أرشيفات التصنيف: أخوانيات

هيثم حميِّد… ثلم في الذاكرة

 

علي المعموري

يبدو وكأن الموت يصر أن يذكرنا ـ وبطرق عدة ـ أنه يختطف حين يهجم واسطة العقد ـ أو عين القلادة بالتعبير العراقي الدارج ـ وها هو يضرب قريبٌ للروح فجأة، بعد أن عجز عنه قبل عشرين، عاد له مرة ثانية ليختطفه بمرض أشد من الأول، كأنه يريد أن يبين رغبته الشديدة في اختطافه بالمرض لا بسواه.

عرفته أول مرة منتصف التسعينات، رغم أن أسرته بيت حميد (تلفظ هكذا إحْمَيِّد، دون تفخيم للميم كما يتبادر للذهن) الخزاعيين قد جاورت أسرتي ـ بيت مظلوم المعامرة ـ في طرف البراق في النجف منذ القدم، لكن والده  المرحوم كاظم حميد ـ الذي امتهن الخياطة على عكس بقية أسرته ـ كان قد انتقل في وقت مبكر سبق ولادتي إلى حي الصحة قرب الأسواق المركزية على شارع الكوفة العام.

منتصف التسعينات، كان هيثم قد تجاوز الثلاثين قليلا، ورغم أنه قد أجرى في شبابه الباكر عملية غسيل كلوي خطرة كانت آثار الأنابيب التي امتدت من أجلها عبر جسده واضحة، ثلاثة ثقوب غائرة في خاصرته، كأنها طعنات رمح تخترق جلده الأسمر، تلفت النظر له قبل أي شيء لمن يدخل إلى مشغله، ليجده منكبا على التصميم، في حرارة لاهبة والكهرباء مقطوع تجبره على أن يخلع ملابسه.

في تلك السنين، انتقل هيثم بمعمله الصغير إلى منزل فارغ يملكه جارنا المرحوم أبو رشيد غانم حمد الجمالي في (عكدنا) في طرف البراق، عاد هيثم إلى مهنة أسرته مخالفا مهنة أبيه، بعد أن درس التصميم في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، وانفتل ليؤسس عملا ناجحا في سنوات الحصار التي أغلقت حدود العراق، وأجبرت العراقيين على أن يرتبوا معايشهم وحاجاتهم بأي طريقة، كان معملا لصناعة الأحذية والأخفاف النسائية من الجلد، يصمم هيثم بضاعته بنفسه ويشحنها إلى بغداد، كان معمل صغير، نموذج للمشاريع الأسرية، يقوم أخوه الأكبر أبو دعاء ـ المعلم المثابر ـ بخياطة ما يحتاج إلى الخياطة بالماكنة الكهربائية في مشروع أخوه في الغرفة العلوية للمنزل، بينما يكبس عباس أخوه الثاني ما يقوم هيثم بتصميمه وتفصيله من رولات الجلد الكبيرة المسندة جنبه، وفي الصيف يعاونه أبناء شقيقاته، ثم عمل أخي الأصغر معهم لفترة قصيرة.

شخصية هيثم مختلفة عن بقية ابناء جيله من أسرته الكريمة، لأنه أكمل تعليمه في بغداد، فتغير مزاجه، وتبدلت طباعه، وصار أكثر حركية من غيره، كان أصغر أخوته جميعا، ولكنه كان لولبهم، دراسته في كلية الفنون الجميلة جعلته مرهفا، يتتبع من الموسيقى أجملها رغم التزامه الديني الذي فاق بقية أسرته، يقرأ بشغف، وكنتُ أنا، الطفل الذي جاوز العاشرة، اقضي جزء من الوقت في معمله الصغير، اساجله فيما أقرأه بمجلة العربي، سألني مرة من هو الموسيقي المفضل لديك فقلت له بيتهوفن، كنت وقتها لم أسمع أي موسيقى لبيتهوفن، ولكني قرأت عنه في العربي كثيرا، قال لي أنه يفضل ياني، ولم أكن سمعت لهذا الأشعث أيضا، ولم أتصور أنني بعد عشرين عام على تلك الواقعة سيعود بيتهوفن ليغدو الموسيقي المفضل عندي، كأنني على موعد معه، ومع هيثم الشاب البهي، الضاحك أبدا، ذي الشعر الأشيب على عادة أسرته التي تشيب رؤوس رجالها مبكراً.

آخر مرة تكلمت فيها معه كانت قبل ثلاث سنوات، كنت لم أقبل في كليتي لدراسة الماجستير بعد أو أني كنت قبلت لتوي، التقيته في فاتحة ـ مجلس عزاء ـ لوالدة أحد الأصدقاء، سألني إذا ما كنت قد بدأت بممارسة التحليل السياسي وهو يعني في الصحف والتلفزيون، قلت له انني أبعد الناس عن الرغبة في التلفزيون ووسائل الإعلام، فقال لي لا، انا اعرف انك مؤهل نفسيا ومعرفيا لهذا، وانتظر على أحر من الجمر أن أراك تبدأ بهذا العمل، انت ممتاز وأريد أن أفرح برؤيتك في مثل هذا العمل، وافترقنا، رأيته مرة ثانية قبل سنة تقريبا في مسجد جامعة النجف الدينية، كان منهمك في الصلاة، ولم أكن وحدي، حاولت انتظاره لأكلمه قليلا ولكن أصدقائي كانوا يريدون المغادرة، وبدا أنه منهمك بخشوع في صلاته ولن ينتهي قريبا.

وقبل شهرين تقريبا، جائني طلب صداقة في الفيسبوك، دخلت وإذا به هيثم القريب للقلب، الذي أصغى لي كما لم يصغ لأحد سواي، وكما لم يكن أي أحد آخر دونه في الثقافة وحسن الخلق ليصغي لطفل مثلي، وفرحت لأنني تواصلت مع محاوري القديم، كما لم أفرح بلقاء بأي لقاء فيسبوكي بواحد ممن عرفتهم في طفولتي في طرف البراق، وحده هيثم كان استثنائيا.

يا لحسرتي عليك أيها المرتحل عليلا، يا لحزني عليك، وعلى أسرتك، على أخوتك الذين وقفوا في الفاتحة مذهولين وكأنهم فقدوا عماد خيمتهم لا أخاهم الأصغر.

فاتحتك مكتظة بأهل النجف، وجوههم مثل وجوه أهلك، بانت عليها الخسارة، وشباب أسرتك اعتصرتهم الحسرة واتشحوا بالسواد.

أي كلمات نقولها في رثاء من نحب؟ وأي عاطفة يمكن أن تسد الثلم الذي أحدثه فراقهم في الذاكرة؟

كل الكلام لا قيمة له أمام رهبة الموت.