أرشيفات الوسوم: جامعة النهرين

د. مها عبد اللطيف الحديثي

(1)

كيف ترثي معلما؟ أو معلمة بالأحرى؟ كيف تصف مشاعرك تجاه شخص أغلق الموت عينيه، بعد أن فتح هو عينيك على الدنيا؟

(2)

في المرحلة الأولى من كلية العلوم السياسية، كان ذلك عام 2005، سألنا الطلاب الأقدم عن طبيعة كل قسم من أقسام الكلية، وبدأ احدهم بتبيان الأقسام، كانت لدينا أربعة أقسام، النظم السياسية والسياسات العامة، السياسة الدولية، الاستراتيجية، العلاقات الاقتصادية الدولية، عادة يفضل الطلاب قسمي العلاقات أو السياسة الدولية والاستراتيجية، لأسباب متعددة، أما أنا، وما أن شرح لي الزميل المذكور معنى الاجتماع السياسي الذي تتركز الدراسة حوله في قسم النظم السياسية والسياسات العامة، إلا واخترته دون تردد، دون نقاش، هذا هو شغفي في الحياة، أن افهم كيف يتصرف الانسان ككائن سياسي.

(3)

ماذا يفعل المعلم؟ حسنا، كما قال مصطفى جمال الدين يوما:

تأتيه أجساد فيصنع روحها

والطين لولاه الكثير الأوفر

(4)

في المرحلة الثانية لدراستي البكلوريوس، كانت السنوات الأكثر التهابا في بغداد، قتل مجاني، سيطرات وهمية، وكنت قد تقدمت بطلب تأجيل السنة الدراسية، ووافقت الجامعة على طلبي، ولكنني وبعد مضي أكثر من شهر ونصف على بدء الدراسة قررت إلغاء التأجيل والعودة لقاعات الدرس، فذهبت إلى الكلية بهذا الطلب، يومها، وفي ذروة ذلك الخبل الطائفي، رفض معاون العميد طلبي، وقال كلاماً مضمونه أنني اضحك على الحكومة، وحين كدت أن أيأس، ذهبتُ لها، وكانت رئيسة قسم النظم السياسية والسياسات العامة، قسمي، وأخبرتها بما قاله، سحبت نفسا من سيجارتها وقالت: مو بكيفه، طالب يريد يكمل دراسته يمنعه؟!! اللي يجي بهاي الظروف حتى يدرس متفضل اصلا، اكتب طلب، وكنت قد كتبتُ الطلب على ورقة هزيلة، فزجرتني وقالت: هي هاي ورقة؟! وناولتني ورقة بديلة كتبت بها طلب إلغاء تأجيلي، فأخذته وطارت به، وما هو إلا يوم وآخر، وإذا بها تأتي بموافقة إلغاء قرار مجلس الجامعة بتأجيلي، وتعيدني إلى الدراسة.

(5)

بعد كل تلك السنوات، لا يزال معاون العميد القديم يرفض طلب صداقتي على الفيسبوك، بينما أقف باكيا ناعيا للعظيمة التي كان أول احتكاكي بها أن لبت طلبي وهي دونه في الصلاحيات الادارية.

(6)

كانت المحطة الثانية مع بداية الفصل الدراسي الثاني، والدارسين في النهرين يعرفون أنها تعتمد نظام الفصول الدراسية، فندرس ثمانية مواد في الفصل الأول، وثمانية أخرى مختلفة عنها في الفصل الثاني، وفي الفصل الثاني، كانت محاضرة علم الاجتماع السياسي، وأستاذة المادة هي تلميذة أبو الاجتماع السياسي العربي، مؤسس قسم النظم السياسية في العراق، العلامة الدكتور صادق الأسود، وهي الأستاذة، الراحلة الكريمة.

ابتدأت اليوم الأول بفتح كتاب الدكتور الأسود (علم الاجتماع السياسي أسسه وأبعاده) ذهبت إلى الفهرس، وبدأت بتحديد المفردات التي سوف ندرسها من بين ما تضمنه هذا الكتاب الضخم، ثم انفتلت تدرس المواد محاضرة فمحاضرة، تقف بك على دقائق هذا العلم، تمنحك مفاتيحه، تفتح أبوابه المعقدة وتغوص بك وتغوص، تورد النظرية، ثم تنثني لشرح تطبيقاتها، وفي العراق خصوصا، ولا زال شرحها لتأثير الفراتين على مزاج العراق يدور في رأسي ليفتح لي الكثير من مغاليق هذا البلد وناسه، وفي غضون شرحها ذاك، تنفث دخان سيجارتها، واحدة تلو الأخرى، غاضبة من الخبل الذي يضرب بلدها، بلدها الذي تعشقه وتهيم به حبا، حتى يبلغ بها السخط أوجه، فتتوقف عن الكلام وتخرج، ثم تعود لتكمل المادة دون كلل أو وجل.

(7)

كانت حريصة، حريصة على كل شيء مثل استاذة مثالية تجد كل الطلبة أبنائها، وممتلكات الكلية ممتلكاتها، اذكر مرة أنني دخلت معها مكتبها بعد المحاضرة، أول ما دخلت، انتبهت أن المدفأة قد أحدثت حرقا في خزانة خشبية في المكتب، يبدو ان احدهم نسيها حين قطعت الكهرباء وخرج، فدخلت المنظفة دون أن تدري فأزاحتها وألصقتها بالخزانة، ليحدث ما حدث، بقيت تردد: لااااا مو خوش خبر مو خوش خبر، تأسفت كثيرا لتلف جزء سطحي من الخزانة، أشعلت سيجارة، ثم أضحكها أحد الطلبة بنكتة ما، وتهلل وجهها السمح لما قاله ابنها الطالب.

(9)

لم تكن تنادينا بغير: أبنائي.

(10)

في الماجستير، بدأت علاقة أخرى معها، مختلفة، وإن كانت بذات الانضباط، درستنا مادة المنهجية وشيء من التذكير بعلم الاجتماع السياسي، وكنتُ قد فهمت مزاجها وعرفت ما تريده، وصرت انصح طلبة المنافسة على الدراسات العليا بما يفترض أن يركزوا عليه حينما يقرأون كتاب الدكتور الأسود لأجل الامتحان التنافسي، على أي حال، كانت كما عهدتها، ممتلئة علما ومحبة بحزم، وكان السخط قد بارحها بدرجة كبيرة مع هدوء البلد، وعودة الحياة، يا الله لكم احببت أن اجلس أمامها كتلميذ استمع منها واتعلم.

(11)

دارت السنتين، وصارت عضوا في لجنة مناقشتي رسالتي، وفي تلك المناقشة، قالت لي من أول لحظة: هذه أطروحة دكتوراه وليست رسالة ماجستير، ولو بيدي لجعلتها منهجا دراسيا، وانصح كل الطلبة الجالسين في القاعة بقرائتها، وانفتلت تناقشني بمحبة وحزم، ومن بين أساتذتي الأجلاء الذين ناقشوني، كانت هي أكثر من ألححتُ بنقاشه، لسبب وحيد، كانت هي أكثر من أردت أن لا أبدو مخطئا أمامه، ألححتُ حتى قالت لي وهي تحضك بمحبة، وتنظر لي بفخر: كافي علي تعبتني، فصمتُّ.

(12)

كانت مهابة، لا يجرؤ أحد من طلبتها على الكلام بما يغضبها، بعضنا ـ طلبتها ـ نال الاستاذية، وبقي يخاف منها، يخاف بمحبة ومهابة.

(13)

حين عرفت أنني سأزور لندن، اتصلت بي وقالت إياك أن تأتي ولا أراك، واتفقنا، ولكن حظي السيئ، وقصر زيارتي منعتنا من اللقاء، فبقيت حسرة تعتصر قلبي لأنني لم أرَ وجهها السمح للمرة الأخيرة قبل أن تغادرنا إلى بارئها.

(14)

خلال سنوات عمرها، درست المئات، وأشرفت وناقشت المئات من أطاريح الدكتوراه، ورسائل الماجستير، فضلها في أعناق المئات من الطلبة الذين نهلوا العلم بين يديها، كانت أمينة على تراث أستاذها الدكتور صادق الأسود، مبدعة فيما تكتبه أو تدرسه، ولكن ما أتيه به فخرا هو آخر رسالة كتبتها لزميلي الدكتور حسن سعد، قالت له لا تنسى أن توصل سلامي لعلي المعموري والدكتور نصر العزيز، انت وعلي ونصر افتخر بكم رغم اعتزازي بالاخرين، انتم الأقرب لقلبي أبنائي الأحبة.

كانت هذه آخر كلماتها له، ولي، آخر ما كتبته: للأسف ما مكتوب نتشاوف.

اي والله دكتورة للأسف