(1)
في الظروف الطبيعية، حينما لا تكون الحروب قد سلبت النظام الاجتماعي ـ وحدات النظام ـ اتساقها، ولا يكون هناك حاكم دموي يصادر آمال الناس ويستنزف ألفتهم، أو معتوه يؤمن بضرورة سفك الدماء قربانا لفكرة يراها مقدسة، وحين تنفذ العائلة من كل هذه المصائد ـ وهي مصائد صميمة في حياة كل أسرة عراقية ـ في مثل تلك الظروف، فإن وجه أول رجل يألفه الطفل يكون وجه أبيه، ربما اخوته من بعده، ثم وجوه اصدقاء والده، وفي الحروب والمعتقلات والمعارك العقائدية التي نفذ أبي منها سالما بجلده، وقد حرثت في روحه حقولا من الأسى لمّا تنمحي، فإني تعرفت على وجوه أصدقائه صغيرا، أنا ابنه البكر، وهو وحيد أمه، أبي من أعنيه، فكنت انتقل بين أذرعهم، تداعبني ابتسامات المحبة المنثالة من وجوههم التي أرهقتها الحروب، وأضناها العمل الشاق، وأنهكها الحزن، والوجل.
(2)
خضير جلعوط، قلها بملئ فمك، وأطلقها كقذيفة مدفع، في العراق، لا نلفظ الاسم كما هو في الفصحى، أعني (خُضَيْر)، بل نقول (إخْضَّيِّر) نكسر الألف، ونسكن الخاء، ثم نفخم الضاد والياء إلى آخر المدى، ونطلقه، رصاصة مسرعة ثابتة، وبالنسبة لأبي الياس ـ كل خضير عندنا مرتبط باسم خضر الياس، فنقول لمن اسمه ياس: ابو خضير، ومن اسمه خضير: ابو الياس ـ بالنسبة له، فإن قوة اسمه مرتبطة بقوة اسم جده الذي اتخذته العائلة لقبا ـ اسم ابيه: تركي ـ نقول: خضير جلعوط، فتشعر أن للاسم وقعا، وجرسا، ومهابة، وحين تتفرس في وجه صاحبه، الأسمر، حاد الملامح، بشاربه الرفيع، وعينه الخازرة ـ يخفض حاجبه بطبيعته لا تكلفا ـ بذقنه البارز نحوك، وعيناه المقتحمتان، ينزل من مقعد السائق في سيارته طراز (OM)، ثم من سيارته (التريلة) طراز (مرسيدس اكتروس) التي نسميها في العراق: (ألبي)، حين تشاهده، بدشداشته الزبدة، وكفه الغليظ، مقرونا باسمه العاصف، تقول في نفسك: إن هذا لرجل صعب، شديد، قوي الشكيمة، مهاب الجانب، وهكذا كان.
(3)
يرتبط وجهه في ذاكرتي بصورتين أساسيتين، طفل، يحدق هو في وجهي مركزا، يستمع لي، ربما كنت أسأله، ربما كان يحدق بوجه ابن صاحبه، الذي يرتبط معه بصلة نسب ـ جده، خال جدي، لهذا كان أبي يضايقه مازحا بمناداته: خالي ـ لا اذكر لماذا كان ينظر لي، وقد خفض حاجبه الأيسر، مركزا في وجهي، بملامح ساكنة، لا تعبير في وجهه سوى التماعة في العين، لعلها فيض من المحبة الخبيئة خلف هذا الوجه ذل الملامح الصلدة.
أما الصورة الثانية فقد كتبتها قبل سنوات وأنا استعيد ملامح مدينتي التي ابتعدت عني، استذكر صور من أحبهم واحدا فواحد، والأماكن التي شغفتني وقد صارت طللا، أثر يتلو أثر، كنت اتحدث عن (سبيل عمران) المنصوب على السور، قرب بيتنا في طرف البراق، كتبت:
(وأغرب ما علق بذاكرتي عن ذلك السبيل أنني طوال عمري لم أشاهد أحدا يضع الثلج فيه، إلا مرة واحدة، شاهدت من بعيد (خضير جلعوط) صديق أبي الحميم ومعه صديق آخر لا أتذكره اليوم، فتحا غطاء السبيل، وأخذا يكدسان قوالب الثلج في جوفه، ثم أحضرا بطانية ثقيلة، ولفا بها الثلج، لتزداد حيرتي، كيف يُلف الثلج بهذه القذارة ويفترض بنا أن نشربه، كنت متحيرا، فذهبت لأتساءل، لا أذكر أذا كان أبو حيدر (خضير جلعوط) هو من رفعني لأستكشف داخل السبيل أم رفيقه، بل أني لا أذكر إذا كنت قد رفعت غطائه مستكشفا بنفسي أم أن ابو حيدر هو من وضّح لي الأمور، لكن الحيرة تبددت ساعتها، واكتشفت أن نظام مياه السبيل الأسطوري ما هو إلا أنبوب حديدي طويل، التوى على نفسه مرارا وتكرارا، حتى غدا كجوف الإنسان، كأمعائه الملتفة على نفسها، تديم حياته ما بقيت نشطة الالتفاف، وأن الثلج المكدس فيها يعمل على تبريد الانابيب، والمياه تسري فيها، فتخرج مثلجة تبل عطش الشاربين).
بهذه الكيفية، ارتبطت صورته في ذاكرتي، يقوم بالمهمة الأقدس في محيطه الاجتماعي: سقاية المياه للظامئين، تقربا للقتيل الظامئ قبل ألف ونصف الألف من السنين، النابض في صدور هؤلاء العراقيين ما بقوا.
(3)
كان واحدا من أبطال طفولتي، بصوته المجلجل، بالنكتة الحاضرة التي تجتاح وجهه بضحكة تطفو فوق قسوة السنين على محياه، حتى تضيق لها عيناه، وتشعر معها أنه يضحك من جوفه، كأنه لم يضحك من قبل، كأنه بحاجة ماسة للضحك كغريق يلاحق الهواء النزر من حوله، يرفع كتفيه العريضين حتى يقاربا رأسه، ثم يسكت، ويستعيد وجهه تلك الصرامة الحزينة، قبل ان يطلق نكتة اخرى، وحديث آخر.
(4)
كان يخب بمشية (الأشقيائية) القدامى، يرقص شعره الرمادي مذ وعيت عليه، وقد باعد رسغيه عن بدنه، ولوح بهما يمينا وشمالا مع خطوه الوئيد، وجسمه الرشيق، لا ادري لماذا علق بمخيلتي أنه كان يمشي خفيض الرأس، على الرغم من مشيته الفخورة المقتحمة المنذرة بجرأته وشجاعته، لا أدري لماذا.
(5)
كل من عرفه يدري أن هذا الشجاع لم يؤذ أحد يوما، ولم يغدر بأحد، ولم يقصر في نجدة قريب أو بعيد، ولم يخن أمانة، أو يعتدي على ضعيف، كان أريحيا، أبو نخوة كما نقول هنا، جرّب أن تطلب منه شيئا، وستجده يهب كصقر لعونك، كان وفيا، أمينا، طيب القلب، صافي السريرة، بدأ شبابه كما بدأه مجايلوه، وأنهاه كما قلت عنه، بأوبة إلى ربه، بيقين وتسليم، ورضا صرت أحسد كل من نزل في قلبه مثل ذلك الرضا والتسليم.
(6)
لم يتزوج، بقي مع أمه وأخته يرعاهما، ثم أخذ ابن أخيه عبد، حيدر الجميل الأشقر، وقام بتربيته كأنه ابنه، فكنا لا نناديه إلا (أبو حيدر)، وكان حيدر إذا تحدث وقال أبي دون إضافة فهو يعني عمه خضير، وإذا أراد التخصيص قال: أبويه عبد، وآخر أمره، كتب بيته وسيارته باسم حيدر، ولده الذي ربّاه وعلمه وصار رفيقه وصديقه في حله وترحاله، يصحبه حيث ذهب، يشتري له الجديد من الملبس قبل أن يشتري لنفسه، ويعده ليتكأ عليه في شيخوخته.
(7)
هذه الوجوه، هؤلاء الاشخاص، صورة طفولتي، النجوم التي غمرتني بالضوء صغيرا، كنت أشعر بالأمن لرؤيتهم قربي، كانوا طمأنينة لي، ظل نشأت في برده، الندى الذي بلل هجير هذه الأرض، وهوّن أيامي فيها، وجنّب الطفل الذي كنته التعرف المبكر على قسوتها، كلما غاب وجه منهم، شعرت بثلم في الروح، ووجع يغرز جذره عميقا في ذاكرتي، ليستمر في النمو كنبت شيطاني، تسقيه هذه الارض وتتعهده بالغذاء كل ساعة.
(8)
عمي ابو حيدر، سمعت برحلتك الأخيرة أيها السائق المترحل، إلى مستقرك الأبدي، وأنا في بغداد، بعيد عن الدار والديار، لا أذكر متى رأيتك آخر، مرة، لكنني أعرف أنني سأفتقدك ما حييت، متذكرا صوتك الجهوري المجلجل مرحبا بابن صاحبك: هله عمي علاوي.
وداعة الله ابو حيدر.
لذكرى العم أبو حيدر، خضير تركي جلعوط، جار العمر في طرف البراق، صديق أبي، وقريبي الذي توفي يوم السبت، 27/ 6/ 2020، في النجف، فضلت وضع صورة له وهو في أوج عافيته، صورته آخر ايامه، بالعقال، بعينين غائرتين، ووجه غائم بالقلق والحزن، وبعصا في يده يتوكأ عليها تؤلمني رؤيتها..
29/ 6/ 2020