في استحضار وديعة الطريق

(1)

لا زلت استعيد ذلك الطفل، اذكر أبي بشكل جيد في مثل هذه الأيام مطلع تسعينات القرن الماضي، دشداشة رصاصية، ويشماغ أحمر حول عنقه، يلف عبائته الوبر البنية الفاتحة تحت ذراعه، تُجهز امي وعمتي طعام رحلته السرية نحو المحبوب القتيل، خبز من يدي جدتي، بيض مسلوق، طماطم وبعض الفجل، يقمن بلفهن بحرص، لف الطفل في قماطه، يحمل أبي الكيس، ويخرج متخفيا، قاصدا كربلاء مشيا على قدميه، بيادة، بين ظلال النخيل، بعيد عن الأعين المتوثبة لاعتقال كل من يجرؤ على المسير، وأنا، الطفل المطمئن لما يسمعه من أهله، أحلم أن أكون معه ذات يوم، ابديت رغبتي وقتها برفقته، بشجاعة لم أعهدها يوما معه، لا قديما، ولا اليوم، فكان الرفض القاطع الخائف جوابي، إذا ذهبت أذهب وحدي، لا يعتقل طفل معي، وبقي الحلم غض لسنوات طوال مرهقة بعدها، سنوات طويلة، لم يأزف تحقيقه حتى صرت شابا ناهزت العشرين، وحتى امتلأ الطريق عام 2003 بالناس، يمشون جهارا لا يتسترون ولا يتخذون طريق أبي القديم، تحت ظلال عماته نخلات الفرات.

(2)

أيها السائرون رويدا، “خففوا الوطء”

هذا الطريق مفروش بقلبي

الذكريات الطرية

والنوايا البريئة التي كانت تغتسل بالصدق

الأحلام التي كانت تحمل آمالا عراض

ووعود بسعادة الدارين

نية نظيفة

ورجاء بعيد لا ينطفئ ضوؤه، أو هكذا ظننت تلك السنوات

تلك الليالي المتسترة الخائفة، كانت تحمل ظنونا عطرة، كلها طمأنينة

السكينة التي أردتها، وآمنت بتحققها يوما

حين غادرتها وغادرتني، أودعتها أمانة على هذا الطريق

لعلي..

لعلي استعيدها يوما، طاهرة كما كانت، بريئة كما استودعتها، على حواف الطريق الذي تضربه أرجلكم اليوم.

(3)

بثياب سوداء، خرجنا عام 2003 تحت ذات الرايات المخبئة منذ آخرمسير عاصف عام 1977، يظللنا صوت الرادود وطن رحمه الله، يشدو لعودة الأهل إلى قتلاهم يوم الاربعين، من شعر عبد الحسين ابو شبع، الباكي:

من يوم عنك مشينه

لليوم والحرگة بينه

خرجنا من طرف البراق نحو الصحن الحيدري، نودع الأب في مسيرنا نحو الابن، خرجنا من “العگود” التي استيقضت بعد غفوة وتستر، دلفنا إلى شارع الصادق، ثم نحو الصحن، استدرنا عبر شارع زين العابدين وصولا إلى “الگراج” القديم، لنتفرق كل يسري بسبيله نحو الموكب الذي نصب على عجل في خان الربع، بت ليلة يتيمة هناك، ثم عدت لمواصلة المسير صحبة أبي الذي كان يركض في مشيه كعادته، احاول مجاراته، وهو يسخر مني قائلا: (امشي، كنت بعمرك انهب الطريق مشيا كسيارة شوفرليت)، وكنت أشعر أنه يريد أن يصل بأسرع وقت، شوق ولهفة للراقد في كربلاء.

(4)

كان اصطفاف موكب أهل النجف نهار الاربعين مهيبا، الرادود ابو حبيب، طاهر أمين شلاش، يدور على الجوقات واحدة واحدة، يعلمنا كيف نردد “المستهلات” التي كتبها الشاعر علي التلال رحمه الله، بوزن ثقيل، لم تعتد اسماعنا الغضة اداءه بعد، يستعيده مرارا حتى نحفظه، ونحفظ اللحن، في مقدمة الموكب جوقتان لكبار السن، ووجهاء النجف، يرددون بيتي شعر للمرحوم عبد المحمد، بالفصحى، ذات الابيات التي كانوا يرددونها طوال تلك السنين المنصرمة، علنا، ثم في قلوبهم منذ السبعينات:

إن أبناء أمير المؤمنين

زحفت للسبط يوم الاربعين

فيجيب الاخرون:

نتحدى الموت في مر السنين

نبذل النفس فداء للحسين

وحين وصلنا باب القبلة، ترك الجميع الشعر، وأخذوا بالصراخ يا حسين، والأكف تهوي على الرؤوس، والدموع مدرارة، لا اذكر أنني بكيت بحياتي مثل بكائي تلك السنة، قلب عامر بالرجاء، والحزن، والطمأنينة، والتطلع نحو المستقبل المرتكز على جذر عميق، كانت آخر مرة يقرأ فيها وطن للاربعين، بعدها توفي سعيدا.

(5)

أيها السائرون، تركتُ طريقكم منذ سنوات للزوابع التي في صدري، ولكن قلبي مودع على الطريق، لعلي استعيده منكم ذات يوم، رويدا رويدا، الله الله بنوايانا وقلوبنا الكسيرة التي ترافقكم، الله الله بذاكرتنا التي اعطبت، ولمّا تزل غضة على الطريق، كلها رجاء..