المحكمة الدولية وقضايا الإرهاب عند د. حكمت شبر.. بين محاكمة القيم المتعالية وتفسيراتها المحايثة

مدخل

لعل من نافلة القول ما صار للإرهاب من مساحة واسعة الحضور في الحياة الإنسانية، بعد أن ضربها في صميمها بمواضع كثيرة من المعمورة، حتى صار الشغل الشاغل للدول، والباحثين، ممن يحاولون فهم أصوله ومساربه، بحثا عن آليات مكافحته وإيقاف تمدده الخطر، فضلا عن تأثيره المباشر على حياة البشر الذين يضرب أراضيهم، وتداعياته الجسيمة على الحياة والتنمية ومستقبل الجنس البشري عموما.

وما يطرحه د. حكمت شبر في كتابه (المحكمة الدولية وقضايا الإرهاب.. العراق نموذجا) ــ الصادر عن دار العارف 2011 ــ وإن كان يعد جزءا من ذلك الاهتمام البحثي الدولي بهذا الشأن، إلا إن له ما يميزه في بابه ويمنحه فرادة في غاية الأهمية.

فالكتاب وإن تناول تطور قواعد القانون الدولي وما ترتب عليها من وظائف والتزامات قانونية، وما حدث من تطور في عمل المحكمة الدولية والمعاهدات الناظمة لها والمنطوية ضمن متونها القانونية، إلا أنه لم يقف عند هذا الحد المتعلق بالنص القانوني وتطوره، متجاوزا البحث في النصوص إلى تتبع منابعها الفقهية، ساعيا إلى تأصيل قواعد تتبع أصل الجريمة الإرهابية، وتعرية التعامل المزدوج مع المصطلح الواسع الذي حرصت الدول الكبرى على المتاجرة به عبر تعويمه، وإسباغ سعة نسبية عليه جعلت منه أداة من أدوات الاستراتيجية للدول الكبرى، بدلا من أن يكون جريمة واضحة المعالم تتيح معاقبة مرتكبها، وتتبع جذورها للقضاء عليها.

و أحسب ــ في الواقع ــ أنني لن أكون موّفقا إذا حاولت قراءة ــ  أو نقل ــ وجهة نظر سليمة عن موضوعة الفقه القانوني وتطور قواعده فيما يخص القانون الدولي الواردة في الكتاب في هذه العجالة، لاسيّما انها ليست من صميم تخصصي، ولكن الأمر المميز بهذا الكتاب والذي يمنح قارئه هدية كبرى هي ارتكازه على مجموعة من الحقول البحثية العلمية التي تتيح الاستفادة من عدة مقتربات في ذات الوقت، بين القانون والسياسة والفلسفة والاقتصاد.

رغم ذلك، فمن المهم جدا الإشارة إلى مذهب الدكتور حكمت شبر في طبيعة القانون الدولي، التي تتجاوز المذاهب المجردة التي تتعامل معه بوجه نظر أيديولوجية قاسية، متأثرة بالظروف الدولية الحرجة التي نشأت ضمنها قواعد القانون الدولي، والتي خضعت بدرجة كبيرة إلى مصالح الدول الكبرى، وطبيعة صراع المصالح بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

الصراع الذي قاد لأن تعرقل عملية نشوء قواعد عادلة، تنصرف إلى علاج مشاكل العالم المختلفة، مما صار يشغل الرأي العالمي اليوم، كالتلوث، والتصحر، وعلاقة ذلك بالاحتباس الحراري، وهي أمور وقفت مصالح الدول الكبرى كعقبة في سبيل تغطيتها من قبل القانون الدولي ((لأن قواعده تعبر عن التنسيق بين المصالح المتناقضة وليس على الفرض القسري المدعوم بقوة الأجهزة التي نراها في القوانين الداخلية، لذا فأرى أن القانون الدولي هو قانون تنسيق بين مصالح الدول وليس قانون فرض على الدول وفي مثل هذه الظروف الموضوعية والتاريخية غير المواتية لتطوير قواعد تقدمية تخدم الإنسانية، نشأت وتطورت القواعد الخاصة بالمحاكم الجنائية الدولية، التي كانت وما زالت ضعيفة لا تلبي مصالح الشعوب في السلم والأمن والحماية من العدوان)).

وهذا الرأي يوّضح بدرجة كبيرة مدى خضوع القواعد الدولية التي يتعلق بعضها بقضايا الإرهاب لمزاج الدول الكبرى، ومدى رغبتها بالالتزام بروح النصوص القانونية، أو تفسيرها بمزاجها، والكيل بمكيالين، خصوصا اننا نتعامل مع منظومة سلوك جرمي أساسه فكري، ومحاكمته ستتطلب بطريقة أو بأخرى العودة إلى الجذور القيمية المؤسسة للإرهاب القادم من العالم الإسلامي، وبثوب يراد له أن يوصف بأنه الإسلام.

ولهذا، فإن ما أود حقا أن أركز عليه بعجالة قد تكون مخلة ــ حرصا على أن تلزم القارئ بالاستزادة من الكتاب نفسه ــ هو ما تضمنه الفصل الأول من الكتاب، الذي انصرف إلى تقديم تمييز دقيق بين الإرهاب والإسلام، وتتبع التراث القرآني والحديثي بما يتيح درء التهمة التي يحاول البعض إلصاقها بالاسلام وتحميله مسؤولية الإرهاب كاملة، بتجاهل تام لقاعدة أساسية في البحث العلمي والتفكير الفلسفي بشأن الأديان بوصفها قيما جمعية، وهو انقسام هذا العنوان الواسع ـ الدين ـ إلى نص متعالي يتضمن ـ في الحالة الإسلامية ـ القرآن الكريم الذي كان بصورة عامة مجملاً، حمّال أوجه، والنص المحايث الذي يتضمن بدوره التراث الإنساني المفسِّر للنص المحايث، وقد يكون حديثا نبويا أو اجتهادا فقهيا، أو تأويلا سياسيا اتخذ من النص المتعالي وسيلة للوصول إلى السلطة الدنيوية المتناقضة بطبيعتها مع المثالية التي ينطوي عليها النص المتعالي، وهو ما سأحاول إمساكه في كتاب د. حكمت شبّر ضمن العناوين التالية.

أولا: تاريخية التطرف، وامتداده المعاصر، بين الحكام المسلمين، والمخابرات الدولية.

يتساءل د. شبر في مقدمة الفصل المعني قائلا: (كيف تمكن أعداء الإسلام من حكومات وإرهابيين من استخدام الإسلام لترهيب مختلف الشعوب والدول في العالم؟ هذا الدين المعروف بسماحته وتكريسه المحبة والوئام بين بني البشر)، مستدلا بالآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .

وهو يعود بقارئه إلى التاريخ الإسلامي، متتبعا الطريقة البشعة التي استخدم بها حكام الدول الإسلامية المبكرة الإسلام بطريقة تنافي روحه، مشخصا مسؤولية الفقهاء الذين ((خدموا العروش)) وعملوا على لَيّ النصوص لإصدار فتاوى تمنح العروش شرعية مقدسة، وهو ما شكل استنزافا خطيرا جرّد قدسية الفكرة المتعالية، ومنحها للدولة المحايثة، الدولة التي صارت تستخدم الإسلام لتبرير بطشها، وحمايته بتابوهات ابتكرها الفقهاء، وأسسوا بها للاستبداد والإرهاب الإسلامي.

كما لا يفوته التعرض لاستخدام القوى الكبرى اليوم لذات التراث المأزوم، وعمل الولايات المتحدة على استخدام التراث الإسلامي المتطرف والنصوص المؤسسة له في حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق، ويذكر في هذا الموضع المؤتمر الذي أقامته الولايات المتحدة بعنوان المثل العليا في الاسلام في مدينة بحمدون اللبنانية عام 1954، ودعوتها للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء للاشتراك بالمؤتمر، ولكن الشيخ فهم اللعبة؛ وتصدى للمؤتمر ومن يقف خلفه بذكاء، وأصدر رسالته المعروفة (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون)، التي عرّى فيها النوايا الأمريكية، وإرهابها، وكيلها بمكيالين.

وبالرغم من أن المؤلف تعرض لنماذج من رجال الدين المتطرفين في العصر الحديث، وبيّن أثرهم الضار على الإسلام واستخدامهم للنصوص بعدوانية أولدت تفسيرات تبيح القتل والمجازر القائمة على مزيج من النص المتطرف والقيم البدوية، بدعم من السعودية التي نشرت التفسير الوهابي المتطرف في العالم مستغلة الثروة التي تمتلكها، بالرغم من ذلك، فقد حرص على أن يتناول نماذج مشرقة تقف بالضد من هؤلاء، من الذي قارعوا الاستعمار، وحرصوا على فهم مقاصد الدين، وربط النصوص بروحها وفكرتها، لا بتاريخيتها، وهو ما سيتضح في الفقرة التالية.

ثانيا: تنزيه المتعالي وتحديد الغرض منه ـ روح النص ـ

يقدم المؤلف في هذا الجانب ملاحظات فائقة الأهمية، أولها الإشارة إلى أن (الأصولية الاسلامية) التي لا تعترف بأي وجود للآخر، سواء كان مسلما مختلفا معها بالمذهب، أو من دين مختلف تتحرك في فهمها هذا من أسس باطلة ولا تنتمي إلى الإسلام الحقيقي.

هذا الإلغاء الديني الذي لم يقتصر على الفرق الإسلامية المخالفة لها وحسب، وهو ما قد يجد مبررا فقهيا له في تراث مأزوم، بعكس النصوص الواضحة التي حددت كيفية التعامل مع أهل الكتاب من الديانات السماوية الأخرى بالحسنى والاحترام، وهو ما تطرق له حريصا على أن لا يفوته التأكيد على خصيصة تتعلق بالمجتمعات الشرقية، والعربية منها بوجه خاص، وهو استحالة الفصل بين ((ما هو مسيحي عما هو إسلامي في تكويننا)) مشددا على الامتزاج الشديد للعنوانين في نفوس شعوب المنطقة.

ولكي يقدم تأصيلا لمنبع هذه الفكرة، ويتتبع جذرها الذي حرّض على هذه الإقصائية؛ فإنه هنا يتلمس ما للبيئة الصحراوية القاسية من أثر أنتج هذا التفسير الإقصائي، مستحضرا نصوصا تاريخية لمن عاصر حقبة مظلمة من تأسيس الدولة السعودية الحاضرة، عبر ذكره لما كتبه أمين الريحاني، وما سبقه من مجازر وقعت في نجد والحجاز والعراق على أيديهم بعقلية الغزو والسلب البدوية، وهي القيم المحايثة التي أسبغها التفسير الوهابي المتطرف على النص المتعالي الإسلامي.

وللتدليل على هذا، يذكر مجموعة من النصوص القرآنية التي تعزز فكرته التي طرحها قائلا: ((إن الأعمال الإجرامية التي ارتكبها وما يزال يرتكبها التكفيريون لا مكان لها في الشريعة والدين الإسلامي فقد جاء هذا الدين الحنيف لإصلاح البشر ونشر الحب والتآلف بين مختلف الشعوب))، ثم يسترسل بذكر آيات كريمة تحرّم القتل، كقوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) كما يتلمس ما جاء به الدين المحمدي من تأكيد على حرية المعتقد، كقوله تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ).

وبالجملة فإن الفكرة التي جعلتها عنوانا لهذه الفقرة ظاهرة جدا في هذا الفصل، وازعم ان د. شبّر قد تميّز في إظهارها، ونجح في الفصل بين المتعالي المقدس، والمحايث الملتبس، مما يؤسس لإمكانية محاكمة الأصل السيئ للإرهاب كفكرة دون المساس بصميم الدين الإسلامي.

 ثالثا: الفصل بين التطبيق التاريخي والحكم المتعالي.

يفنّد في هذا السياق مُسَلّمة أساسية تستهلكها الجماعات الإرهابية المتلبسة بالإسلام، كما تستخدمها القوى الدولية في استراتيجيتها التفتيتية في المنطقة، ومهاجمو الاسلام، كلهم ـ ويا للغرابة! ـ على حد سواء، أعني بها آيات السيف.

حيث يذهب د. شبّر إلى أنه ((ليس هناك آيات سيف كما يدعون، بل آيات تبيح؛ أو تدعوا إلى قتال مشركي مكة، الذين كان المسلمون قد دخلوا معهم في حرب مضطرين تحت تهديد التصفية بالقتل، بعد أن طُردوا من ديارهم ومن بينهم الرسول (ص)))، ويشدد على أن الحروب التي خاضها المسلمون زمن الرسول كانت حروب دفاع عن النفس، لا حروب عدوان، ويستدل على هذا بالطريقة السلمية التي فتحت بها مكة لاحقا، والتي كانت خالية من روح الانتقام، ويتذكر القارئ في هذا الموضع ما سبق أن مهد له المؤلف وتناولناه في هذه السطور تحت عنوان تاريخية التطرف، حيث ينزّه المؤلف عصر الوحي من الوحشية التي تلت انقطاعه بوفاة الرسول، أي خضوع النص المتعالي إلى التفسير المحايث، وهو ما ولّد هذه الكوارث.

ويستطرد هنا ليبين ان القرآن الكريم أناط عقوبة الكفر بالله بالحساب الأخروي، ولم يتح للمسلمين ان يمارسوا هذا الدور في الحياة الدنيا كما يزعم التكفيريون، كقوله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ).

ويستخلص القارئ في النهاية أن محاولة هذه الجماعات المتوحشة الادعاء بأنها تطبق حكم الله، لا يعدو كونه اعتداءا على حرمات الله، وما خصّ به نفسه من إيقاع العقوبات على خلقه، وان سلوكياتها تنافي الكثير من النصوص الصريحة فضلا عن جوهر الدين، وما جاء به من أحكام سمحة همها الحياة والإنسان بالدرجة الأولى.

خاتمة

إن أي جهد لإيجاد قواعد قانونية تستند عليها المحكمة الدولية في علاج موضوع شائك عسير المسارب مثل الإرهاب لابد ان يأخذ بحسبانه العودة إلى جذر المشكلة، وتتبع الأصول الفكرية المؤسسة لها، والتي تعتمد الأفكار الإرهابية على سردياتها التاريخية، وفيما يخص الإرهاب الذي تمارسه منظمات إسلامية متطرفة فإن الأمر يتعلق بدرجة كبيرة بمراجعة النصوص الإسلامية، والفصل بينها وبين الإسلام بوصفه منظومة قيمية؛ يراد بها سعادة الانسان وحفظ حياته بالدرجة الأولى، وأن أي تفسير للمجمل الغامض من تلك النصوص لابد ان ينطلق من هذه الفكرة تحديدا، والتفسيرات المتوحشة لا تعود للإسلام، ويجب الفصل بينها وبينه، واستخدام ذات النصوص المتعالية السمحة لمحاكمة تلك التفسيرات الباطلة.

وهذا ما أجد أن الدكتور حكمت شبر جهد أن يبحثه في هذا الكتاب، وعرضه بصورة علمية رشيقة تفيد القارئ الراغب بفهم حقيقة ما يدور في المنطقة بيسر، والباحث المتعمق بالبحث عن جذور المشاكل لإيجاد حلول لها معا.

(مراجعة كتبت لتكون ضمن الكتاب التذكاري الذي سيصدر عن أ. د. حكمت شبر، أستاذ القانون الدولي في الجامعات العراقية، والأستاذ الزائر في جامعة كامبريدج)

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.