، ليس لكونان دويل شخصيا، بل مَنح الناس لقب النبالة الذي كرمته به الملكة لهولمز، فصار السير شيرلوك هولمز، حتى فاض به الكيل وقرر قتل محققه في إحدى الروايات، ثم عاد بعد سنوات من العزلة ليبث في روحه الحياة، ويبين انه كان مختفيا في أحدى القرى النائية في أوربا.

أما في هذا الفيلم فإن هولمز نفسه هو من يدون القصة، لأنه وجد في الوقائع التي رواها صديقه واطسون لذات القصة شرخا يخالف منطقه، منطق هولمز، وما يعرف انه كان ليفعله في مثل هذه الملابسات، الأمر الذي لم يستطع تفسيره، لوطأة اعراض الشيخوخة والنسيان الذي يعصره عصرا، الأمر الذي تطلب ان يتم قص الفيلم بطريقة تداعي الذاكرة، والقفز بين الحدث الحاضر والحدث الماضي، عبر ذاكرة عجوز خرف بكل ما يمكن ان يثيره هذا الموقف من التباس وغموض، مما يذكرك بالروايات العظيمة التي كتبت بهذا الاسلوب، مثل الصخب والعنف.

سنجد في لحظة تذكر ان هولمز يسكن في عنوان هو غير المعلن عنه رسميا، وان السائحين وغيرهم يزورون ويرسلون الرسائل للعنوان الخاطئ الذي زوده بهم د. واطسون، بيت آخر مقابل البيت الحقيقي، ليقف هولمز بكل اعتداده بنفسه، ونرجسيته العالية يراقب من بعيد ساخرا من هؤلاء الناس، متمركزا في علياء عزلته التي يراها لائقة بشخصه، كما سنستشف من كلامه لاحقا.

ولكن الحقيقة انه كان يدرك مدى ما تحمله هذه العزلة من قسوة وخداع في ذات الوقت، سنجده طوال الفيلم يحاول جاهدا أن يتمسك بأطراف ذاكرته الممزقة، علها تقيه عري الوحشة التي تعصف به في أيامه الأخيرة، ممتزجة بشعور طاغ بالذنب، يسيطر عليه ويفقده راحته الموهومة، لسبب غامض لم يعد يتذكره، انه غارق في عزلته، ويدرك مدى وحشة هذه العزلة تحت وطأة الخرف، ثنائية معقدة، شعور بالذنب من سبب مجهول، قاده لعزلته، وعزلة قاسية تلح عليه لتذكر سببها الرئيس، دون أنيس، أو محفز للحياة.

ثم يجد في الفتى (روجر) ابن مدبرة منزله خشبة أمل وسط بحر الذاكرة المثقوبة واللارغبة في الحياة الذي يغرق فيه، طفل ذكي لدرجة لافتة، حتى أن هولمز وفي فظاظة معهودة منه يقول لوالدة روجر ان الاطفال الاستثنائيين يولدون في العادة لوالدين لا يملكان ما يثير الانتباه، طريقة تعامله مع الفتى، وحرصه الشديد عليه تخبرك بأنه تحت هذه التصرفات القاسية انسان، قلب ينبض بالمشاعر وليس صخرة من قسوة لا رجاء فيها.

بل إن بعض التفاصيل المتعلقة برحلته إلى اليابان تبدو وكأنها مخصصة فقط للكشف عن ذلك الانسان القابع في أعماقه، رغم ما أحاطه به من حواجز، هو يسافر إلى اليابان للبحث عن عشبة الرماد الشائك، علّها ترمم ذاكرته المتداعية، وفي مشهد مبهر، يزور هيروشيما وفي وسط دمار القنبلة الذرية، ورماد الموت الذي يملأ المكان بوحشية، يركض مضيفه الياباني فجأة، ليزيح كومة من الرماد بيديه، بعد ان اكتشف وجود تلك النبتة التي يبحث عنها هولمز، يقول هولمز لاحقا وهما جالسين في المطعم مستغربا من طريقة إيجادهم للعشبة (هيري سانشو): كنت احاول احتساب احتمالية إيجاد (هيري سانشو) في مكان يخلو من الحياة تماما، فيجيبه الياباني: ربما هي الحياة التي ترغب بتأكيد وجودها!

الولد (روجر) ـوأثناء سفر السيد هولمز إلى اليابان لتدارك ذاكرته ـ يدخل إلى مكتب هولمز، ويقرأ القصة التي يحاول العجوز الوصول بها لنهاية تريحه، ويعرف بذكائه انها السبب في شعوره الطاغي بالذنب، ثم يكتشف الرجل ـ الذي قضى حياته في تتبع الأدلة ـ بعد عودته ان الطفل قد قرأ مسوداته، ويبدأ بالنقاش معه حول الأمر، منبهر من ذكاء ابن المدبرة هذا، ورويدا… يقتحم روجر حواجز هولمز، فيشركه في العناية بنحلاته، التي يشكل وجودها إشارة مهمة في حياته سنعرفها لاحقا قبيل نهاية الفيلم.

أحسب أن الفيلم يحاول القول لنا بأن الانسان ومهما غطى نفسه بالقسوة، وأفرط في عزلته، فإنه في النهاية كائن لا يرغب بالعيش بمفرده تماما، يصرح هولمز في لحظة من البوح النادر أمام امرأة ـ صنعت به في ربع ساعة ما يعادل عمره الموحش كله ـ انه كان طوال حياته وحيدا، مع امتياز الذكاء، كتعويض لهذه العزلة، تسأله المرأة المفجوعة بأطفالها: وهل كان هذا كافيا؟ هنا يشعر بالمفاجأة، ويتبخر كبرياءه ليقول دون ثقة كبيرة ونظرة شك بائسة تعلو وجهه: ممكن أن يكون، ولأنه يدرك سخف ما زعمه، استطرد قائلا: شرط ان يكون الانسان محظوظا كفاية ليجد مكانا في هذا العالم يعيش عزلته فيه، صحبة روح لديها رغبة مماثلة لرغبته في تلك الوحدة، مقرا بأن الوحدة المطلقة غير ممكنة للانسان، لكل إنسان.

بل اننا سنكتشف في النهاية، ان هذه الفضاضة الشديدة والنرجسية الفاقعة لم تكن سوى نتيجة لشعوره العارم بوطأة الوحدة على روحه، وأن عمله كمحقق لم يكن إلا تعويضا للشعور بالذنب تجاه سلوكياته تلك، ففي لحظة من الفيلم، وبعد ان تهاجم الدبابير روجر، وعقب محاولة أمه ان تحرق خلايا النحل بظن انها من لدغت ابنها، يحاول هولمز منع الأم، التي تتهمه بأنه لم يهتم لروجر، وأن عاطفته لم توجه لسوى نحلاته، تقول له بأنه لم يأبه بروجر الصغير، فينخرط هولمز الجبار القاسي بالبكاء على الطفل الذي يحبه كثيرا، الذي من الممكن أن نستنتج انه يجد فيه صورته، ذلك الذكاء الاستثنائي ـ ما دمنا لا نعرف شيئا عن هولمز ونشأته، ومحيطه العائلي سوى ما يرد من إشارات لأدوار معينة أداها شقيقه الارستقراطي في حياة هولمز العملية ـ.

إزاء غضب الأم التي تكاد ان تخسر طفلها، يعترف هولمز الباكي بأنه لم يأتِ إلى هذه العزلة إلا ليتجنب إيذاء شخص آخر، لأنه وبأنانية مفرطة، وخوف من التجربة رفض ان يساعد آن ـ المرأة التي اعترف لها بوحدته وصنعت في نفسه كل تلك المشاعر المتضاربة رغم انه لم يقض معها سوى وقت قصير ـ ونتيجة لسلوكه ذاك انتحرت المرأة، فقرر ان يأتي هنا، بعيدا عن الناس، لكي لا يجد سبيلا لإيذاء أحد آخر.

في نهاية الفيلم يحاكي هولمز ما شاهده في رحلته اليابانية وسط هشيم هيروشيما المفجع، حيث لاحظ ـ وقتها ـ رجلا قد صف دائرة من الأحجار حوله، ودأب بينها راكعا ساجدا، وإزاء نظرة السؤال التي علت وجهه يخبره مضيفه الياباني بأن هذه الاحجار هي رموز عن الأحبة الذي فقدهم الرجل، وهو جالس هنا لتكريمهم، ليصف هولمز في زاوية من ارضه أحجارا بيضاء، وهو يعدد أسماء من فقدهم، أخوه، واتسون، آن…

أنها بالفعل الحياة التي ترغب بتأكيد وجودها، هولمز، ورغم القسوة التي أحاط نفسها بها، ما هو في النهاية إلا انسان، يحمل في أعماقه مشاعر حب شاء أم أبى، هو في النهاية مثال آخر لما كتبه اندريه مالرو يوما، وهو يقص ردة فعل عمه على انتحار والد مالرو، شقيقه: (الانسان؛ كومة بائسة من الأسرار)، وجمع يديه كمن يكوّم اوراقا يابسة على منضدته، وهولمز هنا، ما هو إلا تلك الكومة البائسة من الأسرار، لا نعرف عنه الكثير، لكنه ومن المعلومات القليلة التي يمنحها لنا عن نفسه يؤكد ذلك، مهما حاولت ان تكون قبيحا، فإنك لن تتمكن من القضاء على ذلك الإنسان القابع في أعماقك، الذي صنعته الحياة، وكونته التجارب، وإن القسوة المصطنعة لابد ان يكون في جسمها المتين نقطة ضعف تنفذ عبرها مشاعرك الدفينة، كما تفعل الحمم البركانية بالأرض.

رغم ذلك، من الواضح ان الفيلم لا يحاول تقديم هذه الفكرة بوصفها قاعدة عامة كما احسب، إذ من غير الممكن تفسير سلوكيات القسوة والجرائم الجماعية التي يقوم بها الانسان اليوم، في مناطق كثيرة من هذه الأرض، وبطرق شتى، وفق هذه القاعدة، وهذا التعميم، أنا احسب ان الفيلم كان يدور حول الفرد، حول الذات الفردية التي لم يتم تحفيزها لممارسة الجريمة ايديولوجيا لا أكثر.

وبالتأكيد فلا يمكن أن يخلو الفيلم من ضرورة ممارسة هولمز لألعاب الاستنتاج في التحقيق الخاصة به في عدة مواضع، مثل استدلاله على ان الدبابير وليست النحلات من لدغت الصغير روجر، وغيرها من المواقف التي لا يجب ان افسد متعة مشاهدتها بالإخبار المسبق عنها.

Director: Bill Condon

Stars: Ian McKellen, Laura Linney, Hiroyuki Sanada

لمعلومات أخرى عن الفيلم انظر على imdb:

Mr. Holmes