علي المعموري
تضم الحضارة ــ كمنجز أنساني ــ عدة مستويات تتمظهر عبرها، بعضها غير منظور، غير مادي، كالقيم، والبعض الآخر منظور، كالعمارة.
وقد تميزت الحضارات التي قامت على أرض العراق ــ التي تعد الدولة العراقية وريثة لها بشكل أو بآخر ــ بأنها قامت على أساس الدولة المركزية، كأي دولة نهرية أخرى، سواء في العصور الموغلة في القدم أيام الحضارات الأولى، مرورا بالتطبيقات المختلفة للحكومات الاسلامية، وصولا إلى العصر الحديث.
ومن الملاحظ قديما، قبل عصرنا الحاضر الذي وصل الحد فيه إلى أن العالم صار يقتحم حياتنا عبر هذه الشاشة الصغيرة التي بحجم الكف، الأمر الذي كان مختلفا حتى سنوات ليست بعيد، حينما كانت عاصمة الدولة، أي دولة كانت، تتخذ موقع المُلهم لبقية أنحاء الدولة، بما تشكله من نقطة مركزية لتجمع النوابغ الذين يظهرون في هذه الدولة، والاغنياء، والطبقة السياسية المتنفذة، وعبرها يلج العالم إلى مواطني الدولة، وعبرها يخرجون هم إلى العالم.
لهذا كانت العواصم تشكل نموذجا للتماهي، والتقليد يتمدد إلى بقية أنحاء الدولة، سواء بعمليات تحديث القيم عبر آليات المثاقفة، أو عبر الهيمنة السياسية للعاصمة، بالتأكيد يوجد نماذج لم تكن طيعة وقابلة لان تفقد ذاتها لصالح العاصمة، ولكنها لم تكن قاعدة قدر ما كانت شذوذا.
سأتطرق هنا إلى ملاحظة بسيطة تأخذ جانبا من ولعي بالعمارة، واهتمامي بالمنجز المعماري العراقي كدلالة على استقرار، أو هيجان السياسة.
ففي بغداد، يمكنك ان تلاحظ في بعض المناطق القديمة التي سكنتها النخب شكلا معينا من عمارة البيوت، يختلف سمته من منزل إلى آخر، ولكن تفاصيله الأساس واحدة، أعني خصوصا البيوت التي بنيت بين الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، المنازل التي يمكن لك أن تراها ممتدة على طول شارع أبي نؤاس في الكرادة والجادرية، وعلى ضفتي دجلة في الاعظمية والكاظمية، ومناطق أخرى من بغداد، وهي منازل بنيت بالطابوق البغدادي المميز، الذي لا تكسى جدران المنازل الخارجية معه بالاسمنت وما شاكل من مواد البناء (لا تلبخ)، ولا تصبغ، منازل بنيت سقوفها أيضا بالطابوق والجسور الحديدية (الشليمان)، أبوابها وشبابيكها كانت من الخشب، وهذه المنازل الفارهة اقتصر بناءها في ذلك الوقت على الأثرياء، والمتنفذين في الدولة الحديثة التي لا تزال محدودة الموارد، وهؤلاء يتمركزون في العاصمة، حتى الاثرياء من خارج بغداد، كانوا يأتون إليها، ليستعرضوا ثرواتهم ونفوذهم بطرق عديدة أولها تلك البيوت، ولن تجد نماذج كثيرة منها في بقية المحافظات.
ولكن نمطا جديدا للعمارة بدأ يشيع في بغداد ربما نهاية الخمسينات وما تلاها، حتى منتصف السبعينات ربما، دخلت فيه مواد بناء جديدة، بعد أن زادت الثروات العامة ــ لو صح التعبير ــ وظهرت الطبقة المتوسطة بشكل واضح، نتيجة للتوسع في القطاع العام، وزيادة الموارد المالية للدولة، هذه المنازل بنيت سقوفها بالخرسانة المسلحة، وتميزت بشرفاتها البارزة الخرسانية بسمك (10سم) حول المنزل، المرتكزة على أنابيب حديدية غليظة، ناهيك عن أبوابها الحديدية، وشبابيكها الحديدية المحاطة بمربعات بارزة، وجدرانها المكسوة بالاسمنت، والمصبوغة بلون واحد، هو البني الفاتح وتنويعاته (يسمى في العراق: تبني، من التبن ولونه المميز).
ولأن هناك توسع في عدد القادرين على البناء كما ذكرت، ولأن الدولة صارت أكثر حضورا في حياة المواطن، ولأن السلطة السياسية صارت أكثر قوة، وأكثر هيمنة وسطوة، عبر مركزيتها الشديدة، فإن بغداد بدأت تصدر نمط عمارتها الجديد إلى المحافظات الأخرى، وصرت تجد هذه المنازل، ذات الأنابيب، البنية اللون، في كل محافظات العراق، (على الاقل لاحظت أربع محافظات يوجد فيها هذا النمط من العمارة، في مدينتي النجف، وكربلاء، والحلة، ومؤخرا وجدت نماذجها العديدة في أربيل، وهذه هي المحافظات التي زرتها).
ان هذه العمارة انتشرت بقوة، ولم يكن بالإمكان مقاومتها حتى في المدن التي كانت عصية على التثاقف مع قيم بغداد، كالنجف، التي ظلت حتى زمن قريب متمنعة على أي قيم لا تتساوق وقيمها الخاصة المختلفة عن قيم ما جاورها من محافظات، الأمر الذي تطرقت له في كتابات سابقة.
وحتى في العقدين المجدبين، الثمانينات والتسعينات، من بغداد نفسها شاع نمط عمارة السقوف مزدوجة الأبعاد (دوبل فوليوم)، ثم تمدد إلى بقية المحافظات.
أما اليوم، وبغداد في أضعف حالاتها، ورغم بقاء النظام المركزي على حاله تقريبا، إلا ان السلطة السياسية باهتة، وانتقلت مراكز القوة في صنع القرار السياسي من بغداد إلى مناطق أخرى في العراق، وصارت العمارة في بغداد (هرجة بربدة) كما يقول أهلنا، في ظل هجمة صفائح الالومينوم، والذوق السائب في البناء، فقد فقدت بغداد ذلك التأثير الذي امتلكته يوما، في جملة أشياء أخرى كثيرة فقدتها.
الموضوع يمكن ان يكون طويلا، ولكني أطلت بما يكفي.
[الصورة المرفقة لبيت من بغداد يمثل النموذج الاول من البيوت التي ذكرتها]
صديقي الكريم الاستاذ علي المعموري ..ذكرتني مقالتكم الراقية بالعقد المجدب الثاني وفي جلسة كان حضوري لها قسريا ومحاولة مني لايجاد بديل لمغادرتها .شرعت بالحديث عن بغداد واهميتها القيمية .في ذلك الحين كان وهج بغداد الحضاري قد توشح بكثير من الظلمة ولم تكن حياتنا مضاءة الا عبر ذكريات طفولة بغدادية وملامح شباب تعلق بنهايات فرح بغدادي ملون ومن ذلك دار اهلي في محلة نجيب باشا /الوزيرية الذي سكنوه عام 1948 وهو قريب جدا في ملامحه العمرانية من الصورة المرفقة وغادرته الى سكني الحالي عام 1984, ومنذ ذاك الحين كنت على يقين ان حقبة من الاعياء واللاجدوى قد حلت وان بغداد ستكون من ضحاياها …..
استاذنا د. الجادر، جزيل الشكر لمرورك الكريم، وبالفعل، فبغداد كانت أول ضحايا اللاجدوى التي دخلنا في دواماتها المتعددة، وحتى في هذه المأساة، كانت بغداد المدينة التي تلتها مدن أخرى عراقية في فقدان ذاتها لصالح ذوات بديلة غير متسقة. دمت في أمان ومحبة