أرشيفات الوسوم: الشعر

العقل الشعري والعراقيين

علي عبد الهادي المعموري
حسنا، بداية لابد من أن أوضح شيئا مهما، أنا من الذين صرعهم الشعر، أنا عراقي ابن عراقي ابن عراقي، الشعر جزء من زادي ومما اتقوت به للمرور عبر هذه الحياة الملغومة آمنا، اقرضه احيانا مثل أي عراقي آخر دون أن ادعي جبروته، ولعلي أزعم بأنني من بين أكثر الناس تفهما وتقبلا لنرجسية الشعراء وتيههم وظن الكثير منهم بأنهم يمسكون حقيقة كل شيء، وفي الواقع، ومع الاقرار بنسبية الحقائق، فإنهم لا يعرفون سوى الصورة التي يريدونها عن الحقيقة، الصورة التي اصطنعها عقلهم الشعري، وتضخمت حتى ملئت ارواحهم وصيرت الكثيرين عدائيين في تسويق صورتهم عن الحقيقة، والدفاع عنها، وسلها في وجه الآخرين مثل منشار يعمل بالديزل.
لماذا يحدث هذا؟ إنه العقل الشعري، عقل بطبيعته عاطفي، حساس، يلتقط ما لا يدركه الاخرون، الخفي الذي لا ينال، ولكنه وهم في ذات الحين، العقل الشعري مندفع، متهور، اناني، تتملكه نشوة الانا الاعلى، هوس بالمحال، عقل يركز في الضيق ويعزب عن العام الأشمل المتشج مع كل شيء، عقل غير تحليلي، غير استقرائي، مكينة تعمل بالحدس، بالتخيل، بآلية من احتمال يُظن به الشمول وهو جزئي، منقطع، غير قادر على تجميع الاسباب والعودة بها الى المسببات، هو عقل فرداني، يطفو على الجمع ينظر له من عليائه ولا يجيد تحليله، لكنه يستطيع أن يبتدع له وصف يعجز العقل ويدهش الجنان، يطير بك ولا يحط، ولكنه هباء، مخدر فيما يبدو كفنجان من الكافايين.
هل لاحظت؟ أنا اتحدث عن العقل الشعري وليس عن الشعراء، قد تجده في شاعر، وقد تجده في ميكانيكي، أو طبيب، أو استاذ جامعي، العقل الشعري أبعد ما يكون عن العقلانية، لا يعرف الحد الوسط، هو ابن التهور، لهذا يكون الشعر عنصرا استثنائيا، جارفا، مبهرا، لكنه لا يبني ولا يصنع الحقيقة.
لا اذكر الان بالضبط من قال أن العقل العراقي عقل شعري، بعكس العقل المصري الذي هو عقل تحليلي، لهذا فشلنا في بناء الدولة، من يصنع الرأي العام لدينا شعراء، وكينونة الشعر أبعد ما تكون عن النظام، والتوازن، والمرونة، والنسبية، التي هي عماد عناصر الدولة، لهذا لم نجد طه حسين عراقي، ينقد بعمق، ويفند بتحليل، وجدنا شتامين، الحياة بالنسبة لهم أسود أو أبيض، وادعاء مطلق بامتلاك الحقيقة، الحقيقة المتخيلة.
حبايب الروح الشعراء، بعضكم هنا أعده من خاصة أهلي، ممن لا اصبر على زعلهم حتى أنني اتجنب الخوض أمامهم بالكثير مما اتبناه من آراء، لخوفي من مجرد زعلهم وتكدير خواطرهم، لكن، بعض رفاقكم لا يعدون ما قلته، ينفتلون في الطرقات يتعاملون مع كل شيء بشكل شخصي، يظنون أنهم يحملون مهمة إصلاح العالم وكشف زيفه لتقديمه على طبق الحقيقة المطلقة للعامة، كأنهم انصاف آلهة مكلفين بقيادة البشرية نحو خلاصها، يريدون الكتابة والحديث حول كل شيء، وكل ما يمر في طريقهم يبدو وكأنه موجه لهم، كل الاخرين مزيفين وهم التجلي للمضمر الاصيل، الاخرون على خطأ وهم الذين مخروا عباب كل صحيح مطلق، الاخرون تملكهم العفن وهم الاطهار، بنو آدم جبناء ناقصي الرجولة وهم بشجاعة الف عنترة وعزم ألف هرقل، اذا قال امرئ قولا وجدوه موجها نحوهم، فيهبون لطحنه كأن أُسد نفّرتهم من مراتعهم.
يظنون أنهم قادرين على فهم السياسة، والدين، والمجتمع، وكل ما بين سماء الله وارضه، لا يعرفون حدودهم وقدرتهم، وإلا بربك شخص قضى عمره يعارك حماسة البحتري، ومساجلات المتنبي، ونفاجة سعدي يوسف، واقتحامية النواب – سلام الله عليه – كيف يعرف الفرق بين النظام والمؤسسة؟ بين الدولة والسلطة، بين التنظيم والنظام والحكومة والنظام السياسي، مفهوم المثقف لديه ملتبس، كيف لمنظّر أدبي أن يفتي في السياسة، مثل هذا، لن يحاورك، لن يفهمك، لانه لا يريد ان يفهم او لان ادوات فهمه مختلفة، يريد فرضها عليك لا يتفق الشعر والنظام، أي نظام، الشعر ابن الفوران، ابن المسيل الجارف، الشاعر ابن الصدام، يريد أن يجرك إلى النزال لاجل النزال.
الذين تملكهم العقل الشعري لا يستطيع احدهم أن يحاورك بأدب دون استخراج الشتائم التاريخية من كيسه، دون عبارات جاهزة واتهامات مسلوقة الف مرة، يطلقها كبصقة في وجهك بغل، يشتم فكرتك حول التاريخ ويعيرك بها، على الرغم من أنه في الواقع ابن سردية تاريخية مضادة لا اكثر، لن يتمكن من كتابة شيء دون شتيمة وتخوين، هذا قالب جاهز يمكنك ان تضع فيه الكثير من ثوار الفيسبوك.