عن كربلاء وأشياء أخرى

 

(1)

يذهب بعض علماء الاجتماع والعلماء النفسيين إلى أن السنوات العشر الأولى من عمر الانسان بالغة الخطورة، وأن جزءا كبيرا من اللاوعي يتكون خلالها، وأن تلك الرواسب الكامنة كالأسس في الأعماق، تظل الصفيحة الأساس التي تقوم عليها بقية ما يكونه الإنسان لاحقا من صفائح، يقيم عليها بناءه الروحي والفكري، وأنها كذلك تظل تطفو على طبقات التجارب والمعارف التي يراكمها خلال حياته الطويلة، لتعلن وجودها الحاد بمناسبة أو بدون مناسبة، لتوّضح لك كيف تكون هذا الانسان، ومن أين جاءت عقده، ومسالك معتقداته، أتذكر انني كنت أتذاكى وأصنع من نفسي خبيرا بالنفس فأقول: (الانسان هو لاوعيه).

(2)

كطفل نجفي، سيكون من اللازم أن تكون نقطة اتصالي الأولى بالنشاط الجمعي لسكان المدينة هي المجالس الحسينية، فكيف بي إذا كان جدي لأبي ـ الذي توفي قبل ولادتي بعقد ونصف ـ هو رجل دين، وخطيب حسيني، تتوسط صورته بالعمامة بيتنا القديم في طرف البراق، لتحتل جزءا مميزا من ذاكرتي، جنب صورة متخيلة عن مكتبته العتيدة التي بيعت قبل ان تمر اربعينيته، ليشتريها زميله الشهيد السيد جواد شبر، كل ذلك، يصطف جنب صور قديمة غير واضحة تماما بالنسبة لي، أرتدي خلالها (دشداشة) سوداء، و(عركجين) اسود مطرز بـ(البلك الذهبية) وقد كتبت والدتي بتلك الذهبيات على مقدمته (يا حسين).

(3)

لا أتذكر بالضبط أول مجلس عزاء حسيني (تعزية كما نسميها في النجف) حضرته، لا زلت مترددا بين المجلس الذي أقامه الخياط حمودي في سرداب العمارة التي كانت تضم محله وخياطين آخرين [للمكان قصة ترتبط بها الأسطورة بالحلم بالعقيدة، وذكرها سيكون إطالة لا داعِ لها]، أو انها كانت تعزية آل المعمار؟ في منزل زعيمهم القديم في البراق، ولكن ما اعرفه بتأكيد ان تعزية آل المعمار كانت تبدأ قبيل طلوع الشمس، يوزع فيها كبير الاسرة طعام الإفطار، ومنه، ينتقل الناس عبر العكود (الدرابين، الأزقة الضيقة) إلى تعزية بيت القرشي، يقيمها الشيخ باقر شريف القرشي في بيت أخيه الشيخ هادي ـ رحمهما الله ـ في طرف البراق، في عكد آل شايع، بيت مبهر، متعدد الطبقات، كان الدخول له في أيام ضيق منازلنا تلك حلما مبهرا، كان التنقل بين الحجرات التي تفتح كلها لاستيعاب الداخلين، في طبقاته متعدد وصولا إلى السطح في جو الحزن ذلك أشبه بالمغامرة، لا أذكر من كان خطيب آل المعمار، لكني لا زلت أتذكر المرحوم الشيخ صالح الدجيلي خطيب بيت القرشي، وكان يعقبه بالتناوب بين يوم وآخر اثنين من (الرواديد)، يقرأ كل واحد منهما (كعدية: شعر دون لطم، وأحيانا يغامر احدهم بقراءة لطمية) الأول هو الشاعر الطائر الصيت الحاج عبد الرسول محي الدين، ولا زلت أذكر انه قرأ قصيدة عن حبيب بن مظاهر، وأنه قرأ مرة قصيدته (من على التل تصيح) القصيدة التي تقرأ بطور قديم استثمره عباس جميل مرة في أحدى اغانيه وهي (جيت يهل الهوى)، والثاني هو الشيخ طاهر امين شلاش، ثم يرسلني أبي إلى البيت عقب المجلس، ليذهب إلى بقية يومه، في الايام الاعتيادية إلى الحي الصناعي، وفي الجُمع إلى حيث لا أعرف، كما لا زلت لا أعرف أين يذهب، وكيف يفكر حتى اليوم، اتذكر مرة وحيدة صحبني فيها إلى تعزية في (عكد بيت الرشدي)، كان الخطيب هو صديق جدي وزميله، المرحوم الشيخ نعمة الساعدي، ولا زالت القصة التي قرأها حاضرة في ذهني، ربما لصوته العجيب الذي كان يقتحمك اقتحاما، وربما لأن أبي على غير عادته اصطحبني معه إلى احد امكنته، الأمر الذي مثل لي أمنية عزيزة، وربما لأني قرأت القصة في أحد دفاتر جدي القديمة التي كان يعد مجالسه فيها مسبقا.

ولكن تفاصيل التعازي الأكثر حضورا في بالي من تلك الطفولة هي التي اصطحبني إليها الرجل الأكثر تأثيرا في حياتي؛ جدي لأمي الحاج صاحب إعبيد الزهيري، اثنين منها على الأقل، الأول مجلس آل المرعشي في بيت الشهيد المرعشي الذي تحول إلى مدرسة الآن مقابل جبل الحويش، أتذكر حديثا دار عن المياه وطهارتها بين جدي وآخرين احدهم شريك جدي السابق، وصديقه، الحاج محمد الأيرواني، عقب انقضاء التعزية، وكنا على سطح الدار في الصيف.

الثاني هو مجلس الحاج محمد الأيرواني ـ نفسه ـ في بيته بالحي الاشتراكي، حيث شاهدت للمرة الأولى رادودي الأزلي، عبد الرضا البغدادي، وهو يقرأ القصيدة التي يحرص أبي على سماعها دوما (اطفال ونساوين)، كانت صحبة جدي، وفخامة البيت، وعبد الرضا، مزيج لا يمكن لي نسيانه أبدا.

كان لابد لي من ذكر هذه التفاصيل، قبل أن اعرّج على ذكر تفاصيل أسرية أخرى، تشد لاوعيي إلى كربلاء، سرديات تاريخية تعصف بروحي مهما كبلتها قيود عقلي.

(4)

كتبت قبل سنتين تقريبا بطلب من صديق تولى رئاسة تحرير مجلة نجفية مقالا عن كربلاء، كان عنوانه (كربلاء في الشخصية العراقية) تتبعت فيه باختصار شديد، وبعاطفية ملحوظة ما أراه آثارا لكربلاء الحسين في الشخصية العراقية، كتبت ان ما فشلت الدولة في صنعه من ولاء، وقدرة على التضحية لوطن حاضر في نفوس مواطنيه، قامت به تضحيات الحسين بكل رصيده الديني، وشجاعته العظيمة، ورفع بكربلاء تلك روح التضحية لدى العراقيين، وكتبت ان كربلاء الحسين كانت حاضرة في نفوس العراقيين بطرق مختلفة، باختلاف العراقيين ومواقعهم الاجتماعية: يخافون منها، يحزنون لها، وانها صبغت حياتهم بالحزن بالاضافة لميراث الحزن الطويل الذي رافق هذه الأرض، حزن يتوهج في لهجتهم، ومفرداتها الحزينة، وتراكيبها الممتلئة بالوجع، وكتبت في الأخير ان كربلاء كانت بالنسبة للكثير من العراقيين الفجيعة؛ والعزاء عن الفجيعة في ذات الوقت، ثنائية الفقد المقدس التي تصبّر المرء على فقده الشخصي.

(5)

كانت جدتي لأبي رحمها الله من النساء اللواتي فقدن الكثير من ابنائهن الذكور في طفولتهم، ثم تزوجت جدي بعد ان ولد له عدة ذكور من زوجته الأولى، وولدت لها اثنتين من الاناث قبل أن يطل عمي محمد علي بولادته، ليجبر خاطرها ووعورة عيشتها تلك، وسط الشرائك، ووسط أبناء أب يكبر أولهم أصغر أبناءها بخمسة وأربعين عام.

وفي السابعة عشرة من العمر، أوائل السبعينات، كان عمي محمد علي قد قرر ان يذهب مشيا إلى كربلاء في اربعينية الحسين، ولم يعد من زيارته، فقد غرق في أحد الآبار المنتشرة على طول الطريق.

هنا، تتناقل الأسرة حادثاً تتداخل فيه الأسطورة بالواقع، فبعد ان وصل الخبر إلى النجف، انفلت كل فرد من الاسرة يبحث عن الغريق في مكان، إلا أمه، ركبت سيارة إلى كربلاء، وأوقفت السائق في نصف الطريق، نزلت وتوجهت مباشرة ـ بقلبها الذي يحفظ الطريق، بعين القلب كما يقول النواب ـ إلى الخيمة التي سُجّي فيها ولدها الغريق، وضعت رأسه في حجرها، ثم انخرطت تتلو قصيدة عبد الأمير الفتلاوي في رثاء القاسم بن الحسن، القصيدة التي تبدو لي أنها كتبت لكل أم عراقية مفجوعة بولدها، وليس لرملة، وولدها القاسم وحسب:

آه يبني شكول عليك آه يبني

دولبني زماني بيك دولبني

كان عبد الرضا الرادود واقفا هناك، فانخرط يقرأ القصيدة، والزوار يلطمون حول الجسد الغافي في حضن أمه، الحلم الذي غرق قبل ان يتجلى، وحتى اليوم، لا تسمع عمتي هذه القصيدة، إلا ومزقها الأسى والبكاء، وهي تندب القاسم، متعزية به عن أخيها الغريق، الذي مات أبوه حرقة عليه بعد أشهر، بعد ان فقد أخٌ آخر له قبل مدة، وتعزى عنه بالحسين، وتلك قصة أخرى، لا تقل أسطورية عن هذه.

(6)

كان جدي يقرأ في مجلس من مجالسه في البصرة في شهر محرم، بينما دهس أحد سواق السيارات الدليم الذين ينقلون (الرقي/ البطيخ الأحمر) إلى النجف عمي عبد الزهرة وهو طفل صغير، ليقتله.

فوجئت الأسرة بالأب يدخل صباحا إلى البيت قاطعا سفرته، وما أن دخل حتى سأل: من الذي مات من أولادي؟ وبين تعجبهم من سؤاله، ومحاولتهم الالتفاف قبل اخباره، قال لهم، كنت نائما، وجاءني الحسين في المنام، أنهضني من غفوة، ناولني كأسا من شراب وهو يلح علي أن أشربه، ولما أدنيته إلى فمي كان مراً كالصبر، فلم أقوَ سوى على شرب نصفه، لقد منحني الحسين الصبر، فأخبروني عمن مات من أولادي.

ولكن المفارقة ان ابنه الذي مات على طريق الحسين، لم يجد له من عزاء، فذهب على أثره سريعا.

(7)

لماذا اكتب هذه الكلمات الآن؟

ربما لأني لا أجد ما افعله سوى هذا، ربما لأني أمر بأكثر أوقاتي ضعفا، وربما لأن اليوم كان موجعا جدا لي، لأمر يخصني، لا أعرف بالضبط ما يدعوني لكتابة هذه الأسطر، ولكن ما أعرفه أنني حتى اللحظة، لا أكف عن استحضار جرعات الأسى الهائلة التي تلقيتها في هذه الأرض، من تاريخها، وعقائدها، وتراثها، وكربلاء وسط ذلك كله ذروة الحدث، الحدث الذي يمنعني من كتابة أي شيء عنه، لأنني لن أكون محايدا مع كل هذا الميراث العاطفي والخزين الذي عززه اليساريون ـ ما غيرهم ـ في روحي تجاه شهداء كربلاء وآل علي، ولأني وما أن يمر أمامي جثمان شاب ملفوف بالعلم الأكثر قسوة، علم وطني، إلا وصرخ جاسم النويني في أعماقي بقصيدة عبد الحسين أبو شبع:

جسام يا ضنوتي

رايح

رايح من عيوني