عن الأشياء الجميلة التي تذهب عنك الغضب

لماذا تحزن؟

ما الذي يصيبك بالضيق؟

حسنا، لعلي آخر من يمكن أن يواسيك، أو يعطيك نصيحة في موضوع الحزن، أو الضيق، لأنني متضايق دائما، حزينا أبدا.

لكنني أعرف أن هناك أشياء جميلة يجب أن لا تغضب وأن لا تحزن، لمجرد وجودها من حولك.

الأشجار التي تحتضن آخر الليل صغار العصافير، نخيل البرحي، أشجار السدر، التي تحب البلابل أن تأوي إليها، فيها سكن لها، وطعام حلو.

هل أنت حزين؟

قم وقبل وجه أمك، عاند أباك، ناكف أخوتك، اتصل بأصدقائك، اذهبوا إلى مقهى، اشتموا بعضكم بدفء حميم.

انظر إلى كل ما حولك، انزلاق الأبواب في سككها، الصوت الذي ينبعث من انتظام سيرها، الملابس المغسولة التي يلوحها الهواء، فتنثر قطرات من الماء البارد على وجهك وأنت تمر من تحتها ذاهبا إلى عملك.

كل ما حولك يحمل في ذاته جمال.

قميصك الجديد، الذي كوته أمك، أو حبيبتك، أو تذكرت بنفسك أن تكويه صباحا، رغم أنك صحوت متأخرا، فقمت بالتضحية بإفطارك في سبيل أن تهندم نفسك.

الجميلات، كل النساء جميلات، يصحون مبكرات، يهندمن أنفسهن كي تطالع وجوههن الجميلة أول يومك، اللواتي يتجملن، ويتغنجن، ويتحجبن، ويسفرن، كي يلملمن شتات أرواحنا، اللواتي يرممن ما نخربه كل يوم، ويتداركن ما نخطأ فيه كل ساعة، يلقين بالجمال على كل ما نقبحه بسلوكنا، ويكبحن جموحنا وجنوننا، تداوي ايديهن الحانية جروح حروبنا، وخساراتنا، وخيباتنا المزمنة، ويكون همهن في الحياة أن نعبر هوّاتنا، يجزن بنا الجسر تلو الجسر.

كعوبهن العالية تضرب الرصيف، فتدهم موسيقاهن أروحنا بزوبعة تطير بنا عاليا، يصررن على لبسها رغم تورم أقدامهن، وآلام أربطتهن، لكي يرسلن في أرواحنا السعادة، عن أحذيتهن الـ(فلات) يخطرن بها عند الظهيرة، يجلبن الخبز الحار والسمك والخضروات الطرية.

عطورهن التي تسبقهن معلنة مقدمهن، وتلحقهن وهن يمرقن بك مياسات تتبع خطاهن، فتحير من يضع من، هن أم العطور؟

أطفالهن، يطلقون الضحكة تلو الضحكة تملأ أيامنا نحن الرجال العابرون بالجذل والشغف.

صوت الريح وهي تمر بين البنايات، تداعب حوافها الحادة، تحرك الأغصان في الشجر المغروس قديما بين تلك البنايات، تنقل البذار من شجرة إلى أخرى، تسقط الورق اليابس متيحة للحياة أن تستمر، تداعب النوافذ، كأنها أمك تحاول أن تصفر لك في مهدك، فتفشل، مطلقة مزيج من الحب والهواء المنغم، فتكتفي بتقبيلك لتضحك.

شعر الجواهري ومظفر النواب وعريان السيد خلف.

أصدقائك، الذين تهاتفهم في أي وقت تشاء، الذين تدخل عليهم الخاص دون أن تضطر للسلام.

غرفتك، بيتك، عاداتك الصغيرة التي تبثها الشكوى وتبثك السعادة.

الأشياء التي تزدحم في طريقك إلى العمل:

الأبواب المصبوغة حديثا، الأبواب القديمة، الشبابيك نصف الموصدة، والستائر التي تهتز خلفها، الطريق المرشوش أول الصبح طلبا للرزق، و(الخواتين) يحملن صحون الـ(قيمر) وأكياس الصمون الحار.

السيارات المرصوفة في زقاقكم الضيق، وبقايا البناء، الرصيف بمقرنصه المكسور.

أصوات الباعة الذين ينادون على بضائعهم الرخيصة، قانعين برزقهم القليل، وبيتهم الدافئ، وأفواه اطفالهم الممتلئة بالطعام، ونسائهم بالأثواب الـ(كودري) الرخيصة.

سواق الـ(كيات) وهم يهزون أيديهم يمينا وشمالا، يخبرونك بوجهتهم عبر لغة الإشارة هذه، يتوقفون لأجلك حيث تشاء إذا هممت بالركوب، ويقلبون سحنتهم إذا هممت بالنزول، دون ان يختلف مزاجك، لأنك تعرف أن هذا هو مزاج العراقيين المتوتر دائما.

الجيش والشرطة ورجال المرور، يلوحون أذرعهم، يستعجلونك بالمسير، يحاولون أن يشعروك بالأمن، وأنهم مسيطرون، رغم أنك وأنهم تعرفون حجم هذا الوهم.

الذين ينصحونك لكي تتشدد  في الدين، والذين ينصحونك لكي تترك كل ما يخبرك به أهل الدين.

أسراف الجميع في (الشح والندى) كما يقول الجواهري.

الشوارع الممتلئة، والشوارع الفارغة، التي تحتضن البيوت القديمة، وتقبل ساكنيها.

الحياة التي تجري سريعا، وتذوب سريعا، التي تطوح بك ذات الخبب، تسير بك (صلياً) حتى توقظك ذات يوم، مدرك بأن لا شيء يستحق ان تردم بسببه ذلك الركن الركين في روحك، الذي اختصك به الله لتجعله مستودع للأشياء الجميلة، تنزوي فيه بمفردك، مستطلعا وجوه من تحب، وأسماء من تود، تستعرض فيه صور الأشياء الجميلة، والكلمات البهية، والكتب الجيدة، والشاي الفاخر، وأقلام الباركر والشيفر، والقصب الفارسي المبري الذي خططت به اسمها ذات مرة، خواتمك الفضة، وعلب السجائر المعدنية التي دخنت ما في جوفها لأجلها، كتابك الأول، ومرتبك الأول، وكل الأشياء الأولى التي صيرتك ذات لحظة ملكا أمام ذاتك، كلها تزدحم من حولك، وأنت في كرسي هزاز، في مساحة لا تتسع لأكثر من كرسيك الذي احتضنك، الأشياء التي تزدحم مثل خيوط سجادة آذرية، تحتاج إلى أن تبتعد عنها لتدرك حجم الجمال الكامن فيها، وصدى صوت ياس خضر يغني لمظفر النواب:

يا حلم، يا مامش بمامش

طبع ﮔلبي من اطباعك ذهب

[الصورة: جناح العرائس في مركز حيدر علييف، باكو، آذربيجان، بعدستي]